مؤخراً، بدأت محاولة جديدة لإحياء المفاوضات المتوقفة بين واشنطن وطهران بشأن استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) الخاصة بالملف النووي، والتوصل إلى إتفاق يهدف إلى منع إيران من أن تكون قادرة على تطوير سلاح نووي. فمنذ الجولة الأخيرة من مفاوضات فيينا، سرّعت طهران من وتيرة تطوير برنامجها، وردت على لوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية لها بأن وضعت قيوداً على حركة المفتشين الدوليين، وأعلنت عن منشآت تخصيب متطورة جديدة تحت الأرض. وثمة مؤشرات كثيرة تقول بأن إيران على قاب قوسين أو أدنى لكي تصبح دولة نووية.
تتوعد إسرائيل بأنها لن تسمح- ولن تتسامح مع إيران مسلحة نووياً. وهي تعمل خارج المؤسسات المتعددة الأطراف لتحقيق هدفها هذا. فقد اغتالت علماء ومسؤولين عسكريين إيرانيين، وشنَّت هجمات جوية على أهداف إيرانية في سوريا، وتخطط لإستهداف مواقع نووية ومنشآت عسكرية في إيران. وبدعم أميركي، يسعى الإسرائيليون أيضاً إلى تنظيم عدد من الدول العربية في تحالف عسكري ضد إيران. ووفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، فقد عقدت الولايات المتحدة؛ في آذار/مارس الماضي؛ اجتماعاً مع مسؤولين أمنيين من مصر وإسرائيل والأردن وقطر والبحرين والسعودية والإمارات، لتنسيق تعاون مشترك في تبادل المعلومات الاستخبارية والخبرات الدفاعية تمهيداً لإعداد خطة مشتركة لصد أي تهديد.
“وظيفة” جديدة لـ”اتفاقات أبراهام”
هذه التطورات الحاصلة في الملف النووي الإيراني تُعرقل خطط واشنطن للشرق الأوسط. وترى إدارة بايدن بأن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة هي الطريقة الأفضل للسيطرة على برنامج إيران النووي. ولكن إذا فشلت في ذلك، يبدو أنها مستعدة لتبني نهج إسرائيل الحالي لاحتواء إيران. وهذا يستلزم منها زيادة تشديد الخناق الاقتصادي حول عنق إيران من خلال إجبارها على الخروج من سوق النفط. وهذا يعني أن واشنطن ستدعم إسرائيل في تنفيذ هجمات داخل إيران، وسترعى الجهود الإسرائيلية الرامية إلى تشكيل تحالف من الدول العربية لاحتواء إيران. وهذا؛ في جوهره؛ وظيفة جديدة لـ”اتفاقات أبراهام” (الصفقة التي اعتبرتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الإنجاز الأبرز لسياستها الخارجية، لأنها ربطت إسرائيل بالبحرين والمغرب والسودان والإمارات في ما يمكن اعتباره “كتلة مناهضة لإيران”). ويبقى الأمر غير المعلن عنه بعد هو أن “اتفاقات أبراهام” قد تتطور إلى اتفاقية دفاع عسكري فعَّال تدعمه أميركا.
يذكرنا الوضع الحالي بفترة السبعينيات، عندما كلَّف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون شاه إيران، محمد رضا بهلوي، بأمن الشرق الأوسط. وبالمثل، فإن إدارة بايدن، في الواقع، تسلم مهمة إحتواء إيران إلى إسرائيل. وهذا نهج محفوف بمخاطر عدة، أهمها أن الشرطي المعين هذه المرة من قبل واشنطن هو على عكس ما كان عليه قبل نحو 50 عاماً. فهذا “الشرطي- إسرائيل” لا يحاول تجنب الصراع، بل هو الفاعل الإقليمي الأكثر وضوحاً الذي يدفع باتجاه التصعيد. لذلك، يجب على واشنطن أن تتبنى إستراتيجية مختلفة تركز على كيفية تجنب الصراع، وذلك من خلال الجمع بين تعزيز الأمن الإقليمي وتشجيع علاقات دبلوماسية أقوى بين إيران والدول العربية؛ وهذا أحد الخيارات القليلة التي يمكن أن تساعد في خفض التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط.
الأخطبوط الإسرائيلي
رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته، نفتالي بينيت (حلّ محله يائير لبيد من الإئتلاف نفسه)، كان قد أعرب عن اعتقاده بأن العودة إلى الاتفاق النووي ستمنح إيران المزيد من الموارد لمواصلة طموحاتها النووية والإقليمية. ولكن على عكس سلفه، بنيامين نتنياهو، لم يفعل بينيت ما يكفي لعرقلة البرنامج النووي الإيراني، بقدر ما كثَّف جهوده من أجل تقويض الجمهورية الإسلامية (…).
