سعد محيو07/08/2020
حتى لو كان الاهمال والفساد هما وراء كارثة بيروت ومرفأها، فإسرائيل هي وراء هذا الوراء. وحتى لو أثبتت التحقيقات المحلية، والدولية إن جاءت، أن الكارثة كانت حادثاً عرضياً، فإسرائيل ستكون المحرّك لهذه العَرَضِية. وحتى، أخيراً، لو أتفقت كل الأطراف المحلية والإقليمية، كلٌ لأسبابه المصلحية الخاصة، على أن الرئيس الأميركي ترامب وقادته العسكريين أخطأوا حين قالوا أن "هجوماً أو قنبلة" سبّبا 11 سبتمبر اللبناني أو هيروشيما بيروت، إلا أنه تبقى الحقيقة بأن إسرائيل كانت هي من قام بالهجوم، أو زرع القنبلة، أو أطلق الصاروخ على العنبر الرقم 12.
لا تتسرّعوا في الحكم على هذه “الافتراضات المؤكدة”. ما نقول ليس نسخة جديدة أو قديمة من نظرية المؤامرة ذائعة الصيت، في منطقة تعيش منذ نيف ومائتي سنة على وقع مؤامرات حقيقية (منذ مؤامرة احتلال مصر في القرن التاسع عشر والاحتلال الغربي المالي للدولة العثمانية، إلى مؤامرة صفقة سايكس- بيكو السرية وإقامة دولة إسرائيل في القرن العشرين، انتهاء بمؤامرة تفجير الإقليم المشرقي وإعادة احتلاله مباشرة أو عبر التدمير الخلاّق في القرن الحادي والعشرين).
ما نقول يستند إلى وقائع هي في منزلة ثقيلة من الواقعية. وقائع تقول أن الدولة العبرية تعيش هذه الأيام ما قد يكون أعلى درجات الشعور العميق بالخطر على الوجود، وعلى الدور الإقليمي، وحتى على البقاء كـ”دولة قومية عادية”. وهذا قد يدفعها إلى مقامرات خطرة قد لا تخطر على بال.
لماذا هذه المشاعر، فيما دولة بن غوريون تبدو في ذروة معطيات قوتها الاستراتيجية، مع انهيار كل الدول العريية المجاورة لها في سورية والعراق ولبنان وفلسطين، ومع استمرار حجز مصر في صندوق حديدي وإحكام إغلاقه خارجياً (إثيوبيا، ليبيا، السودان، غزة والضفة)، وداخلياً (الانفجار الديمغرافي- الإيكولوجي المترافق مع حظر الاقتصاد الانتاجي)، ومع ضياع البوصلة الإديولوجية والسياسية في الخليج بفعل تراقص تلك المنطقة على حبل مشدود بين الخوف الخارجي، الوجودي هو الآخر، من إيران ومن الانحسار الأميركي، وبين القلق الداخلي من مضاعفات واستتباعات الحداثة والتحديث على الاستقرار الاجتماعي- السياسي؟
ببساطة، لأن العقل التخطيطي- الاستراتيجي الإسرائيلي يدرك تماماً أن ما سيجري خلال الشهرين المقبلين في المشرق المتوسطي، أي قبل الانتخابات الأميركية في 3 تشرين الثاني/نوفمبر، سيحددان مصير الدولة العبرية ربما لسنوات عدة:
– ففي حال لم تنجح تل أبيب في جر الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران، خلال هذه الفترة التي تحظى فيها بإدارة أميركية مُستعدة لفعل أي شىء تطلبه، من تهويد القدس إلى ضم الجولان والضفة مروراً بالطبع بالحرب المشتركة غير المعلنة على الداخل الإيراني، فإن أي إدارة أميركية جديدة حتى لو كانت برئاسة ترامب نفسه، ستكون في وارد التعايش مع إيران نووية، والأرجح أيضاً عقد الصفقات الاقليمية معها في أفغانستان والعراق إن لم يكن أيضاً في سوريا ولبنان.
– إيران النووية ستولد حتماً في مطالع العام 2021. فانسحاب ترامب من الصفقة النووية معها حرّرها من القيود على تطوير قدراتها ليس فقط التقنية بل أولاً وأساساً المعرفية ( The know how). وحينها ستكون المسألة مسألة وقت قبل أن تتمكّن طهران من إعلان انضمامها رسمياً إلى النادي النووي العسكري العالمي، مُكررة بذلك خيار الردع الذي حذته قبلها كوريا الشمالية.
