مئوية لبنان الكبير.. شيخوخة السياسة وإندثار الدولة

في الأول من أيلول/سبتمبر المقبل، تحل الذكرى السنوية لإعلان دولة لبنان الكبير في عام 1920، هذه الفترة كافية لتشكيل أمة ودولة ووطن، لمن أراد إليهم سبيلا.

بالرجوع إلى لحظة إعلان دولة لبنان الحديثة والثالثة (الأولى: نفوذ دولة صور الفينيقية، والثانية: جغرافيا دولة فخر الدين المعنية)، سيلاحظ أن جغرافية الدولة اللبنانية الثالثة، امتدت على مساحة كان سبقها إليها نفوذ الدولتين الأولى والثانية، وهذا يعني أمران:

ـ الأول: الشرعية التاريخية لدولة لبنان الحالية حيث تغور عميقا في الزمن، وأسبقيتها وجودا في العصور الحديثة لمجمل الدول العربية ما عدا مصر، مع الأخذ بالإعتبار أن دولة فخر الدين الثاني (ت ـ 1635) سبقت بما لا يقل عن 150 عاما مساعي محمد علي باشا (ت ـ 1849) لإحياء الدولة المصرية التاريخية.

ـ الثاني: أن الدولة اللبنانية الحديثة، بجغرافيتها المعروفة، ومنذ مائة وعامين، سبقت كل الدول العربية إلى الظهور (مرة أخرى ما عدا مصر)، لا بل إن عشرات الدول الأخرى في العالم، ظهرت في القرن العشرين بعدما كانت الدولة اللبنانية قد سبقتها تشكلا وحدودا بعقود، وبالحد الأدنى بسنوات.

مما يعاني اللبنانيون؟

يعاني اللبنانيون، وبمعنى أدق الأحزاب اللبنانية من استبداد العقلية النزاعية والخصامية بقراءاتهم (وقراراتهم) السياسية، وهي قراءات تنشدُّ إلى الماضي المشتبك حول مصير المشرق العربي، وهذا الإنشداد يجعل الريبة قاعدة للتعاطي بين أهل السياسة، فأكثرهم لا يثق بأكثرهم، وأكثرهم يرتاب من أكثرهم، والمدلولات العملية والنظرية لذلك، تتمظهر في التالي:

ـ أ: تطغى دائما على السياسة النضالية نزعة وسواسية تقول إن الهوية الوطنية اللبنانية متعارضة مع الإنتماء العربي، وهذا الإنتماء يفترض التخلي عن الهوية اللبنانية وطمسها ونكرانها، وإذا كان من بد، لا بد من لعنها، فالنضالية نقيض اللبنانية.

ـ ب: تتسلط على السياسة السيادية أو الإستقلالية، حمّى خنّاسية ترى في العلاقة الطبيعية بين لبنان وسوريا، انتقاصا من الإنتماء للبنان، وتجردا من الهوية الوطنية، كان ذلك في مضى يعم علاقات لبنان مع فضائه العربي، وفي هذه المرحلة باتت العلاقة مع سوريا تشكيكا باللبننة وضربا من ضروب الإتهام بعدم الولاء للبنان.

العقدة اللبنانية غير مرتبطة بشرعية الدولة، ولا بشرعية الوطن، ولا حتى بشرعية النظام ولا دستوره، فالنظام ومثله الدستور في مرحلتيهما الأساسيتين (1926 و1989) قاما على أساس إدخال الطوائف اللبنانية إلى الوطن، فيما الممارسات السياسية عملت على إخراج الطوائف من الوطن، وتلك مأساة لا تناظرها سوى مأساة قتل قابيل لشقيقه هابيل

في واقع الحال، كلا النزعتين على خطأ مبين، وكلاهما يستعيد المقولة الخاطئة لجورج نقاش التي كتبها في صحيفة “لوريان” في العاشر من آذار/مارس 1949 بعنوان “نفيان لا يصنعان وطناً” (deux negations ne font pas une nation)، ولكن جورج نقاش ذاته، وبعد وصول اللواء فؤاد شهاب إلى الرئاسة الأولى، غدا من كبار المُنظرين للمرحلة الشهابية، وإلى حدود قال فيها إن فؤاد شهاب صنع دولة انسانية واجتماعية.

هذا المتغير الإنقلابي في منظومة جورج نقاش الفكرية ـ السلبية، يرسِخ حقيقة مفادها أن الأفكار التي ينتجها العقل في لحظة زمنية، ليست بالضرورة أن تكون صائبة، أو هي ليست صائبة في كل حين، فالإرادة، يمكن ان تغير الواقع، والواقع يمكن أن يغير الأفكار كما الأفكار يمكن أن تغير الواقع، ولعل الفيلسوف أرسطو أول وأعمق من أشار إلى أن الأفكار لا ديمومة لها ولا استمرار، ففي كتابه “السياسيات” يقول “الفكر يشيخ كما يشيخ الجسد”.

