في محاولة لوقف دوّامة العنف، عُقدت في باريس، بمبادرة من الأميركيين والفرنسيين، سلسلة اجتماعات ما بين 26 تمّوز/يوليو و8 آب/أغسطس 1983، في منزل فرنسوا دوغروسوفر، في حيّ كي برانلي. الهدف منها إيجاد حلّ لمنطقة الشوف. أوفدتُ إلى هذه الاجتماعات وديع حداد مستشاري لشؤون الأمن القومي مع سفيرنا فاروق أبي اللمع. حضرها أيضاً روبرت ماكفرلين ووليد جنبلاط مع ثلاثة من مستشاريه. كما توجّه إلى باريس، بناء على طلب واشنطن، أوري لوبراني منسّق الأنشطة الإسرائيلية في لبنان، ليتابع المباحثات عن كثب وإعلان إلتزام بلاده نتيجتها إن بدا ذلك ممكناً. ظلّ لوبراني على اتصال دائم بدوغروسوفر. كانت الجلسة الأولى حامية الوطيس. وليد جنبلاط، ظنّاً منه بأنه مضطرّ إلى إظهار تميّزه وتأكيد إرتباطاته بسوريا، عرض مجموعة من الشروط، مطالباً بالآتي:
- الإلغاء الفوري لاتفاق 17 أيار، كشرط مسبق لأي تدخّل من جيشنا.
- انسحاب غير مشروط للقوات اللبنانية من المنطقة (الشوف).
- إعادة إنتشار الجيش اللبناني على نحو يتيح للميليشيات الدرزية حريّة التحرّك.
- تشكيل حكومة إتحاد وطني تكلَّف تعديل النظام السياسي اللبناني برمته.
بعد مباحثات طويلة، بفضل الجهود الفرنسية – الأميركية، إتخذ النقاش طابعاً أقلّ حدّة، بل شبه ودّي. توصّل المجتمعون إلى تسوية من 12 نقطة، سارعتُ إلى الموافقة عليها. بصعوبة كبيرة، حصلتُ على موافقة القوات اللبنانية على هذه المقترحات التي ذهب بها وليد جنبلاط إلى دمشق لعرضها على السوريين. أخذ الفرنسيون والأميركيون، الراضون جداً عن هذا الاتفاق، يحضّون سوريا وإسرائيل على تسهيل تطبيقه. وكان نصّ على:
- وقف فوري للنار.
- جمع السلاح ميدانياً.
- بدء حوار سياسي.
- إعادة إنتشار الجيش تبعاً لخطة متفق عليها.
عندئذ تسلمتُ من الأميركيين الرسالة الإيجابية التالية: “يبدو لنا أن الهمّ الأكبر لوليد جنبلاط هو الإنفصال عن السوريين، وإنشاء لجنة مع نبيه برّي وغيره من الزعماء السياسيين اللبنانيين لإعداد إصلاحات دستورية”.
لكن التوتر على الأرض ظلّ قائماً. في 10 آب/أغسطس 1983، بناء على قرار من مجلس الوزراء في اليوم نفسه، قصد ثلاثة وزراء هم عادل حميّة وبيار الخوري وعدنان مروة شيخ عقل الطائفة الدرزية محمد أبوشقرا في بعدران، في زيارة حسن نيّة، لمناقشة سبل المساعدة على التهدئة، فطوّقت المنزل عناصر ميليشيا الحزب التقدّمي الإشتراكي. أراد وليد جنبلاط إفهامنا ـ كما الشيخ أبوشقرا ـ أنه السيّد الوحيد والمحاور الوحيد في الجبل. أُفرج عنهم بعد ساعات، وفهم شيخ العقل فحوى الرسالة، فأعلن إنضواءه تحت لواء جنبلاط.
الأخطر كان التغيّر المفاجىء في موقف جنبلاط الذي أصدر، بعد يومين من عودته من باريس إلى دمشق، بياناً صحافياً بمساعدة وزارة الخارجية السورية، وزّعه على الديبلوماسيين المعتمدين في العاصمة السورية. على نحو مناقض تماماً لموقفه في اجتماعات باريس، أعلن عصيان الشوف ونصّب نفسه حاكماً عليه. جاء في البيان: “بقرار من الزعيم الوطني وليد جنبلاط، تشكّلت لجنة شعبية للإدارة المدنية لمنطقة الشوف. سوف تضم هذه اللجنة، التي هي مثابة هيئة عامة أو مؤتمر عام، فاعليات المنطقة ومجموعة من اللجان الشعبية المختارة من البلدات والقرى. وهي تضم أيضاً لجنة مركزية تتولى التخطيط والتوجيه”.
تلك كانت وثيقة ولادة الدويلة المعلَن عنها في دمشق، لم تتوانَ تلّ أبيب عن تشجيعها ما دامت تقيم، من جهتها، محميتها في جنوب لبنان.