وظيفة جديدة لـ”اتفاقات أبراهام”: دعم الهجمات الإسرائيلية، وتبني تحالف عربي-إسرائيلي لإحتواء إيران.. وقد تتطور إلى اتفاقية دفاع عسكري فعَّال
فقد أطلق بينيت العنان لما يُسمى بـ”استراتيجية الأخطبوط” ضد إيران. وشمل ذلك أعمال تخريب واغتيالات وهجمات سيبرانية وإستهداف عناصر وقادة عسكريين إيرانيين والبنية التحتية في إيران، بالإضافة إلى حلفائها في العراق ولبنان وسوريا. النهج الجديد، الذي يتجاوز استهداف المنشآت النووية للتركيز بشكل أوسع على الجمهورية الإسلامية نفسها، كان أقل قابلية للتنبؤ به وأكثر عدوانية وتعقيداً من كل الحملات الإسرائيلية السابقة. ففي الأسابيع الأخيرة، على سبيل المثال، وسَّعت إسرائيل أهداف اغتيالاتها بما يتجاوز تلك المرتبطة بالبرنامج النووي، وعلى الأخص عندما اغتال عملاء “الموساد” عقيداً في الحرس الثوري الإيراني في طهران. لم يكن ذلك حادثاً معزولاً: فقد وردت تقارير عديدة مؤخراً عن وفيات غامضة وانفجارات مشبوهة وحوادث صناعية.
وبحسب مصادر في المنطقة، اعتمدت حملة التخريب والاغتيالات الإسرائيلية داخل إيران على قواعد في أذربيجان (حدود مشتركة مع إيران من الشمال)، وقواعد في إقليم كردستان العراق المتاخم لإيران من الغرب. كما أعرب بينيت عن أمله في أن توفر “اتفاقيات أبراهام” ثقلاً إقليمياً موازناً للجمهورية الإسلامية. وبالفعل، فقد وسَّعت هذه الصفقة نطاق نفوذ إسرائيل في الخليج الفارسي من خلال ترتيبات أمنية مع البحرين والإمارات، اللتين يشارك قادتهما إسرائيل في كثير من مخاوفها بشأن طموحات طهران النووية والإقليمية. وإسرائيل الآن بصدد إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع الإمارات، فضلاً عن تزويد حلفائها الخليجيين بأنظمة دفاع جوي ورادارات وتكنولوجيا إلكترونية متطورة. وواشنطن، من جهتها، تشجع مصر والأردن على تعميق العلاقات الأمنية مع إسرائيل، وتدعم الجهود المبذولة لإشراك السعودية في اتفاقات لترسيخ محور عربي لإحتواء إيران. ومن المرجح أن تكون هذه القضية على رأس جدول أعمال بايدن عندما يتحدث مع نظرائه السعوديين في رحلته المرتقبة إلى الشرق الأوسط.
إيران نَفَسُهَا طويل
وبينما تشن إسرائيل هجماتها واستفزازاتها، تسعى إيران إلى كسب الوقت. فمن خلال تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، يمكن لطهران تحصين برنامجها النووي، وتعزيز قدراتها الصاروخية وتطوير الطائرات المسيَّرة لديها، وتوسيع قدراتها العسكرية في العراق ولبنان وسوريا واليمن. ويعتقد المسؤولون الإيرانيون أيضاً أنه إذا تمكنت إسرائيل من جرّ طهران إلى صراع أكبر، فستضطر إدارة بايدن إلى التدخل عسكرياً. علاوة على ذلك، فإن تصاعد الأعمال العدائية من شأنه أن يزيد من احتمال قيام المزيد من الدول العربية للإنضمام إلى محور ضد إسرائيل.
