بيروت في صيف 2020 على عتبة تكرار مشهد إعتقد كثيرون في لبنان والخارج أنه إنطوى منذ خمس سنوات. لكأن حكومة حسان دياب لا تكفيها أزمة لبنان الإقتصادية والمالية التي إنفجرت بوجهها وقبلها بوجه حكومة سعد الحريري، ثم جاء فيروس كورونا ليزيد من وطأة الأزمة، حتى تأتي حالياً قضية النفايات لكي ترتب وقائع سياسية وبيئية وإجتماعية جديدة.
ثمة إستنفار سياسي وبيئي بلغ ذروته في الأيام الأخيرة، وتجسد بسلسلة إجتماعات مكثفة شارك فيها رؤساء الجمهورية ميشال عون والمجلس النيابي نبيه بري والحكومة حسان دياب وعدد من الوزراء المعنيين، بالإضافة إلى المعاون السياسي لبري النائب علي حسن خليل والمعاون السياسي للسيد حسن نصرالله الحاج حسين الخليل. أما حصيلة هذه الإجتماعات حتى الآن، فهي لا تبشر بنتائج إيجابية.
عندما إفتتح مطمر الكوستا برافا في العام 2016، أعطي صفة “المؤقت” في إنتظار أن تجد الدولة اللبنانية حلاً دائماً، من ضمن سلة حلول بينها إطلاق مناقصة لمعامل التفكك الحراري، وذلك خلال ستة أشهر، وصرف الحوافز المالية للبلديات المعنية. كانت مساحة مطمر الكوستا برافا تقدر قبل أربع سنوات بنحو مائة وخمسين ألف متر مربع، وكان مقدرا أن “يستضيف” المطمر الناشىء حوالي الألف طن من النفايات يومياً من بيروت والضاحية الجنوبية وجزء من جبل لبنان الجنوبي (الشويفات والحدث وبعبدا)، لكن سرعان ما تقرر توسعة المطمر أفقياً بالردم في البحر، ليصل إلى حوالي مائتين وسبعين ألف متر مربع، خصوصاً بعدما أضيفت إليه معظم نفايات جبل لبنان الجنوبي (قضاءا الشوف وعاليه وبعض قضاء بعبدا).
وفق رئيس إتحاد بلديات الضاحية الجنوبية محمد درغام، فقد إستنفد مطمر الكوستا برافا قدرته الإستيعابية، وبات عاجزا عن إستيعاب النفايات وتحول بمثابة قنبلة موقوتة، وقال وزير لبناني معني بالملف إن المطمر توسع أفقياً (حوالي 300 ألف م2) كما توسع عامودياً ليتجاوز إرتفاعه الـ 12 متراً، وإذا مضينا بهذا الإتجاه، هناك خطر حقيقي على حركة الملاحة في مطار بيروت الدولي، فضلاً عن الآثار التي تهدد المنطقة المحيطة بالمطمر والبحر، وقال لموقع 180 بوست إن الحكومة مطالبة بإيجاد مخرج سريع “لأن إتحاد البلديات أبلغنا رسمياً قراره بإقفال المطمر في مهلة أقصاها نهاية هذا الشهر”.
وما يسري على مطمر الكوستا برافا يسري أيضاً على مطمر برج حمود الذي تجاوز قدرته الإستيعابية أيضاً وثمة صرخة من البلديات وصيادي الأسماك ونواب المنطقة من تداعيات سلبية، مهددين بالتوقف عن إستقبال حوالي ألف ومائتي طن يومياً من نفايات عدد من أقضية جبل لبنان الشمالي.
وحالياً يجري تركيز الأنظار على مطمر الناعمة بوصفه الخيار الوحيد المتاح، وذلك على مسافة أربع سنوات من إقفاله.
وكانت بلدة الناعمة التي تبعد عن بيروت أقل من خمسة كيلومترات، من جهة الساحل الجنوبي (قضاء الشوف) قد تم إختيارها في العام 1998 لانشاء مطمر للنفايات لمحافظتي بيروت وجبل لبنان، على أساس أن يطمر فيها مليونا طن من النفايات خلال فترة عشر سنوات، فكانت النتيجة أن طمر فيها وفي القرى المجاروة (عين درافيل وبعورته) أكثر من 19 مليون طنٍ من النفايات حتى العام 2016، أي على امتداد 18 عاماً.