في 28 آب/أغسطس 1983، حصلتُ على إثبات جديد على الطريقة التي كانت إسرائيل تحضّ بها على نزعة الحكم الذاتي الدرزي. يومذاك، طلب ريتشارد فيربانكس، معاون ممثل الرئيس (رونالد) ريغن في لبنان، مقابلتي على وجه السرعة. سلّمني وثيقة تبلّغها بالتلكس، عبارة عن رسالة إسرائيلية تطالب بمنح دروز الشوف وضعاً خاصاً، مثابة نوع من الحكم الذاتي. كانت هذه الرسالة تكرّر حرفياً المطلب الذي سبق أن نقله إليَّ في نيسان/أبريل ممثّلون عن هذه الطائفة، وتتطابق مع ما أعلنه جنبلاط من دمشق منتصف آب/أغسطس.
أضاف فيربانكس: “في حال موافقتكم، في وسع اسرائيل أن تستخدم نفوذها لدى الطائفة الدرزية لوقف المعارك الدائرة في المنطقة”.
أصابني ذهول تام. حلفاء سوريا يشنّون المعارك في الجبل، فيما إسرائيل تعرض مساعيها الحميدة! واشنطن تلعب حيالنا دور الناطق بلسان الإسرائيليين الذين راحوا يدّعون تمثيل الدروز اللبنانيين، بينما زعيمهم وليد جنبلاط يقيم في دمشق. يا له من لغز. الحال أن الأميركيين غالباً ما كانوا يعلنون أنهم يعارضون تقسيم البلاد، أو تجزئتها حتى إلى كانتونات.
أجبتُ بلهجة أجبرتُ فيربانكس على التراجع، زاعماً أنه يكتفي بدور الوسيط.
عدّت إسرائيل جوابي رفضاً للتعاون، فدفعنا ثمنه غالياً جداً بسبب ذلك.
الملك فهد: يبدو أن جنبلاط مرغم على ما يقوم به. ربّما هو مهدّد بالقتل. لكنه أظهر مرونة للحوار. طلبتُ من الرئيس الأسد أن يكون على إتصال بالرئيس الجميّل
لأيام خلت، 17 آب/أغسطس 1983، أوفدتُ مستشاري لشؤون الأمن القومي وديع حدّاد إلى السعودية. قابل الملك فهد والأمير سعود الفيصل والأمير بندر بن سلطان، إلى وزير الإعلام علي الشاعر. نقل إليَّ عن الملك قوله: “كان ثمّة إجماع على انتخاب الرئيس الجميّل، فلماذا يتنكّرون له الآن من دون إعطائه فرصة؟ ذكر لي أبوعمّار أن الشخص الوحيد الذي شدّ أزرنا هو الشيخ أمين. قال أيضاً: الحمدلله إنتُخبت أفضل شخصية في لبنان. السوريون قالوا الكلام نفسه. لماذا تنعكس الأحوال؟”.
أضاف الملك: “الأسد يلعب كما يريد. يرفض الحلّ السلمي من دون أي إمكان للحلّ العسكري. في مؤتمر فاس (1982) إقترحتُ عليه الانسحاب من لبنان، فقال إنه موجود بطلب منه. إقترحتُ مخرجاً هو إثناؤه في الجلسة الختامية على مشروع ريغن، وإعلانه أنه قرّر الانسحاب من لبنان. بذلك يجعل أميركا والعالم أمام مأزق. جوابه: إذا انسحبنا تحتلّ إسرائيل مكاننا. إتضح لي أنه قد تكون ثمّة أهداف لا نعرفها. هل من نيّة لتقسيم لبنان؟ لا يُطلَب من بلد محتلّ أن تكون الاتفاقات معه على المستوى المطلوب”.
قال لموفدي: “تريد سوريا الشعبين الفلسطيني واللبناني في يدها. كنت طلبتُ من الأميركيين عدم قطع إتصالاتهم بها، لكنها الآن تريد من الجميع أن يرضخ لها: الولايات المتحدة ولبنان وإسرائيل. تطلب إبطال الاتفاق وخروج إسرائيل بلا قيد أو شرط. كان الأسد قد أبلغ إليَّ موافقته على الانسحاب المتزامن. في رأيي الآن أن يستمر الحوار معه. يهمّنا لبنان قبل كل شيء، ولذا نتحمّل سوريا. هذا أقصى ما يتحمّله الإنسان. لعلّها توافق على شيء منطقي. يبدو أن جنبلاط مرغم على ما يقوم به. ربّما هو مهدّد بالقتل. لكنه أظهر مرونة للحوار. طلبتُ من الرئيس الأسد أن يكون على إتصال بالرئيس الجميّل”.
أضاف العاهل السعودي: “الأمير بندر سيذهب غداً إلى دمشق، وكنت تحدّثتُ مع الرئيس الأسد كي يستقبله. لعلّهم يدركون أن مصلحتهم في الاتفاق مع الأميركيين. لو انسحبت إسرائيل لما استطاع الأسد البقاء في لبنان. كل الدول العربية ستكون ضدّه”.
بالفعل، ذهب الأمير بندر إلى دمشق في اليوم التالي، 18 آب/أغسطس، وقابل الرئيس السوري. بعد أيام قليلة أوفدتُ وديع حدّاد مجدّداً إلى جدّة في 21 آب/أغسطس، للإطلاع منه على نتائج مسعاه موفداً من الملك.
