على الرغم من الأهداف الاقتصادية التي تنتظرها واشنطن من إبرام شركة أميركية نفطية عقداً مع “الإدارة الذاتية” الكردية في الشمال الشرقي السوري، لا يمكن فصل هذه الخطوة عن سياق التطورات السياسية التي تشهدها المنطقة، خصوصاً أن هذا الاتفاق تأخر نحو 10 شهور بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبة بلاده في استثمار النفط السوري في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد المدعومين من واشنطن.
الصفقة الأخيرة، التي جاء الإعلان عنها على لسان السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي يعُرف بعلاقته الوطيدة مع الأكراد في سوريا خلال جلسة استماع في الكونغرس، لم يكشف عن جميع تفاصيلها، لكن بعض وسائل الإعلام سربت بعض جوانبها، وأبرزها اسم الشركة التي وقعت الاتفاق، حيث ذكر موقع “المونيتور” أن العقد حصلت عليه شركة مسجلة في ولاية دلاوير الأميركية تحمل اسم “دلتا كريسنت انرجي Delta Crescent Energy LLC”. وبحسب موقع ” arabian business” يترأس الشركة كل من سفير أميركا السابق في الدنمارك جيمس كاين والذي يملك شركة أمنية تحمل اسم “تايغر سوان” لها نشاطات عدة في أميركا اللاتينية والعراق، ويتمتع بعلاقات وطيدة مع الأكراد في سوريا، ويعتبر أحد أبرز الداعين لبقاء الولايات المتحدة في سوريا لأطول فترة ممكنة، والضابط السابق في “دلتا فورس” التابعة للقوات الخاصة الأميركية جيمس ريس الذي تولى منصبا قياديا في العمليات الخاصة في العراق.
مصادر كردية أكدت أن العقد الموقع يهدف إلى تحديث حقول النفط لزيادة الإنتاجية. وبحسب موقع “رووداو” الكردي فإن مدة العقد 25 عاماً، ويتضمن تحديث حقول النفط وتوفير مصفاتي نفط معياريتين لتوفير مشتقات نفطية تغطي قسماً من احتياجات السكان في مناطق سيطرة الأكراد.
وبينما اعتبر الأكراد أن الصفقة تمنح واشنطن “الشرعية” لـ”الإدارة الذاتية”، شددت دمشق على أن هذه الاتفاقية “سرقة موصوفة متكاملة الأركان، وصفقة بين لصوص تسرق ولصوص تشتري”. وأكدت وزارة الخارجية السورية في بيان أن الاتفاق “باطل ولاغٍ ولا أثر قانونياً له”، معتبرة أن “هذه الأفعال الخسيسة تعبّر عن نمط ونهج هذه الميليشيات العميلة التي ارتضت لنفسها أن تكون دمية رخيصة بيد الاحتلال الأميركي”.
في غضون ذلك، كشف الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي في “الإدارة الذاتية” عبد حامد المهباش أن الأكراد يدرسون في الوقت الحالي طلبات لشركات روسية وأميركية بهدف الاستثمار في مجالات خدمية مختلفة، من دون أن يكشف أية تفاصيل أخرى.
ولم تصدر أية ردة فعل واضحة من موسكو حيال الاتفاق، على الرغم من الموقف الروسي المتشدد إزاء الوجود الأميركي في سوريا، والمطالب المستمرة بخروج الولايات المتحدة الأميركية وتسليم حقول النفط للحكومة السورية.
وتربط مصادر عدة بين الموقف الروسي الهادئ تجاه الأكراد، وبين التوسع العسكري الروسي خلال الفترة الأخيرة في الشمال الشرقي من سوريا، حيث تمكنت موسكو من تقوية علاقتها بالأكراد وتوسيع حضورها قرب منابع النفط التي تسيطر عليها واشنطن.
تربط مصادر عدة بين الموقف الروسي الهادئ تجاه الأكراد، وبين التوسع العسكري الروسي خلال الفترة الأخيرة في الشمال الشرقي من سوريا
كباش روسي – أميركي
تتمتع روسيا بعلاقات تاريخية مع الأكراد عموماً، ومتوازنة في الوقت الحالي، حيث تمثل موسكو عنصر توازن مهماً في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا، وتلعب دور الوسيط لإجراء محادثات بين الحكومة السورية والأكراد الذين تدعمهم واشنطن، إضافة إلى الدور المحوري الذي تقوم به أيضاً لمنع وقوع احتكاكات جديدة مع تركيا التي ترغب في توسيع نفوذها في سوريا عبر “شماعة الأكراد” إضافة إلى محاولات كبح الرغبة الكردية الانفصالية.