ما المظاهر التي تؤشر إلى أن أفكارغالبية القوى السياسية اللبنانية قد شاخت وأصابها العجز؟

ـ أول هذه المؤشرات عدم القدرة على إيجاد مخارج للإنهيار المالي والإقتصادي الحاصل في لبنان منذ عام 2019، فغالبية القوى السياسية اللبنانية تعتبر أنها لم تخطىء في إدارة الدولة، ولا شك أن اعتقادها ذاك، دليل إلى عجزها عن تقديم أفكار جديدة ورؤى إنقاذية تخرج اللبنانيين من كارثتهم المستدامة.

ـ ثاني هذه المؤشرات، ذاك الإستمتاع الفظيع لدى العديد من القوى السياسية بتحريض أتباعها ومناصريها للخروج عن القوانين والإنتظام العام، بهدف كسب الولاء، وينم هذا عن قناعة مضمرة بأن الدولة بمؤسساتها وأجهزتها حين لا تروق لفاعل سياسي، يسعى إلى هدمها، وقديما قال رئيس الحكماء أرسطو “أخطر أنواع الفساد حين يحرض الحكام المتخاصمون الناس للخروج عن القوانين”، وتبعه بعد ذلك جان جاك روسو في كتابه “مقالة في العلوم والفنون” بمقولته الشهيرة “حين يرى أحدهم متعة في عدم إطاعة القوانين آل كل شي إلى الهلاك وانتفت معه كل أساليب العلاج”.

هنا بالضبط بيت القصيد السياسي، فالعقدة اللبنانية غير مرتبطة بشرعية الدولة، ولا بشرعية الوطن، ولا حتى بشرعية النظام ولا دستوره، فالنظام ومثله الدستور في مرحلتيهما الأساسيتين (1926 و1989) قاما على أساس إدخال الطوائف اللبنانية إلى الوطن، فيما الممارسات السياسية عملت على إخراج الطوائف من الوطن، وتلك مأساة لا تناظرها سوى مأساة قتل قابيل لشقيقه هابيل.

هل تعرف القوى السياسية اللبنانية كيف تنشأ الدول؟

قبل التطرق إلى نشوء الدول، قد يكون استحضار الأخلاق أمرا ملحاحا، فبحسب الفيلسوف العربي الفارابي أن الدولة “هي الفضيلة الأخلاقية العليا”، وأما عند الفيلسوف الألماني هيغل “الدولة هي الواقع الفعلي للصورة الأخلاقية، وهي الجوهر الأخلاقي الذي وصل إلى الوعي بذاته”، وهذا يعني أن كل ابتعاد عن الدولة هو هبوط عن الأخلاق وقيمها وفضائلها، فالدولة هي منظومة أخلاقية لإنتظام البشر على جغرافيا واحدة والحؤول دون التصارع بينهم، وهذا ما يناقض الواقع اللبناني الذي يعيش حالة صراعية مفتوحة.

إقرأ على موقع 180  في ماهيّة الإسلام.. الأركان الخمسة والعقلية الذكورية (15)

هل قرأ أغلب السياسين اللبنانيين شيئا عن الأخلاق والدولة؟

هذا سؤال متروك للإمتحان.

تاريخيا، نشأت الدولة بناء على رغبة جماعية في العيش المشترك، هكذا يقول أرسطو ولم يخالفه أحد من فلاسفة السياسة بهذه المقولة “فقد نشأت الدولة عن إئتلاف قوى كثيرة، وعن رغبة في العيش، وهذا يُظهر أن الدولة من الأمور الطبيعية، فالإنسان مدني بطبعه”، ولن يبتعد فريديك انجلز (1820 ـ 1895) بعد أكثر من 2000 سنة في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة” عن هذا التحديد “فالدولة شيء أنتجه المجتمع في مرحلة معينة من نموه، والدولة هي اعتراف بأن المجتمع قد أصبح متعارضا ومتصارعا لا حل له مع نفسه إلا بوجود قوة فوق المجتمع لتخفيف النزاع وحصره داخل دائرة القانون”.

إذا، هنا جوهر المسألة اللبنانية، أي عدم تقبل القوى السياسية في النزول تحت القوانين والإحتكام إليها، ولا تتعلق هذه المسألة بتاريخية لبنان ولا بإستمراره ولا بشرعيته، فكل هذه العناوين النزاعية ليست إلا تغطية لإصرار مريب بعدم الإلتزام بالقوانين ولا بالدستور، وخير دليل على ذلك عدم تطبيق دستور ما بعد “اتفاقية الطائف” والذهاب إلى التفسير المزاجي لغالبية بنوده، وبما يتلاءم مع المصالح الفئوية أو الحزبية لهذا الطرف أو ذاك.