لم تكن حصيلة الزيارة أحسن من ذي قبل. قابل موفدي الملك الذي أعاد تأكيد دعمه المستمرّ لي، كاشفاً أن التواصل مع الأسد لم يشِ بنتائج إيجابية تجنّبنا الأسوأ. عبّر عن ألمه لما يحدث في بيروت، وإنزعاجه من الرئيس السوري “لأنه لم يبرّ بوعده”. ثم قال: “سنحاول مع الأميركيين الضغط على إسرائيل للإبتعاد عن مساعدة جنبلاط وميليشيات الكتائب. ربّما يحاول الأسد أن يقول لهم إنه هو صاحب القرار. سنتركه لوحده. ليتدبّر أمره”.
ثم أضاف الملك فهد في معرض إنتقاده الضغوط التي تمارس عليَّ: “إذا لم يبقَ الرئيس الجميّل على رأس الدولة، ينتهي لبنان. لا أدري كيف يتصرّف السياسيون على نحو كهذا؟”.
إلا أن الأمير بندر كشف جوانب ممّا كان سمعه من الرئيس السوري: “بعد محاضرة عن النقص في الحسّ الأميركي، قال إن الأميركيين يغطّون على الإسرائيليين. الأسد منزعج جداً منهم، ويعتبرهم أغبياء لأنهم ربطوا الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي بالانسحاب السوري. بذلك حلّوا مشكلة سوريا. كان محتاراً حيال معارضته الاتفاق الذي يؤدي إلى الانسحابات، إلى أن ربطوها بالإنسحاب السوري، فوجد لنفسه المخرج اللازم. عندما سألته إذا أخذنا وعداً من الرئيس الجميّل بتجميد الاتفاق هل تساعد على المصالحة الوطنية ودعم الحكم؟ ردّ بالإيجاب”.
أخيراً أفصح بندر لحدّاد عمّا أخطره به ياسر عرفات عند زيارته المملكة آنذاك: “يريد سحب مقاتليه من البقاع إلى الشمال. أتى إلى السعودية واجتمع مع الملك فهد من أجل إقناع سوريا بالسماح له بذلك، ومن أجل وقوف السعودية ضدّ سوريا في قمّة عربية مقبلة. أبلغ إليه الملك أنها تقف إلى جانبه إذا اتخذ موقفاً ضدّ سوريا، وأظهر اعتدالاً نحو أميركا والحلّ السلمي”. ذكر عرفات لبندر أنه يريد إخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان بعدما وافق الأردن على استقبال 2500 منهم، وكذلك يستقبل العراق والجزائر أعداداً منهم.
إنهاء مهمة قوة الردع
رغم ذلك، تواصلت المساعي الديبلوماسية بلا انقطاع. الولايات المتحدة التي كانت وعدتني بالحصول على انسحاب الجيش الإسرائيلي وفرض السيادة اللبنانية على كل ترابنا الوطني، تكتفي بإمدادنا بالنصح والتشجيع. كنا نتلقّى وعوداً بالمساعدة من عدد كبير من رؤساء الدول العربية والأجنبية. أما هدفي فلم يتغيّر: تحرير البلاد وتوحيدها بأي ثمن.
في الأول من أيلول/سبتمبر 1983، بعثتُ برسالة رسمية إلى الرئيس السوري، طالباً منه سحب قواته.
هنا نصّ الرسالة:
“أبعثُ إلى سيادتكم بأطيّب التحيّات، مع تمنّياتي لشخصكم بالسعادة التوفيق ولشعب سوريا العزّة والتقدّم.
وبعد.
أودّ أن أبلغكم أن الحكومة اللبنانية وجّهت في تاريخ اليوم بواسطة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين كتاباً إلى حضرة الأمين العام للجامعة العربية، تؤكد فيه قرارها وطلبها جلاء الجيش الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية وانسحاب جميع القوات غير اللبنانية. وإذ أُودع سيادتكم صورة عن هذه الرسالة، أشعر باليقين بأنكم ستستجيبون مضمونها الذي تجسّد في إطار مؤسسات لبنان الدستورية، فضلاً عن أنه يرفع الذريعة عن إستمرار الإحتلال الإسرائيلي، ويأتي ترجمة لما أعلنتم عنه دائماً من حرص على استقلال لبنان ووحدته وسيادته، وتقديم كل عون في هذا السبيل.
وإني، إذ أنتظر من سيادتكم إصدار الأوامر اللازمة لتأمين انسحاب قواتكم من لبنان، أتطلع إلى مستقبل مشرق بين سوريا ولبنان اللذين تجمعهما روابط التاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة. كما إني مطمئن إلى غد يسوده السلام والمحبة، ويعمّ فيه الخير بلدينا وشعبينا”.