وبينما لا يمكن فصل المشهد الكردي في العراق عن المشهد في سوريا، على الرغم من اختلاف العوامل المحيطة به، بسبب الامتدادات السياسية والعسكرية للقوى الكردية بين سوريا والعراق، والعلاقات الوطيدة بين الأحزاب الكردية في كلا البلدين، تتمتع روسيا بحضور وازن في إقليم كردستان العراق، الذي يمثل أيضاً لواشنطن قاعدة محمية لمصالحها في العراق، حيث أبرمت شركات نفطية روسية عقوداً عدة مع الإقليم، أبرزها العقد الموقع في العام 2017 بين الإقليم وشركة “روسنفت” الروسية لتطوير خمس كتل لإنتاج النفط، بالإضافة إلى عقد آخر تم توقيعه في العام 2018 لبناء خط أنابيب إلى تركيا.
وتسببت العمليات العسكرية التركية الأخيرة ضد الأكراد في العراق بانقسامات سياسية حادة بين الأحزاب الكردية في الإقليم، الأمر الذي يبدو أن واشنطن تخشى أن تستثمره روسيا لتحقيق خرق أكبر في المشهد السياسي المعقد، ما من شأنه أن يمثل تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية، خصوصاً إذا ما تم ربط هذا النشاط بالحضور الروسي الوازن في المناطق الكردية في الشمال الشرقي السوري بعدما تخلت واشنطن جزئياً عن الأكراد وتركتهم يواجهون تركيا التي تربطها علاقة متشابكة مع روسيا.
ويتزامن الإعلان عن العقد مع الجهود الأميركية لترتيب البيت الكردي الداخلي في سوريا، عن طريق محاولة توحيد الأحزاب الكردية بشقيها التابع لتركيا والمعادي لها، لضمان تحصين مصالحها الاقتصادية في سوريا من جهة، وبهدف منع روسيا من مد المزيد من نفوذها في المنطقة من جهة ثانية.
وقد يفسر هذا الأمر اختيار واشنطن لشركة تتمتع بحضور أمني في العراق وسوريا، وعلاقات ومصالح قوية تربطها بالأكراد (دلتا كريسنت انرجي)، الأمر الذي يعطي بعداً أمنياً أكبر من البعد الاقتصادي للعقد.
كذلك تستثمر واشنطن هذا العقد سياسياً وإعلامياً لتوجيه رسائل إلى القوى الكردية بأنها ما زالت تدعمهم، الأمر الذي ينتظر أن يعطي دفعاً للمفاوضات الجارية لتوحيد الصف الكردي في سوريا وإبعاد الأكراد عن تركيا وروسيا، وضمان عدم حصول أي تقارب مع الحكومة السورية.
واشنطن تجتمع بحزب العمال
بموازاة ذلك، ذكر المستشار الإعلامي السابق لبرلمان إقليم كردستان العراق طارق جوهر في تغريدة له على موقع “تويتر” أن وفداً أميركياً رفيع المستوى زار مقر حزب العمال الكردستاني في العراق وسط اجراءات أمنیة مشددة من قبل الطیران الاميركي. وفي حال ثبت صحة هذا الخبر فإن هذه الزيارة هي الأولى التي يجريها وفد أميركي رسمي إلى جبال قنديل، وأول لقاء رسمي يجمع بين مسؤول أميركي وقيادة حزب العمال الكردستاني الذي تحاربه تركيا.
وترفض تركيا بشكل واضح التحركات الأميركية التي تهدف إلى توحيد الصف الكردي في ظل النفوذ الكبير لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي تربطه بحزب العمال الكردستاني علاقات وطيدة.
ويبدو أن واشنطن تعمل على سحب قيادات حزب العمال الكردستاني من سوريا وإعادتهم إلى معقلهم الرئيسي في جبال قنديل، لسحب الذريعة التركية، وبهدف تأمين أرضية ثابتة يمكن أن يبنى عليها مشروع طويل الأمد، محصن من الاختراقات الروسية، وحتى التركية في ظل العلاقات القوية التي تربط أنقرة بـ “المجلس الوطني الكردي”.
وتمثل التحركات الأميركية حزمة متكاملة من الإجراءات التي تهدف إلى ترتيب أوسع للبيت الكردي في سوريا والعراق، بحثاً عن تحصين مصالحها في البلدين، في ظل التوتر المتواصل في العراق الذي يمتد النفوذ الإيراني والتركي فيه بشكل كبير، والسوري الذي يشهد حضوراً روسياً كبيراً، وتركياً مزعجاً لواشنطن، الأمر الذي تسعى واشنطن لتلافيه عن طريق محاولة عقد “صفقة كردية” متكاملة سعياً لحضور طويل الأمد، سواء بالوجود العسكري على الأرض، أو عن طريق “أتباع مخلصين” تحكمهم واشنطن أمنياً واقتصادياً، ويمكن أن تحركهم مستقبلاً للضغط على تركيا أو حتى روسيا إن دعت الحاجة.