ومع ذلك، إيران أيضاً تهاجم إسرائيل، وهي غالباً تفعل ذلك من خلال وكلاء لها في المنطقة، مثل حركة حماس وحزب الله. وهي تُظهر أيضاً استعداداً متزايداً لاستهداف مواقع استخبارية إسرائيلية قريبة من حدودها، وتتوعد الدول التي تُسهل العمليات الإسرائيلية ضدها. فبعدما اغتالت إسرائيل اثنين من أعضاء الحرس الثوري في سوريا، ودمرت منشأة عسكرية في غرب إيران بواسطة طائرة مسيرة انطلقت من كردستان، سارعت طهران لتنفيذ تدريبات عسكرية على حدودها مع أذربيجان وهاجمت أهدافاً في كردستان، بما في ذلك قاعدة عسكرية لـ”الموساد”. كذلك، ضغطت طهران على حلفائها العراقيين لإصدار قانون يُجرّم تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
إحياء الإتفاق النووي
في خضم هذه الاضطرابات المتصاعدة، انخرطت إدارة بايدن في مفاوضات الدوحة لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي. هذا، من نواح كثيرة، تمرين للسيطرة على الأضرار: لقد أدى قرار ترامب بالإنسحاب من الاتفاق النووي في عام 2018 إلى تقصير الفترة الزمنية التي تحتاجها طهران لصنع قنبلة وتقوية موقع المتشددين في إيران. فبموجب الاتفاق الأصلي، كانت إيران تحتاج لسنة؛ على أقل تقدير؛ حتى تحصل على ما يكفي من مواد انشطارية لازمة لصنع قنبلة واحدة. الآن، وبموجب اتفاق جديد مرتقب، سيتم تقليص هذا الإطار الزمني إلى ستة أشهر كحد أقصى.
“الأخطبوط”.. إستراتيجية بينيت ضد إيران، أكثر عدوانية وتعقيداً من كل الحملات الإسرائيلية السابقة.. تتجاوز البرنامج النووي وتركز على بناء قدرات إسرائيل على حدود إيران
الضغوط والعقوبات التي فرضتها إدارة ترامب أجبرت طهران على متابعة أعمالها التجارية؛ لا سيما النفطية؛ بعيداً عن الأنظار وبطرق تعتبرها واشنطن “غير شرعية”. ومنذ العام 2018، باعت إيران نفطها خلسة، وذهب الجزء الأكبر من تجارتها عبر الأسواق السوداء، ما سمح للحرس الثوري ببيع حصته من النفط وبناء تكتلات اقتصادية. ونتيجة لذلك، فإن الجزء الأكبر من إيرادات الحرس الثوري يقع الآن خارج الميزانية الحكومية الرسمية.
الآن، أصبح لدى الأفراد المؤثرين داخل الحرس الثوري (يتمتع بنفوذ قوي على الحكومة) حافز قوي للإحتجاج ضد أي اتفاق نووي جديد، لأن عائدات إيران النفطية ستذهب مرة أخرى إلى الحكومة الإيرانية، وسيتعين على “الحرس” تقديم ميزانيته للرقابة المدنية، ما يعني أنه قد يواجه ضغوطاً عامة للتخلي عن جزء منها. سيكون هذا التطور غير مُرحب به، لا سيما في وقت يسعى فيه “الحرس” إلى زيادة قدراته العسكرية للحفاظ على التكافؤ الإستراتيجي مع إسرائيل. أضف إلى ذلك أن الهجمات والاغتيالات الإسرائيلية المتزايدة عزَّزت رأي “الحرس” بأن أي “صفقة” ستكون “مكيدة” أميركية لتقويض إيران.
من المؤكد أن التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يبث الحياة في الاقتصاد الإيراني وبالتالي التخفيف من السخط الشعبي الذي يتنامى في البلاد. كما أن “الإتفاق” سيتيح لإيران فرصاً لعقد مشاريع تجارية مع جيرانها في وقت تعمل فيه إسرائيل على توسيع علاقاتها مع دول عربية عدة بينهم جيران لإيران. أضف إلى ذلك أن القادة الإيرانيين، الذين يؤيدون فكرة “الإتفاق”، سيتغلبون على “مقاومة” الحرس الثوري للإتفاق، خصوصاً إذا كانت الوعود الاقتصادية للاتفاق كبيرة وفورية. بالمقابل، الفشل في التوصل إلى اتفاق يزيد من مخاطر التصعيد مع إسرائيل. ومن المفارقات أن كلاً من إسرائيل والحرس الثوري يعارضان الاتفاق النووي ويستعدان لصراع يلوح في الأفق.
مطلوب إحراز تقدم
في الأسابيع المقبلة، ستكون المشاركة الأميركية حاسمة لمنع “حرب الظل”، الواقعة بين إيران وإسرائيل، من أن تخرج عن السيطرة. يمكن أن تتطور الهجمات المتصاعدة من قبل إسرائيل والوكلاء الإيرانيين إلى مواجهة أكبر، ما قد يؤجج التوترات ويُوسّع نطاقها من بلاد الشام إلى شبه الجزيرة العربية. وهذا يمكن أن يطيل أمد الأزمات السياسية في العراق ولبنان، عرقلة الهدنة “الهشة” بين الحوثيين والقوات التي تقودها السعودية في اليمن؛ إعادة تأجيج الصراع في سوريا. ومن شأن ذلك أيضاً جر الولايات المتحدة للتطور أكثر في المنطقة في الوقت الذي ترغب بالابتعاد والتركيز على روسيا والصين.