طبعاً، بقي هذا الطلب حبراً على ورق. لم أتلقَ جواباً من الأسد عن رسالتي. أوفدتُ قائد قوة الردع العربية العميد سامي الخطيب والمستشار الصديق جان عبيد إلى دمشق لإبلاغ قيادتها القرار. قابلا عبدالحليم خدّام وحكمت الشهابي، وكتب إليَّ الخطيب بعد عودته “أبلغتُ إليهما رغبة فخامتكم في إعلامهما مسبقاً هذا القرار والأسباب والظروف التي تُمليه إنطلاقاً من رغبتكم الدائمة في حفظ العلاقة مع سوريا على مستوى من الودّ والإحترام والصدق والأخوّة. شكرا هذه المبادرة وتفهّماها جيّداً، لكنني لاحظتُ رغبة ضمنية لديهما في عدم الإعلان الموسّع عنها وخصوصاً في الظرف الراهن، وأعلمتهما بموافقتكم على تعيين لجنة إتصال عسكرية تستمرّ في تأدية التواصل والتنسيق مع القوات السورية في لبنان، حتى يتم انسحابها النهائي منه. طلبا إعلامهما رسمياً عن المبالغ المستحقّة عن فترة وجودها الشرعي في لبنان، الموافق عليه من الجامعة العربية، عبر التجديدات المتتالية ليتسنّى لهم المطالبة بها من جهتهم أيضاً”.
وجّهتُ رسالة مماثلة، اليوم نفسه الأول من أيلول/سبتمبر، إلى ياسر عرفات بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية للغرض ذاته. دعوتُه إلى “إصدار الأوامر اللازمة لتأمين انسحاب قواتكم من لبنان”، قائلاً إن من شأن ذلك “رفع الذريعة عن إستمرار الإحتلال الإسرائيلي، وترجمة لما أعلنتم عنه دائماً من حرص على استقلال لبنان ووحدته وسيادته”. كذلك راسل وزير الخارجية إيلي سالم الأمين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي لإعلامه بالقرار اللبناني، طالباً إبلاغه إلى الدول العربية الأعضاء في الجامعة “كي تكون على بيّنة منه”، و”العمل معنا من أجل تنفيذ القرارات الدولية والعربية التي تتجاوب مع القرار اللبناني بانسحاب كل القوات غير اللبنانية من لبنان”، آملاً في أن “نلقى من الجامعة المساندة التي تُلزمها روابط الأخوّة، فضلاً عن ميثاقها المبني على الإحترام المتبادل لاستقلال كل من الدول وسيادتها”.
أتت خطوتي مكمّلة لموقف نادى به سلفي الياس سركيس في القمّة العربية في فاس ما بين 6 أيلول/سبتمبر 1982 و8 منه، عندما تقدّم لبنان عبر رئيس وفده إليها وزير الدولة جوزف أبوخاطر، بموافقة إسلامية شجاعة غير مألوفة أبداها رئيس الحكومة آنذاك شفيق الوزّان، بورقة عمل تضمّن بندها الرابع “إعلان إنتهاء مهمة قوة الردع العربية في لبنان”. أخطر القمّة بتمسّك السلطات اللبنانية بتطبيق قرارها إنهاء إنتدابها، إلى فقرتين أخريين قالتا بـ”انسحاب كل القوات المسلحة غير اللبنانية من لبنان، والإعلان عن وقف العمل العسكري الفلسطيني نهائياً من الأراضي اللبنانية وفيها، وإنهاء الوجود المسلح للمنظمات الفلسطينية في لبنان”. على الأثر، أورد قرار قمّة فاس في اختتامها أنها “أُحِيطت علماً بقرار الحكومة اللبنانية إنهاء مهمات قوة الردع العربية في لبنان، على أن يجري التفاوض بين الحكومتين اللبنانية والسورية لوضع الترتيبات في ضوء الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان”.
يومذاك تحفّظ لبنان عن هذا القرار والصيغة التي أوردته، إذ إكتفت بذكر “أخذ ]القمّة[ العلم”، بينما المطلب صريح وواضح، وهو انسحاب القوات السورية.
نزل جواب إبراهيم طنوس علينا كالصاعقة: “إنزال الجيش في أعالي الجبل حتى بحمدون، بعيداً من خطوط تموينه، ضرب من الإنتحار”
كرة النار
في آب/أغسطس 1983، بينما الأنظار متّجهة نحو الشوف، تعرّض جيشنا في العاصمة إلى سلسلة إعتداءات. لكنه لم يلبث، بعدما قام بعملية تراجع تكتي، أن استعاد السيطرة على الموقف في أحياء بيروت الغربية. إلا أن اشتعال معركة الشوف لم يسمح له باستكمال مهمته في الضاحية الجنوبية، ذات الغالبية الشيعية، التي أُفلتت مجدّداً من سلطة الدولة. بعد أشهر قليلة، ستترتب على هذه الواقعة نتائج جسام. بدا أن هذا الوضع في العاصمة وضواحيها، بالتزامن والتناغم مع أحداث الشوف والمبرمج من وراء الحدود اللبنانية، جعل الدولة الناشئة عرضة إلى الإستهداف.
