ماكرون في بيروت: إنتهاء صلاحية الطائف.. ومصافحة حزب الله
BEIRUT, LEBANON - JANUARY 24: Former French Economy Minister, Founder and Leader of the political movement 'En Marche !' and candidate for the 2017 French presidential elections Emmanuel Macron speaks to the media after his meeting with Lebanese Prime Minister Saad Hariri (not pictured) on January 24, 2017 in Beirut, Lebanon. For two days, Emmanuel Macron continues his program of visit to Lebanon. (Photo by Soazig De La Moissonniere/IP3/Getty Images)

ايمانويل ماكرون في بيروت. زيارة هي الرابعة لرئيس فرنسي إلى بيروت في ظروف إستثنائية. زيارة شكّلت بأبعادها السياسية والإنسانية، أول خرقٍ للحصار الدولي الذي يتعرض له لبنان. زيارة أعطت لفرنسا رصيداً لبنانياً، سياسياً وشعبياً، وتخللها أول موقف دولي يعلن بالفم الملآن أن صيغة الطائف التي ولدت قبل 31 سنة قد إستنفذت غايتها وصار لا بد من عقد سياسي جديد بين اللبنانيين.

اول زيارة فرنسية إستثنائية للبنان غداة الإستقلال اللبناني، حصلت في كانون الاول/ديسمبر 1969 عندما شنّت اسرائيل عدواناً على مطار بيروت الدولي ودمّرت الاسطول الجوي لطيران الشرق الاوسط. سنتذاك، زعمت تل أبيب ان عدوانها جاء ردا على عملية نفذتها المقاومة الفلسطينية انطلاقا من جنوب لبنان. بعد العدوان الإسرائيلي، صدر موقفان دوليان؛ الاول، لبابا الفاتيكان بولس السادس الذي ادان اسرائيل بالاسم للمرة الاولى على الرغم من عدم اعتراف الفاتيكان باسرائيل كدولة، الثاني والاشد حسما للرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي اتخذ سلسلة من الخطوات أبرزها الآتي:

اولاً، ادانة اسرائيل واتهامها بالاعتداء على لبنان وسيادته.

ثانياً، تأكيده ان فرنسا هي الضامنة لسيادة واستقلال لبنان وعدم التعرّض له.

ثالثاً، اقامة جسر جوي بين باريس وبيروت لتقديم المساعدات للبنان واعادة اعمار مطار بيروت، وتقديم سلفات لاعادة تكوين الاسطول الجوي للطيران المدني اللبناني.

وقتذاك، اعلن الجنرال ديغول انه لا يدين الهجوم الاسرائيلي على لبنان فقط، انما يؤكد ان اي اعتداء اسرائيلي على لبنان هو بمثابة اعتداء موجه ضد فرنسا وضده شخصياً.

كان رئيس فرنسا قد ظنّ أنه تمكن من تجاوز “ثورة ايار/مايو 1968″، لكن سرعان ما تطورت حركة الاعتراض لتنخرط فيها منظمات يهودية فرنسية، وهذا الامر، سرّع برحيله وإضطره إلى تقديم استقالته بعدما تم تأليب الرأي العام الفرنسي ضده، ولا سيما من خلال التصويت ضده في الاستفتاء على الاصلاحات التي عرضها على مجلس الشيوخ الفرنسي. حينذاك، آثر ديغول الاستقالة من رئاسة الجمهورية والابتعاد عن الحياة السياسية كلياً الى ان توفي في العام 1970.

السابقة الثانية كانت في عهد فرنسوا ميتران في 23 تشرين الاول/أكتوبر 1983 يوم تعرضت القوات المتعددة الجنسيات وتحديداً الاميركية والفرنسية لهجوم مزدوج في بيروت. في اليوم التالي للإنفجار، قام ميتران بزيارة مفاجئة الى بيروت، برغم النصائح الدولية بعدم القدوم الى لبنان بسبب الاوضاع العسكرية والسياسية المضطربة. زيارة ميتران المقتضبة (ساعات) غلبت عليها موقف التضامن مع لبنان ومع الضحايا الفرنسيين وعائلاتهم، وغابت عنها السياسة إلى حد كبير.