ووفق المعلومات المتداولة، فإن وزير البيئة دميانوس قطار جرّب إقناع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط بإعادة فتح مطمر الناعمة الذي كان قد أقفل في العام 2016، بعد سلسلة من الإحتجاجات الشعبية، إلا أن جنبلاط رفض التجاوب مع قطار. وعلم أن الرئيس نبيه بري تدخل سياسياً في محاولة لإقناع جنبلاط بالتجاوب، لكن ضمن سقف زمني، تسعى خلاله الحكومة إلى تنفيذ خطة للتعامل مع قضية إدارة النفايات الصلبة.
وتجري محاولة إغراء جنبلاط بالحصول على سلسلة من الحوافز السياسية مقابل موافقته على إعادة فتح مطمر الناعمة، وبينها أن يكون شريكاً في التعيينات الإدارية في الفئة الأولى، حيث كانت تنوي الحكومة الحالية تعيين قائد جديد للشرطة القضائية ومدير عام جديد لوزارة الصحة من المحسوبين على النائب الدرزي طلال ارسلان، بحكم مشاركته في الحكومة من خلال وزير درزي محسوب عليه (رمزي مشرفية) ووزيرة درزية مستقلة (منال عبد الصمد)، لكنها تراعي في خياراتها حساسية الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
وإذا صحت فرضية المقايضىة، فقد طرح أحد الوسطاء على رئيس الحزب التقدمي أن يختار من يمثله في أحد الموقعين، أي قائد الشرطة القضائية ومدير عام وزارة الصحة، لكن جنبلاط رفض المقايضة، الأمر الذي جعل البعض يطرح “تلزيم” هذين الموقعين لجنبلاط وليس أحدهما، لكن يبدو أن جنبلاط يدرك أن عواقب الموافقة على فتح مطمر الناعمة مجدداً، قد تشعل حراكاً في منطقتي الشوف وعاليه في جبل لبنان الجنوبي يمكن أن ترتد عليه سلباً، في الإنتخابات النيابية المقررة في ربيع العام 2022، لذلك، قرر رفض كل الطروحات الهادفة إلى إعادة فتح مطمر الناعمة.
سبقت ذلك محاولة أخرى، لكن في السياق ذاته، فقد حاول رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ممثلا بوزير الطاقة ريمون غجر، إقناع جنبلاط بتعديل موقفه الرافض لإقامة سد بسري المائي في منطقة الشوف، لكن جنبلاط كان حاسماً بتبنيه وجهة نظر المجتمع المدني الرافضة لإنشاء السد، وقال إن الناشطين في الحزب التقدمي الإشتراكي سيكونون في صلب أي حراك رافض لإنشاء السد، علماً أن جنبلاط كان قد وافق على إشناء السد في الحكومات السابقة التي كان ممثلاً فيها بعدد من الوزراء.
ماذا يعني ذلك؟
إذا نفذ إتحاد بلديات الضاحية الجنوبية المحسوب على حزب الله قراره بإقفال مطمر الكوستا برافا نهاية هذا الشهر، والإكتفاء فقط بإستقبال نفايات الضاحية الجنوبية في مطمر يملك قدرة إستيعابية محددة لجهة مطار بيروت الدولي، فإن ذلك، سيعيد مشهد تكدس النفايات في شوارع العاصمة في مطلع آب/أغسطس المقبل 2015 وما إستولده من حراك كبير بعنوان “طلعن ريحتكم”.
هل ثمة بدائل حكومية أخرى؟
حتى الآن، تشي كل المعطيات أن الأزمة ستنفجر في غضون أسابيع قليلة، والخيارات محدودة.. لكن ردة فعل الشارع ستكون مرهونة بمسار كورونا المتفاقم في هذه الأيام، وبمدى قدرة الناس على تحمل مشهد النفايات وقطع الكهرباء في آب اللهاب؟