لتجنب مثل هذه النتائج، يجب على إدارة بايدن وضع خطوط حمراء مع الحكومة الإسرائيلية، ووقف الهجمات الاستفزازية، ووضع إستراتيجية واضحة لإستقرار الشرق الأوسط ولا تستند فقط على مبدأي الإحتواء والمواجهة مع إيران أو تأمين خفض قصير الأجل لأسعار النفط. والطريقة الأكثر فعَّالية للقيام بذلك هي إبرام إتفاق نووي جديد مع إيران. من المؤكد أن الإتفاق لن يُرضي إسرائيل، ولن يجعل الحرس الثوري وأذرعته يجمدوا أنشطتهم في المنطقة. ومع ذلك، فإن التوصل إلى إتفاق سيحافظ على الخط الفاصل بشأن برنامج إيران النووي بطريقة تجعل أي عمل عسكري إسرائيلي غير ضروري. وهذا من شأنه أن يقلّل من احتمالية قيام إيران بأعمال انتقامية في المنطقة؛ بما في ذلك ضد ناقلات ومنشآت نفطية؛ والتي يمكن أن تُزعج أسواق الطاقة العالمية.
خروج “حرب الظل” بين إيران وإسرائيل عن السيطرة سيضع المنطقة- من بلاد الشام إلى شبه الجزيرة العربية- على مسار تصعيدي خطير جداً.. ومصلحة دول الخليج في إنهاء الصراعات
من جهة ثانية، حاولت طهران تعزيز علاقاتها مع الكويت وعُمَان وقطر. كما حرصت على تحسين العلاقات مع الرياض وأبو ظبي. بعد خمس جولات من المحادثات بين إيران والسعودية، يدخل وقف إطلاق النار في اليمن الآن شهره الثالث. والإتفاق النووي سيضيف زخماً لهذه المبادرة. وعلى العكس من ذلك، فإن فرض المزيد من العقوبات واستمرار الهجمات الإسرائيلية سيضع المنطقة على مسار تصعيدي خطير جداً.
وحتى من دون إتفاق نووي، فإن زيادة المشاركة العربية – الإيرانية يمكن أن تكون بمثابة كابح لأنشطة إيران الإقليمية. لكن هذا فقط إذا كان هناك مسار حقيقي لتحسين العلاقات العربية – الإيرانية. فعلى الرغم من أن دول الخليج العربي تخشى إيران، وبعض هذه الدول عمَّقت علاقاتها الأمنية مع إسرائيل، إلَّا أنها لا تريد حرباً بين إيران وإسرائيل. صحيح أن هذه الدول تريد حماية أمنية إسرائيلية، لكنها في الوقت نفسه تخشى أن تتعرض لأضرار جراء أي مواجهة عسكرية. إن دول الخليج العربي لديها أيضاً مصلحة في إنهاء الصراعات الإقليمية، وعلى الأخص في اليمن، حيث يجب الحفاظ على صمود قرار وقف إطلاق النار الحالي من خلال دعم الحوار السعودي الإيراني، بمعزل عن مصير الإتفاق النووي.
الدفع نحو علاقات دبلوماسية أقوى بين إيران وجيرانها العرب يوفر لواشنطن فرصة لكي تعيد توجيه الأمن الإقليمي، وبناء دعم أوسع للسيطرة على أي تصعيد محتمل بين إسرائيل وإيران. ويجب أن يتم ذلك من خلال العمل عن كثب مع كافة الدول العربية؛ وليس فقط الموقعين على “اتفاقيات أبراهام”. يجب على واشنطن أن تُقرن ضرورة إحتواء إيران عسكرياً بتشجيع الدبلوماسية الإقليمية للتأثير على سلوكها. فإسرائيل تحاول استمالة العرب للانضمام إلى مظلة أمنية مناهضة لإيران. بالمقابل لدى إيران كل الأسباب لثني العرب عن مثل هذه الخطوة. يمكن للدول العربية استخدام هذا النفوذ لتشجيع كل من إيران وإسرائيل على وقف الاستفزازات المحفوفة بالمخاطر، ولجم “حرب الظل” التي بينهما. ويجب على بايدن أن يستغل زيارته إلى المنطقة لتشجيع كل الأطراف على القيام بذلك.
– النص بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“
(*) ولي نصر، خبير في الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط. ماريا فانتابي، المستشارة الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الحوار الإنساني.