في 3 أيلول/سبتمبر، كتب قائد الجيش إبراهيم طنّوس إلى وزير الدفاع عصام الخوري يدقّ جرس إنذار فراغ أمني، قد نكون مقبلين عليه: “من المحتمل أن يُخلي الإسرائيليون الشوف وعاليه خلال ليل 3 ـ 4 أيلول 1983. بالنظر إلى عدم التوصّل إلى اتفاق سياسي، لن يحصل أي تنسيق عسكري بين القوات الإسرائيلية المنسحبة وبين الجيش اللبناني لملء الفراغ الأمني في الجبل. التهديدات الخارجية والداخلية توجب تدابير أمنية تفوق القدرات الحالية للجيش. الوضع الأمني في بيروت يستلزم تجميع القوى في الأماكن المناسبة لدرء الخطر”. وطلب من مجلس الوزراء معالجة المشكلة في أسرع وقت.
التاسعة مساء اليوم نفسه، 3 أيلول/سبتمبر، ترأستُ اجتماعاً حضره رئيس الحكومة شفيق الوزّان ووزير الخارجية إيلي سالم وقائد الجيش إبراهيم طنّوس الذي يعود إليه أن يحكم إلى أي حدّ وضمن أي نطاق يمكن إستخدام قواتنا المسلحة. في نهاية الاجتماع، بعد إستشارة العسكريين الأميركيين، نزل جوابه علينا كالصاعقة: “إنزال الجيش في أعالي الجبل حتى بحمدون، بعيداً من خطوط تموينه، ضرب من الإنتحار”.
عندئذ كان علينا إتخاذ القرار الصعب الذي دوّناه في محضر الاجتماع:
بعد التداول في الوضع القائم وما يمكن الجيش أن يقوم به من تدابير لملء الفراغ الأمني بعد بدء الانسحاب الإسرائيلي، تقرّر الآتي:
بناء على تقرير قيادة الجيش والمعطيات السياسية القائمة وانعكاساتها السلبية على صعيد القوى العسكرية والقوى المتعدّدة الجنسية، فإن الحكومة توافق على أن يكون تحرّك الجيش نحو الجبل في هذه المرحلة بالقدر الذي يزيد في حماية مراكزه الحالية في منطقة بيروت الكبرى وجوارها، بما يمكّنه من الإستمرار في الإنطلاق في ما بعد، في ضوء التطوّرات السياسية وغيرها، وإبلاغ قيادة الجيش هذا القرار أصولاً”.
عليه، الأمر الوحيد الممكن هو تعزيز مواقعنا في العاصمة وضواحيها، حيث تتوافر لنا فعلاً إمكانات المقاومة وحماية رمز السيادة الوطنية.
هكذا، أخذ الجيش اللبناني يعزّز مواقعه على تلال الكحّالة وسوق الغرب المشرفة على العاصمة، ويقيم فيها سدّاً منيعاً. في أثناء ذلك، وياللأسف الشديد، كانت المجازر في حقّ المدنيين وعمليات تهجيرهم من بعض القرى التي أخلاها الجيش الإسرائيلي تتواصل على نحو مرعب ووحشي. أما أنا، فوجدتُ نفسي في مواجهة مؤامرة مدبّرة لزعزعة السلطة الشرعية، بل الكيان الوطني.
من خلال هذا القرار أردنا، مقدار ما يسعنا، إستدراك تداعيات ما قد يُباغتنا في الساعات التالية في الشوف وعاليه في ضوء التهديد الإسرائيلي المباشر، وتمكين الجيش من الإضطلاع بمهماته، وتوفير أوسع محافظة على المناطق الواقعة تحت السلطة المركزية للشرعية.
بالفعل، ليل 3 أيلول/سبتمبر، نفّذ الجيش الإسرائيلي خطة جلائه مجدّداً عن بعض المناطق المحتلة في ضواحي العاصمة والجبل في الشوف وعاليه، بلا أي إخطار أو تنسيق. كل مطالباتي، المشفوعة بمساعي واشنطن من أجل إتمام هذا الانسحاب في جو من الهدوء والتنسيق مع الجيش اللبناني، لم تلقَ آذاناً صاغية. آنذاك، كان مناحيم بيغن في اكتئاب جرّاء مرض زوجته، وبات الإتصال به متعذّراً حتى من البيت الأبيض. ثم أعلن إستقالته في 30 أيلول/سبتمبر. سرعان ما حلّ محلّه على رأس الحكومة وزير الخارجية إسحق شامير.
ما أن بدأ الانسحاب الإسرائيلي من الجبل، تدفّقت منذ 4 أيلول/سبتمبر الميليشيات المتحالفة مع سوريا، المدعومة منها بقوة، على منطقة الشوف في غضون ساعات، منطلقة من البقاع ومن أعالي الجبل، مُعوّلة على مئات المسلحين الفلسطينيين الموالين لأبو موسى المنشق عن ياسر عرفات، بآلياتهم ومدافعهم ومنصات صواريخهم وأعتدتهم. راح هؤلاء يطلقون على أنفسهم “قوات العودة”. تصاعد أيضاً التسعير الطائفي: هدّد وليد جنبلاط باحتلال دير القمر إذا أقدمت القوات اللبنانية على إحتلال قبر شمون.