اما السابقة الثالثة، فقد كانت لجاك شيراك وذلك اثر اغتيال رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. حينذاك، لم يأت شيراك بصفته رئيساً لفرنسا وحسب بل بصفته صديقاً شخصياً لرفيق الحريري وأطلق شرارة التحقيق الدولي في القضية.

اليوم في 6 آب/أغسطس 2020، ومع زيارة ايمانويل ماكرون التي دامت نحو تسع ساعات، كانت السابقة الرابعة، إستثنائية ببرنامجها ومضمونها، علما أن الرئيس اللبناني ميشال عون كان وجه دعوة رسمية لماكرون للقيام بـ”زيارة دولة” الى لبنان، كون الأخير خص عون بإستقباله كأول رئيس عربي بعد انتخابه، واعاد عون تكرار دعوة ماكرون للاحتفال في الاول من ايلول/سبتمبر بذكرى مئوية لبنان الكبير، وقد وعد ماركون بتلبية هذه الدعوة، متمنياً أن يكون لبنان قد حسم أمره في قضاياه الإصلاحية حتى ذلك الوقت، وأكد لعون أنه سيبقى على تواصل هاتفي معه حتى ذلك الوقت.

واللافت للإنتباه أن ماكرون يعاني في بلاده من تدني شعبيته بعد خسارة حزبه في الانتخابات البلدية الاخيرة لعدم تمكنه من تحقيق اي انتصار في اي مدينة كبرى في فرنسا، ونتيجة ذلك، اضطر الى تغيير الحكومة والميل بإتجاه اليمين برغم انه إنتخب بوصفه يمثل الوسط، وهو يستعد للاستحقاق الرئاسي في العام 2022، ولذلك يحاذر إرتكاب أي خطأ داخلي أو خارجي.

ونتيجة جائحة كورونا تعيش اوروبا ازمة كبرى، ومنذ حوالي الاسبوعين، خاض ماكرون والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل مفاوضات مضنية جدا حتى تمكنا من احراز خطوة اعتبراها تاريخية وجبارة وتمثّلت في إقرار خطة تاريخية لإعادة استنهاض الاقتصاد الاوروبي، بقوة دفع فرنسية وألمانية.

هناك اسئلة كبيرة مطروحة في فرنسا بشأن الاصلاحات التي وعد بها ماكرون ولم تتحقق، وحول الكلفة التي ستدفعها فرنسا لاستنهاض اوروبا من ركود كورونا، وذلك في موازاة اعادة تفشي الوباء في دول أوروبية عديدة.

انطلاقاً من ذلك؛ حاذر ماكرون عدة مرات القدوم الى لبنان وتلبية دعوة نظيره اللبناني، وذلك في تناغم واضح مع الموقف الأميركي الذي تعاطى بحذر شديد مع ميشال عون. شكلت نكبة بيروت، فرصة لإطلالة فرنسية على الواقع اللبناني. في شباط/فبراير الماضي، كانت الجامعة اليسوعية في بيروت قد وجهت دعوة إلى الكاتب والمؤرّخ الفرنسي ستيفان بيرن لالقاء محاضرة، ونتيجة تفشي كورونا، سأل بيرن صديقه إيمانويل ماكرون عن رأيه بالمجيء او عدمه الى لبنان لالقاء المحاضرة، فكان جواب ماكرون “عندما يمر لبنان بازمة يجب على فرنسا ان تكون الى جانبه.. هذا هو معنى الصداقة”، وطلب من بيرن ان يحضر ويقول هذا الكلام بإسمه في بيروت، اي ان الاصدقاء “يقفون الى جانب بعضهم البعض في زمن الشدة وليس في زمن الراحة”.

إقرأ على موقع 180  عندما يدفع إقتصاد لبنان ثمن خيارات عون السياسية

“زمن الشدة” هو هذا الذي تعيشه بيروت وكل لبنان حالياً. أكثر من 100 شهيد وخمسة آلاف جريج وعشرات المفقودين. بيروت منكوبة وأكثر من ربع مليون نسمة في العراء.

