يتحرك الملف الايراني بشكل دراماتيكي، بدءاً من قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدانة إيران في الثامن من يونيو/حزيران الجاري، وما رافقه من ردود أفعال سريعة من طهران حيال مدير الوكالة رافائيل غروسي وسلوكه الذي لا ينسجم مع محاولة إضفاء مصداقية على عمل الوكالة، وبالتالي لا أعتقد أن ترميم العلاقة بين غروسي وإيران سيكون ممكناً في المدی القصير، اللهم الا اذا تم التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا، وهذا الأمر لا يبدو أنه سهل المنال.
في المقابل، يتحرك الملف الإسرائيلي هذه المرة من زاوية حضوره في قيادة العمليات الوسطی للجيش الأمريكي المتمركزة في منطقة الشرق الأوسط بعدما كان سابقاً ضمن قيادة العمليات الأوروبية. هذا الحضور الجديد يعطی إسرائيل مهمة محاولة ملء الفراغ الإستراتيجي الأمريكي في المنطقة من خلال صياغة منظومة أمنية إقليمية تكون هي نواتها المتحركة في الوقت الذي تم طرح مشروع قانون في الكونغرس الأمريكي يدعو إلى استراتيجية دمج الدفاعات الجوية لعدد من الدول العربية وإسرائيل من أجل التصدي لما أسماها “اعتداءات ايران”، طالباً من البنتاغون تحضير استراتيجية عمل مشتركة ووضع مقاربة دفاعية لنشر قدرات جوية وصاروخية دفاعية لحماية المنطقة من “الاعتداءات الايرانية” و”المجموعات المدعومة من طهران”!
ربما تكون إيران بحاجة إلى ذريعة لمهاجمة اسرائيل، كما ردّد معاون الرئيس الايراني محسن رضائي؛ وهي ستستغل جميع الامكانات المتاحة لمواجهة التحرك الاسرائيلي الجديد بما في ذلك تداعيات الحقل الغازي المشترك مع لبنان، أي حقل “كاريش” المتنازع عليه والذي يعتبر مهماً لإعتبارات طاقوية
أمام هذين الملفين، يبدو أن إسرائيل تتحرك علی خط الملف الإيراني خصوصاً بعد الزيارة المثيرة للجدل والمستفزة التي قام بها رافائيل غروسي إلى إسرائيل قبل أيام من موعد انعقاد اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية في فيينا؛ في محاولة منه لإضفاء مصداقية ما لإسرائيل باعتبارها المكان الذي يمدّ الوكالة بالتقارير والمعلومات بشأن الدول الأعضاء في هذه الوكالة، برغم عدم عضوية إسرائيل في الوكالة وعدم إنضمامها إلى معاهدة حظر الإنتشار النووي ورفضها السماح لمفتشي الوكالة بتفقد منشآتها النووية!
لا توجد معطيات تشير إلی أن طهران أسيرة ضغوط قصوى تمارسها عليها اسرائيل والولايات المتحدة؛ بل على العكس من ذلك؛ ربما تكون بحاجة إلى ذريعة لمهاجمة اسرائيل، كما ردّد معاون الرئيس الايراني محسن رضائي؛ وهي ستستغل جميع الامكانات المتاحة لمواجهة التحرك الاسرائيلي الجديد بما في ذلك تداعيات الحقل الغازي المشترك مع لبنان، أي حقل “كاريش” المتنازع عليه والذي يعتبر مهماً لإعتبارات طاقوية تجعل إسرائيل مصممة علی التنقيب والإستخراج من هذا الحقل المشترك حتی قبل تسوية النزاع الحدودي البحري مع لبنان.
لا أريد الدخول في جدوی التعاون الإسرائيلي ـ العربي الموجه ضد إيران لكن الموقف الذي أبداه أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت عبد الله الشايجي جدير بالانتباه عندما قال إن التحشيد الإسرائيلي الحالي ضد إيران “ليس من مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي وليس من مصلحة هذه الدول ان تكون جزءاً منه”؛ وزاد على ذلك “أن الحديث عن ناتو عربي خليجي بوجود إسرائيل هو مجرد خيالات لدی إسرائيل التي تستغل تعثر الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط”. وتساءل الشايجي عن جدوی التصعيد مع طهران “في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أن اسرائيل لن تضحي بأي جندي من أجل حماية الخليجيين”.
يؤشر ذلك كله إلى تبلور مناخات مواجهة قابلة للتصعيد بين ايران وإسرائيل تُسهم الولايات المتحدة بتأجيجها نتيجة سياساتها الخاطئة في الشرق الأوسط. صحيح أن إسرائيل اقتربت من الحدود الإيرانية في بعض القواطع؛ لكن الصحيح أيضاً أن إيران موجودة علی مرمی حجر من حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة وتتربص بإسرائيل الدوائر إن في المحيط السوري أو اللبناني أو الفلسطيني. واذا كانت إسرائيل ترغب بتوريط بعض الدول في مخططاتها مع إيران؛ فان ايران “مستعدة ـ كما تقول ـ للمنازلة” التي تستعد لها منذ أربعة عقود من الزمن.
ليس من مصلحة دول المنطقة والاقليم بشكل عام نشوب حرب بين طهران وتل ابيب لأنها – كما قلت في مقالة سابقة – سوف لن تنحصر في حدود معينة وانما ستشمل كافة دول الاقليم اضافة إلی انها ستخلق معادلة جديدة للامن والردع والاشتباك؛ اذا لم تعمل علی خلق “شرق أوسط جديد” لا يكون هذه المرة علی المقاسات الأمريكية والإسرائيلية إنما علی مقاسات اقليمية تأخذ بالإعتبار تداعيات الحرب الأوكرانية والأزمة الاقتصادية التي تجتاح الدول الغربية وتحديداً الاوروبية منها اضافة إلی حاجة الاقليم للأمن المستدام الذي بالتأكيد لن يكون فيه محل لإسرائيل.
هذا التصور تدركه الدولة العبرية جيداً ولذلك تسعى لإشراك دول عدة في الشرق الاوسط في أي مواجهة محتملة مع إيران من أجل تقسيم الضرر على الجميع وحصر الفوائد بها وحدها.. ولا أعتقد أن هذه النقطة الاستراتيجية غائبة عن أذهان معظم دول المنطقة.