إندلع قتال شرس إلى حدّ أن الأهالي راحوا يستغيثون بيأس. كان علينا أن نواجه قوات مجهّزة بأسلحة ثقيلة، وتضم في صفوفها عدداً كبيراً من الضبّاط والعسكريين المحترفين. إستولت هذه الميليشيات على المواقع التي أخلاها الجيش الإسرائيلي. بذلك باتت تهدّد العاصمة وقصر الرئاسة. حينها أراد الزعماء السياسيون للجبهة اللبنانية والقوات اللبنانية أن أزجّ الجيش الوطني في المعركة بكثافة، وأرسله إلى بحمدون التي كان الجيش الإسرائيلي قد أخلاها، ليصبح في مواجهة مواقع الجيش السوري. الحال أن جيشنا كان لا يزال حديث التكوّن وضعيف التماسك، فلا يسعنا دفعه في مغامرة إنتحارية، في الوقت الذي يخوض معركة شرسة في سوق الغرب وحول العاصمة لحمايتها ومراكز الحكم.
ميدانياً، كان الضغط العسكري السوري يشتدّ أكثر فأكثر. في هذا الصدد، قال جورج حاوي، أهم حلفاء وليد جنبلاط آنذاك: “لم يكن الدعم السوري في ذلك الحين مقتصراً على الكلام. مدفعية الجيش السوري ساهمت في هزيمة الجيش اللبناني وتراجعه حتى الشويفات على الساحل”.
أخذت القذائف تقترب أكثر فأكثر من قصر بعبدا، ومن منزل السفير الأميركي، كما إستهدف القصف معسكرات القوة المتعدّدة الجنسيّة. الهدف رسالتان: واحدة إلى الحكم وأخرى إلى حلفائه من الخارج.
في الجبل، وجدتُ نفسي كرئيس للبلاد عاجزاً عن وقف عملية فرز طائفي جارية بالنار والدم والدموع. الولايات المتحدة وديبلوماسيّوها وجنودها وقواتها البحرية (المارينز) تتفرّج على هذا الحريق المشتعل. المسؤولون في واشنطن يظنّون أن الوجود العسكري وحده رادع، وأن التكشير عن الأنياب يُغني عن ضرورة العضّ. هذه التوأمة الحربية، بدلاً من أن تُرعب سوريا جعلتها أكثر عداونيّة، إذ كانت على يقين من أن واشنطن لن تذهب أبداً إلى أبعد من الدعم الرمزي للدولة اللبنانية. في المقابل، راح الإتحاد السوفياتي، حليف دمشق، يهدّد بحرب شاملة تريد واشنطن تحاشيها بأي ثمن.
كنت قد نجوتُ من الموت في كثير من الظروف الخطرة، وكدتُ ألقى حتفي في حادث سير عادي. فيما كنت عائداً من زيارة تفقّدية لجنودنا الذين كانوا يقاتلون بشجاعة واستبسال على جبهة سوق الغرب في 15 أيلول/سبتمبر 1983، وبعدما غادرنا القطاع المستهدف بالقصف المدفعي، فقَدَ الضابط الذي كان يقود سيارتي السيطرة عليها، وإتجه مباشرة صوب أحد الوديان. فإذا شجرة توقف إنزلاقنا إلى الهاوية. مرّة جديدة، إختبرتُ صحة ما قاله الكاتب باولو كويلو في كتابه “الخيميائي”: “عموماً، يدفعنا الموت إلى أن نصبح أكثر حرصاً على الحياة”.
الوضع الميداني آخذ في التدهور أكثر فأكثر. النتائج على الصعيدين الوطني والإنساني مأساوية. إلى التورّط السوري المباشر في هذه الإشتباكات، كان التواطؤ الإسرائيلي فاضحاً وسلبيّة واشنطن مخيّبة. أين أصبحت كل تطمينات الرئيس ريغن؟ من البديهي أن تقدّمنا مستحيل من دون دعم جوهري من الولايات المتحدة في وجه جارتينا القويتين الحاضرتين عسكرياً على الأرض اللبنانية، سوريا وإسرائيل.
أما الأقسى في ذلك كله، فهو التجنّي الذي واجهتُه من الأقربين أيضاً. إذ من أجل تبرير تورّط القوات اللبنانية في منطقة بحمدون وضواحيها، حيث دخلت إليها عسكرياً بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها ومن دون تحضير من أي نوع ولقيت مواجهة شرسة من مجموعات عسكرية أرسلتها سوريا إلى المنطقة بعتادها وسلاحها، إضطرت إلى الانسحاب متكبّدة خسائر جسيمة، كما من أجل تبرير تخلّف إسرائيل عن تقديم أي دعم للقوات اللبنانية رغم التحالف الذي يجمع في ما بينهما، إنطلقت إشاعات مغرضة مبرمجة وخبيثة تضع مسؤولية الكارثة على عاتق رئيس الجمهورية على أنه قصّر في مناصرة القوات اللبنانية ودعمها في مغامرتها هذه. أي توريط للجيش اللبناني في هذه الحرب من دون جهوزية، وهو منشغل بمعارك ضارية من حول العاصمة، نتائجها إنتحارية وكارثية له وللحكم الذي يُعوّل عليه، لاسيّما وأن كلا المخابرات والجيش الإسرائيلي كانا على تنسيق كامل مع قوات جنبلاط ودروز المنطقة، الحلفاء الجدد لإسرائيل. مع الإشارة إلى المخطط الإسرائيلي لتسهيل تحقيق الكانتون الدرزي في الجبل، منطقة بحمدون وصوفر جزء أساسي منه. راحت الإشاعات المغرضة والخبيثة، التي راجت بكثافة، تعزو عدم دعمي القوات اللبنانية إلى رغبتي في التخلّص منها، بغية النيل من سمعتي ومعنويات الجيش.