إيران تمارس ضبطاً للنفس خارقاً للعادة وفق كل المعايير، برغم الضربات المُوجعة التي تتلقاها في الداخل الإيراني وسوريا (لا ننسى هنا ضربة قاسم سليماني المدمّرة) لدفعها إلى الرد وبالتالي للانخراط في حرب إقليمية. وهذا ما يدفع تل أبيب إلى التخطيط لضربات
– وبالطبع، إيران النووية ستعني حتماً تقريباً وتباعاً تركيا النووية، ومصر النووية، والسعودية النووية. وهذا سيحيل إلى رفوف التاريخ مسألة الردع النووي الإسرائيلي، ويجعل من الدولة العبرية مجرد كيان خاضع إلى موازين عسكرية تقليدية لن تكون بأي حال ملائمة لها، في ضوء تحوّل الدول المحيطة به إلى مجتمعات مسلّحة وخبيرة بحروب العصابات التي لا تنتهي، والتي كانت حرب 2006 (لبنان) وحروب غزة عيّنة، لا بل مجرد عيّنة أولى، على طبيعة ونوعية الحروب الجديدة في المشرق. هذا ناهيك عن دخول الصواريخ العابرة للمجالات الحيوية الجغرافية على خط موازين القوى الاستراتيجية، وعن مدى قدرة الجيش الإسرائيلي على توفير أثمن ما يجول في خاطر أي إنسان يهودي: الأمن السايكولوجي الشخصي والأمان المجتمعي في الداخل.
– ثم، في العام 2021، وفي حال عدم نشوب حريق إقليمي كبير، سنكون على موعد مع تغييرات قد تكون جذرية في موازين القوى الدولية في المشرق، دافعها الرئيس رغبة الولايات المتحدة في تقليص التركيز على الشرق الأوسط وأوروبا ونقل جل اهتمامها إلى شرق آسيا/ الباسيفيك التي يتركّز فيها الآن ما بين 60 إلى 70 في المئة من التجارة العالمية. هذا التوجّه لم يبدأ مع ترامب بل مع الرئيس أوباما الذي وضعت إدارته استراتيجية “التمحور” نحو الشرق (Pivot) ، والتي كانت إحدى محصلاتها الرئيسة الصفقة النووية مع إيران.
– وبالطبع، حين ينحسر النفوذ الأميركي عن المنطقة، ستكون الصين وروسيا وأوروبا أكثر من جاهزة لملء الفراغ، جنباً إلى جنب مع القوى الإقليمية الرئيسة في المشرق: تركيا وإيران ومصر والسعودية.
***
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
أمراً واحدا: ما لم تشعل إسرائيل الحريق الكبير في المشرق، من طهران إلى بيروت أو بالعكس، سيكون في انتظارها بعد الانتخابات الأميركية مشرق متوسطي جديد كلياً لن تستطيع فيه التعرّف على نفسها لا في المرآة ولا حتى في تضاعيف التوراة والتلمود. مشرقٌ ستكون فيها لكل القوى الاقليمية العربية والاسلامية حصص كبيرة في نظامه الإقليمي للمرة الاولى منذ انهيار الدولة العثمانية غداة الحرب العالمية الأولى. وهذا سيكون بعينه كابوساً استراتيجياً داخل الكابوس السايكولوجي الذي أبدع أحمد داوود أوغلو في وصفه (في كتابه “العمق الاستراتيجي”) حين قال أن كل جهود السلام في الشرق الأوسط لن يكون لها من طائل، لأن المشكلة لدى يهود إسرائيل نفسية في الدرجة الاولى: التناقض بين كونهم شعب الله المختار وسادة العالم، وبين كراهية شعوب العالم لهم ومشاعر الاضطهاد التي يعيشونها من دون توقف منذ 2000 سنة.
إيران تدرك جيداً على ما يبدو هذه المعطيات الإسرائيلية. ولذا تمارس ضبطاً للنفس خارقاً للعادة وفق كل المعايير، برغم الضربات المُوجعة التي تتلقاها في الداخل الإيراني وسوريا (لا ننسى هنا ضربة قاسم سليماني المدمّرة) لدفعها إلى الرد وبالتالي للانخراط في حرب إقليمية. وهذا ما يدفع تل أبيب إلى التخطيط لضربات لن يكون أمام إيران من مناص أمام شعبها سوى التفاعل الانتقامي.
أين ومتى قد يحدث ذلك؟
خلال الشهرين المقبلين.
***
هل أدركنا لماذا كارثة بيروت تحمل دمغة “صُنِعَ في إسرائيل”؟