رُكِّبَ لبنان يومَ رُكِّبَ بطريقةٍ تجعله بنيوياً ساحة للخارج. وعندما يكون بلد متعدد الطوائف ساحة للخارج، فهذا يعني أنه سيبقى عرضة دائما وبشكل مستديم لصراعات داخلية، هي أقصى ما يمكن أن يتكئ عليه الخارج، بواسطة زعماء محليين، لمد يدهم على البلد والإمساك به. مطلب تغيير المنظومة الحاكمة لم يكن مطلبا انفعالياً. هو مطلب جذري ونتاج تأكدنا من موت بلدنا (إفلاسه إقتصادياً وإفلاس منظومته الحاكمة سياسياً). هو تغيير بنيوي يجب أن يقتنع به جزء وازن من الناس المدركين أبعاده، وبالتالي، عليهم أن يحوّلوا آلامهم وآمالهم قوة دافعة لأجل تشكيل حالة وعي، لا أن يصار إلى إستثمار واستغلال وجعهم من أجل سوقهم وجرهم كالنعامات، كما يصر أن يفعل كل الزعماء. من دون ذلك، لن يتحقق التغيير.
لقد عوّل الكثيرون منا على من يمتلك قوة شعبية واخلاقية بالمبدأ.. أن يكون صانع وخالق هذا التحول، لأنه بكل بساطة أضحى قوة حقيقية، ولأن الناس نزلت يوم نزلت، إنما لحمل شعارات كان هو ريادياً في رفعها، لكن متى أضحت هذه القوة ضامنة لهذه الكيانية الشيطانية، أيقن الكثيرون منا ان كل طموح مرتجى قد انتهى، من دون أن يكلّ البعض عن العمل في ساحات الوعي والاعتراض، وذلك أضعف الإيمان.
اليوم يتضح لنا أن الشرط التاريخي للتغيير الذي وأده الزعماء يوم كاد ان يتحقق، ما عاد موجوداً حتى مع ما وصلنا إليه من تدمير لعاصمتنا بيروت
اليوم، وفي خضم كل هذا الحزن والغضب الذي عشناه، وأفقد عقولنا، وجعلنا نُقتل مع من قتلوا، وبعد زيارة ماكرون ورصد اراء الناس التي كفرت بالمنظومة الحاكمة، وفي حين ان المطلوب هو تغيير المنظومة لا تغيير الحكومة، وتغيير البنى السياسية والإقتصادية والإجتماعية كلها لا القيام باصلاحات شكلية.. يتضح لنا أن هذا التغيير لن يحصل. وربما نكون على مواعيد مع لحظات أبشع من لحظات العام ٢٠٠٥ وما قبلها وما بعدها. قد نكون في حالة صراع بين من يطلب الانتداب ومن يطلب الخلافة!
واقعاً، لن تكون مأساة بيروتنا مغذية لآمال التغيير. على العكس تماماً. سنحطمها أكثر. برغم دمار بيروت وما رافقه من مشاعر غضب غير مسبوقة، لن يحصل شيء. كل الغضب لن ينفع. الأمور ستعود الى المربع الصفر، طالما أن البداية من تجاذبات الخارج، لا من الداخل.
ما بالإمكان فعله اليوم فقط، هو الانطلاق للعمل من أجل المستقبل لا من أجل الحاضر. محاولة تعريف الجيل الشاب المدفون في هذا المجتمع على التاريخ والحاضر لأجل ان يغير في المستقبل. تغيير الفكر والقيم والمفاهيم بشكل دؤوب. تهديم شكل العلاقة ما بين الدين والسياسة، سواء أكان اسلاما سياسياً ام مسيحية سياسية أم أم…
اليوم يتضح لنا أن الشرط التاريخي للتغيير الذي وأده الزعماء يوم كاد ان يتحقق، ما عاد موجوداً حتى مع ما وصلنا إليه من تدمير لعاصمتنا بيروت. الشرط التاريخي لا بد أن يُصنع عبر عمل متعب ومتعب ومتراكم، يستثمر الآلام بطريقة مجدية وبعيدة الأمد، وعلى أصحاب الجهود ان تتحد لتفعله برغم كل الصعوبات. لكن علينا ان نبدأ في النهاية.
لعلّه يجب الاعتذار على هذا المنسوب من التشاؤم، لكن لا شيء سيتغير. لبنان الذي مات مع فاجعة بيروت المنكوبة سيحاولون إعادة إحيائه كما كان وكما يشتهونه دائماً. هم قادرون على الإستثمار حتى في الجيفة.