أمام المشهد الدرامي الذي كانت تنطوي عليه أحداث الجبل، المتمثّل بهذا التهجير السكاني، وهذه المجازر والفظاعات بأنواعها المختلفة، المرتكبة بتواطؤ من البعض وبعدم اكتراث من البعض الآخر، إتخذتُ قراراً حاسماً صعباً جداً.
ألكسندر سولداتوف للجميل: “الولايات المتحدة تورّطت في المأزق اللبناني. تظنّون أننا لن نساعدها على الخروج منه. بالعكس، سوف يدفعون غالياً جداً ثمن رفضهم التعاون معنا”
خيار التنحّي
في 3 أيلول/سبتمبر، بعد ليلة لم نذُق فيها طعم النوم، إستدعيتُ ريتشارد فيربانكس في حضور وديع حدّاد، وقلت له: “التدهور الميداني خطير جداً. في الاجتماع الأخير في باريس وفي حضورك، توصّلنا إلى تفاهم مع وليد جنبلاط حول الشوف والمصالحة. إذا بنا نعود إلى منطق “الوضع الخاص” والحكم الذاتي للجبل الدرزي الذي تتم إقامته بالقوة، وكل ذلك يُخلّف مئات من القتلى وعمليات تدمير وتهجير قسري للسكان لا أريد، ولا يسعني أن أكون الشاهد العاجز عليها. رفضتُ هذا المنطق المؤدّي مباشرة إلى التقسيم عندما أبلغتموني الرسالة الإسرائيلية المتعلقة بالحكم الذاتي للشوف. آنذاك، اعتقدتُ أنكم ستتفهّمون موقفي وستبقون إلى جانبي. لكن وياللأسف لا أرى شيئاً من ذلك. بل نشهد عملية تطهير عرقي حقيقي بالنار والدم سوف تأخذ، في حال استمرارها، حجم إبادة جماعية”.
أضفتُ: “ليست لديّ الإمكانات لإيقاف المجازر وحدي، ولا أريد أن أتحمّل مسؤولية هذه الكارثة تجاه ضميري وشعبي والتاريخ. أفضّلُ إذاً الانسحاب. يمكن إيجاد شخص آخر يرضى بمثل هذه التسوية على حساب وحدة لبنان وكيانه، أو على الأصح المجازفة بالبلد. شخص يمكنه القبول بالمشاريع الرامية إلى تقسيم لبنان، وتقويض سيادته الوطنية. أنا لا أستطيع أن أقاوم وحدي جميع الدول والقوى المتورّطة في هذه الحرب القذرة. بذلك نكون، على الأقلّ، قد حافظنا على حياة الألوف من الأبرياء. أتركُ لهذا الشخص الآخر أن يطبّق الخطط التي يُراد فرضها علينا بالقوة. ليكُنْ الأمر واضحاً تماماً. لن أكون على الإطلاق شاهداً على الكوارث الإنسانية والوطنية التي تحصل على الأرض، ولا رئيس تقسيم لبنان. سوف أترك الحكم بشرف بعد أن أكون إتخذتُ كل الإجراءات الدستورية لإقامة سلطة مؤقتة. الرجاء أن تبلغ قراري إلى الرئيس ريغن الذي منحني حتى يومنا هذا دعمه وثقته، وتطمينات مشجّعة بإزاء مستقبل لبنان”.
أما مُحاوري، الذي بدت عليه علامات الذهول، فأجابني أنه سيشاور في الأمر واشنطن فوراً، مناشداً إيّاي تأجيل قراري.
مساء اليوم ذاته، طلب ريتشارد فيربانكس مقابلتي على وجه السرعة لإبلاغي رسالة شفوية من رونالد ريغن، مفادها: “ينبغي أن تعلم أننا لم نتخلّ عنك يوماً. نقدّر كثيراً جهودك على الصعيد الوطني. ثِقْ بأننا ندرك أن قلّة من المسؤولين يمكن أن تنجز ما حققتَه حتى الآن. رحيلك، فخامة الرئيس، سيُلحق الضرر بالجهود التي تبذلها أنت وسواك لإنقاذ لبنان. أؤكد لك أنها مهمة عزيزة علينا. نريد وقف هذه الحرب. أما الرسالة المتعلقة بـ”الوضع الخاص” التي كنا قد نقلناها إليك، فلا تعبّر عن رأي واشنطن. نطلب منك الإستمرار في الحكم، لأن الوضع من دونك سيزداد سوءاً. إننا الى جانبك”.