هذه الصورة كانت كافية لكي يقول ماكرون كلاماً قاسياً ليس فقط أمام الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وحسان دياب، بل أيضاً أمام قادة أبرز أحزاب لبنان (تيار المستقبل، حزب الله، التيار الوطني الحر، حركة أمل، الحزب التقدمي الإشتراكي، القوات اللبنانية، تيار المردة، الكتائب). حاول بعض قادة الأحزاب وتحديدا سمير جعجع ووليد جنبلاط إدخال الزائر الفرنسي إلى الزواريب اللبنانية الضيقة كالتطرق إلى السلاح والتحقيق الدولي وإستعادة إحباطات من زمن العام 2005، غير أن ماكرون فاجأ الحاضرين بأن هذا ليس زمن القضايا الإستراتيجية الكبرى المختلف عليها. هناك تباينات بينكم كلبنانيين. دعوها جانباً الآن. أنظروا إلى أولويات شعبكم. نظامكم الإقتصادي والسياسي ينهار. لا بد من الذهاب إلى القضايا المباشرة. تنفيذ الإصلاحات الإقتصادية، حتى تدخلوا في برنامج مع صندوق النقد. نحن سنساعدكم دوليا، لكن ثقوا أن أحداً لن يعطيكم شيكاً على بياض. عليكم أن تساعدوا أنفسكم قبل أن يساعدكم العالم.

يمكن القول إنه أرفع لقاء سياسي بين حزب الله ورئيس دولة أوروبية منذ تأسيس حزب الله في العام 1983 حتى الآن، وعلى الأرض الفرنسية. أي ليس في مقر رسمي لبناني، ناهيك عن الحوار الثنائي على هامش الزيارة، بكل ما تضمنه من دلالات إستثنائية تكتم عليها الجانب الفرنسي كما حزب الله

أتى ماكرون إلى بيروت بعد أن إتخذ قراراً حاسماً. لا نريد أن تفسر الزيارة كأنها مع طرف لبناني ضد طرف آخر. كان حريصاً على وجود ممثل كبير لحزب الله في الطاولة السياسية الحوارية في قصر الصنوبر. كلف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد أن يمثله. هذا اللقاء ولو أنه ليس ثنائياً، إنما يمكن القول إنه أرفع لقاء سياسي بين حزب الله ورئيس دولة أوروبية منذ تأسيس حزب الله في العام 1982 حتى الآن، وعلى الأرض الفرنسية. أي ليس في مقر رسمي لبناني، ناهيك عن الحوار الثنائي على هامش الزيارة، بكل ما تضمنه من دلالات إستثنائية تكتم عليها الجانب الفرنسي كما حزب الله.

ما هي أولويات فرنسا لبنانياً؟

أولاً، لا بد من برنامج إغاثي وإنقاذي. فرنسا بدأت بإرسال مساعدات للبنان كما أرسلت فريقاً من رجال الاطفاء المتخصصين بالكوارث والغطاسين والكلاب المدربة على اقتفاء اثر الاحياء والاموات، وسترسل مستشفيات ميدانية ومساعدات طبية وغذائية كما أن فرنسا مستعدة لإعادة بناء القسم المهدم من مرفأ بيروت على نفقتها.

ثانيا، إذهبوا إلى الإصلاحات وأنتم تعرفون أولوياتكم وما ينتظر المجتمع الدولي وصندوق النقد، فإذا قمتم بالمطلوب منكم نحن مستعدون لفتح كل الأبواب الدولية لمصلحة لبنان.

ثالثا، في موازاة السعي لوقف الإنهيار الإقتصادي، لا بد من التشديد على وحدة اللبنانيين لانه من دون وحدة الشعب اللبناني لا قيامة للبنان. الأهم من ذلك أن فرنسا تسعى إلى بلورة مجموعة أفكار حول العقد الإجتماعي الجديد وكيفية تطوير آليات الحكم والمؤسسات. وهذا الموقف الفرنسي يأتي على خلفية خلاصات فرنسية بأن صيغة الطائف قد أدت غرضها وصار لا بد من عقد ميثاقي جديد بين اللبنانيين.

رابعا، شدد ماكرون على أهمية التحقيق الدولي الشفاف واعداً بمساعدة لبنان ورافضاً إستباق نتائج التحقيق ووضع إمكانات فرنسا بتصرف اللبنانيين. وقد طلب عون من ماكرون صورا جوية عن لحظات وقوع الإنفجار في مرفأ بيروت، وقد وعد الوفد الفرنسي بتأمينها في أقرب وقت.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  دراسة إسرائيلية عن حرب أوكرانيا: تل أبيب تحصد الأثمان