ومرة أخرى تتقدم إلى واجهة الحديث رغبة العيش المشترك بإعتبارها قاعدة لنشوء الدول، وعلى سبيل المقارنة، فإن إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، ترافق إلى حد كبير مع ظهور 13 دولة في أوروبا إثر هزيمة الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية في الحرب العالمية الأولى، ومن ضمن هذه الدول كرواتيا ورومانيا وتشيكيا وسلوفاكيا وغيرها، واستطاعت هذه الدول أن تقدم نماذج للوئام الداخلي والإندماج الوطني حتى لحظة اندلاع الحرب العالمية الثانية واجتياحها من قبل الجيوش السوفياتية وضمها إلى الدائرة الروسية، وهذه الدول نفسها انتظرت تفكك الإتحاد السوفياتي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي لتعيد إحياء أنفسها وتعلن استقلالها وتجدد هوياتها الوطنية، ومنذ عقود ثلاثة تتعايش القوى السياسية فيها تحت سقف دستوري لا يخضع للمزاج، وسلم أهلي أكثر من معقول، ومستوى من العيش الإقتصادي المقبول.

ما عانته تلك الدول على مدى قرن من الزمان، لم يعان منه لبنان في ذورة حربه المشؤومة بين الأعوام 1975 و1990، فحين كانت الدول المذكورة أجزاء من الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية، كان لها هوية إمبراطورية، وبعد استقلالها استعادت هويتها الوطنية عقب الحرب الأولى، ثم أسبغت عليها موسكو الهوية الأممية إثر الحرب الثانية، لتستعيد هوياتها الخاصة بعد سقوط المنظومة الحمراء، وكل هذه التحولات المضاف إليها كوارث الحربين العالميتين، وهما من أسوأ حروب التاريخ، لم تُخرج النُخب السياسية في تلك الدول عن إرادة العيش المشترك والرغبة في بناء دولة بإعتبارها الفضيلة العُليا.

نعم، الدولة ابتكار بشري، والسياسة فن إدارة المجتمع وهي من ابتكارات البشر، والشعب تبتكره النُخبة حين تعمل الأخيرة على التقاربات المشتركة بين الجماعات، وما عدا ذلك ليس من السياسة بشيء، ومشكلة لبنان بل عقدته، حاجته إلى مبتكري أفكار ومخترعي حلول ومفكرين سياسيين غابوا منذ عقود فتحول لبنان إلى ساحة غاب

تلك الفضيلة الغائبة هي ما ينقص العمل السياسي في لبنان، فضيلة بناء الدولة، ولا أي شيء آخر، لا من حيث وجوده التاريخي، ولا من حيث شرعيته، وهنا قد يكون من المناسب القول إن عدد الدول ذات العضوية في الأمم المتحدة 193 دولة، منها 5 ـ 7 دول موغلة في التاريخ، وأما غيرها من الدول، لا وجود تاريخيا لها، فهل يعني هذا الأمر محو 186 دولة من الخرائط وإسقاطها من المشهد السياسي الدولي؟ ذلك ضرب من اللغو.

في التاريخ تضمحل الدول أو تختفي من الوجود لسببين لا ثالث لها، إما بفعل غزو خارجي غاشم او جراء شيوع الخلافات بين الطبقة الحاكمة وعجزها عن إيجاد حلول توافقية، مما يمُدُ في عمر الخلافات ويؤدي إلى انحلال كل شيء، ذاك ما كان حذر منه أفلاطون في كتابه “القوانين”، ولا يبدو أن علماء السياسة قد زادوا على ما قاله أفلاطون شيئا، فمعايير سقوط الدول ما زالت على حالها منذ ذهب الإغريق إلى ابتكار الفلسفة السياسية.

هل تحدثنا عن الإبتكار؟

نعم، الدولة ابتكار بشري، والسياسة فن إدارة المجتمع وهي من ابتكارات البشر، والشعب تبتكره النُخبة حين تعمل الأخيرة على التقاربات المشتركة بين الجماعات، وما عدا ذلك ليس من السياسة بشيء، ومشكلة لبنان بل عقدته، حاجته إلى مبتكري أفكار ومخترعي حلول ومفكرين سياسيين غابوا منذ عقود فتحول لبنان إلى ساحة غاب.

في الخاتمة قليل من الأدب:

يقول عميد الأدب العربي طه حسين إن رأس الشعراء العرب المتنبي، كان شعره على كساد، وحين أتى لبنان غدا شعره عالي القيمة، يقول المتنبي:

بيني وبين أبي علي مثله/ شمُ الجبال ومثلهن رجاء

وعُقاب لبنان وكيف بقطعها/ وهو الشتاء وصيفهن شتاء

لبس الثلوج بها على مسالكي/ فكأنها ببياضها سوداء.

تخيلوا الأدب العربي بلا المتنبي.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  بالعمل والإنجاز نحارب الفساد.. لا بالتسول والسرقة