كانت الرسالة مشجّعة، إنما خالية من أي إلتزام فعلي. مع ذلك، قرأتُ بين سطورها بداية مبادرة، وتريّثتُ لبعض الوقت في قراري في إنتظار ترجمة هذا الكلام عملياً أو لا. علمتُ في ما بعد أن الكلام الذي قلته لريتشارد فيربانكس أدّى إلى عقد اجتماع عاجل في البيت الأبيض. ذلك أن المسؤولين الأميركيين كانوا يخشون من عواقب إستقالتي. نيّاتهم وجهودهم صادقة. لكن بات واضحاً أن خصومهم، في مقدّمهم سوريا، يضعون العراقيل في وجههم، بينما حليفهم الإسرائيلي يتصرّف بمفرده تنفيذاً لبرنامج سياسي مختلف عن واشنطن. على الأرض حتى، تقع مراراً إحتكاكات خطيرة بين العسكريين الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين التابعين للقوة المتعدّدة الجنسية. داخل الإدارة الأميركية بالذات، كاد تضارب الآراء بين وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الإستخبارات المركزية يعيق المبادرة الأميركية.
بينما كنت أستعدُّ للتوجّه إلى جبهة سوق الغرب من أجل تشجيع جنودنا الصامدين هناك، طلب سفير الولايات المتحدة مقابلتي في 4 أيلول/سبتمبر، وسلّمني رسالة من الرئيس ريغن جاء فيها: “أعلم أن لبنان يجتاز واحدة من أصعب المراحل في تاريخه. أنا شديد الإعجاب بالشجاعة التي تجبهون بها التهديدات الموجّهة ضدّ حكومتكم. أطلعني ماكفرلين على تطلّعك الجدّي البعيد الأفق، وكل جهودك لاستعادة الوحدة الوطنية، ودعوتك إلى جلاء سوريا وقواتها المسلحة من بلدك. إلى ذلك، أبهرنا الأداء المميّز للجيش اللبناني الذي أظهر في الأيام المنصرمة أنه نواة مهمة جداً لتوسيع نطاق أمنكم وسلطتكم الحكومية على كل الأراضي اللبنانية”.
أضاف الرئيس الأميركي: “مهمتنا الأصعب هي إقناع الرئيس الأسد بأن له مصلحة في الموافقة على طلبكم. أعتقد أن أول ما ينبغي عمله هو أن نوفّر أكبر دعم ممكن لموقفكم حيال خروج الجيش السوري”.
اللافت في ما تضمّنته الرسالة، تأكيد ريغن أنه طلب من الأسد إستقبال موفده الخاص روبرت ماكفرلين كي يبلغ إليه “بوضوح كامل وعلى نحو مباشر أن انسحاب الجيش السوري مسألة جوهرية لاستقرار لبنان”، مضيفاً أن “وجود عسكريين أميركيين في القوة المتعدّدة الجنسية سبب جيّد لبقائها”، كأنها إشارة جديدة إلى طول أمد بقاء هذه القوة في لبنان.
كنت قد كففتُ منذ زمن طويل عن الثقة بالمعجزات السياسية. لكنني إضطررتُ إلى التظاهر بذلك.
حتى ذلك الوقت لم يتوقف الإتصال مع موسكو. نظراً إلى عدم تمكّني من الذهاب شخصياً إلى موسكو للدفاع عن الملف اللبناني، إستقبلتُ في منزلي إثنين من مستشاري وزارة الخارجية السوفياتية. كانا يريدان فقط الإستعلام عن موقفي. بيد أن السفير السوفياتي في بيروت ألكسندر سولداتوف، الذي استقبلته في 24 أيلول/سبتمبر، عبّر عن رأيه بصراحة قاسية إذ قال: “الولايات المتحدة تورّطت في المأزق اللبناني. تظنّون أننا لن نساعدها على الخروج منه. بالعكس، سوف يدفعون غالياً جداً ثمن رفضهم التعاون معنا”.
لمّح بذلك إلى رغبة واشنطن في التفرّد بمبادرات السلام في الشرق الأوسط. إختارت موسكو، بالاتفاق مع دمشق وطهران، معاقبة الأميركيين بواسطة اللبنانيين وعلى الأرض اللبنانية.
لم يعد لمصير لبنان أي وزن في تصفية الحسابات هذه. في هذا الصدد، كشف جورج حاوي الآتي: “كان السوفيات مع التمرّد على السلطة مئة في المئة. طلبنا منهم دبابات ومدفعية ثقيلة وراجمات صواريخ، ووسائط تفجير وأجهزة لاسلكية، وأسلحة متوسطة وخفيفة. إتصلت هيئة الأركان السوفياتية بهيئة الأركان السورية لتبدأ تسليمنا هذا النوع من السلاح في مقابل تعهّد موسكو تعويضه لاحقاً لدمشق”.
تابع حاوي: “في اللقاء مع (رئيس المانيا الشرقية إريك) هونيكر، قال لي: سوف ندعمكم بكل الوسائل”.
(*) الحلقة الأولى، أمين الجميل رئاسة فوق الخطوط الحمر:
https://180post.com/archives/11524
(*) الحلقة الثانية، أمين الجميل أول رئيس لبناني في البيت الأبيض:
https://180post.com/archives/11651
(*) الحلقة الثالثة، إتفاق 17 أيار بين إسرائيل وسوريا: