جاهد جبران باسيل طويلاً في طريق الرئاسة. استطاع أن يفرض نفسه على الحلفاء والخصوم. الرجل الأقوى مسيحيا والأكثر تمثيلا في الشارع والبرلمان. سعى لأن يتمدد عربيا وإقليميا ودوليا. لم ينجح كثيرا لان الدول الفاعلة عربيا آثرت دعم خصومه من سمير جعجع الى وليد جنبلاط وغيرهما على أساس انهما قادران على مواجهة حزب الله بينما هو متحالف معه. لم ينجح غربياً لان الغرب اقفل الأبواب بوجهه بسبب تحالفه مع حزب الله، وقد ينتقل من اقفال الأبواب الى فرض عقوبات أميركية تقضي على فرصة باسيل الرئاسية.
أما الفريق السياسي اللبناني الذي جاهد لمنع ميشال عون من بلوغ سدة الرئاسة الأولى ومعها إستعادة مراكز القوة المسيحية التي ضعفت بعد اتفاق الطائف، فقد نجح ليس فقط في تطويق رئاسة الجمهورية، وانما أيضا الإفادة من الأخطاء الكثيرة التي راكمها جبران باسيل، لقطع الطريق عليه رئاسياً. تمثّل النجاح الأبرز لهذا الفريق في تحميل باسيل والعهد معظم مآسي الوطن من فساد وتفكك وفقر وفقدان ثقة بالليرة الى انعدام الكهرباء والماء وصولاً الى تفجير مرفأ بيروت. هذا الفريق قدّم نفسه بالمقابل نزيها عفيفا لم يرتكب شيئا من الموبقات على مدى ٣٠ عاما.
استعجل جبران باسيل كل شيء، فكاد يفقد كل شيء، ومن يعمل كثيرا يخطئ كثيرا، فهل فقد كل ما يسعى اليه؟
جبران باسيل ليس من النوع الذي يستسلم بسهولة. غالبا ما كان يوسّع هامش كلامه من دعم المقاومة الى اعتبار “ان لا صراع أيديولوجيا مع إسرائيل”، ومن الدعوة للانفتاح على سوريا الى الاحتفال بـ”لوحة جلاء” الجيش السوري عن لبنان او الى استقبال صديقه الشخصي آليوت انجل الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي (احد مهندسي قانون قيصر والذي ما ترك قضية عربية الا ووقف ضدها لصالح عدو العرب). أوحى باسيل في هذه المسافات السياسية والدبلوماسية المتناقضة، بأن لا شيء ثابتاً في سياسته الا حقوق المسيحيين التي يرفع لواءها سواء عن قناعة منه بضرورة استعادة ما اخذه إتفاق الطائف من المسيحيين، او لمنع خصمه سمير جعجع من ركوب موجة الحقوق المسيحية.
تشوهت صورة جبران باسيل، فساهمت في تشويه صورة سيد قصر بعبدا. حمّله ثوار انتفاضة تشرين/أكتوبر المسؤولية الكبرى في ما آلت اليه أوضاع الوطن. لعبت اخطاؤه دورا مهما في جذب نقمة الناس، خصوصا ان الكهرباء التي وعد بها طويلا لم تأت، ولا جرت محاكمة فاسد واحد
مواقف جبران باسيل البراغماتية الى حد الدهاء، وحيويته، وقدرته على العمل ساعات طويلة، من دون ان يغفل رياضة كرة القدم، ومتابعته الشخصية لأدق الملفات، كان يُمكنها كلها ان تجعل منه أحد أهم وزراء خارجية لبنان، لكن الرغبة اللعينة بكرسي الرئاسة، جعلته يتسرّع في كل شيء، فتخرج الملفات الرابحة من يده، واحدة تلو الأخرى، كما يخرج الزئبق من يد الراغب بالقبض عليه؟
جبران باسيل يراكم الأخطاء، ويرتكب الشطحات في التصريحات، فيوسع هامش الهجوم عليه من قبل الخصوم والحلفاء، ويساهم من دون ان يدري في تشويه صورة الرئيس ميشال عون الذي جاء صادقا بمشاريع إصلاحية لبناء دولة مدنية ودولة مؤسسات، محاولاً وضع حد لمافيا السياسة والمال، فاذا به ينهمك بهاجس الحفاظ على جبران باسيل وتعزيز دوره وتصحيح اخطائه حتى يكون خليفته في التيار والرئاسة، برغم ان ميشال عون ابن عائلة متواضعة، وهو لم يأت الى السلطة بالتوريث ولا كان في فمه ملعقة من ذهب حين ولد وعاش في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت.
تشوهت صورة جبران باسيل، فساهمت في تشويه صورة سيد قصر بعبدا. حمّله ثوار انتفاضة تشرين/أكتوبر المسؤولية الكبرى في ما آلت اليه أوضاع الوطن. لعبت اخطاؤه دورا مهما في جذب نقمة الناس، خصوصا ان الكهرباء التي وعد بها طويلا لم تأت، ولا جرت محاكمة فاسد واحد، وأدخل العهد في عملية المحاصصة، ما جعل خصومه الذين عشش الفساد في تجربتهم الطويلة في الحكم يسعون لتقديم انفسهم أبرياء وهو المخطئ والمرتكب الوحيد في الجمهورية.
هل انتهى جبران باسيل؟
لو صدق ما يتسرب عن شروط جبران باسيل بالنسبة للحكومة العتيدة، فهذا يعني أن الرجل يكابر على النكبات والكبوات التي أصيب بها، ويناكف الجميع يقينا منه بأنه “ضحية”، ويعني كذلك أنه ماض في المعركة حتى نهايتها مهما كلّف الأمر، وهو بذلك يُذكّرنا بالعماد ميشال عون، العسكري المتمرّد الذي كان يعرف ان المعركة غير متوازنة مع سوريا وحلفائها في لبنان لكنه خاضها.
يخشى جبران باسيل انه في حال لم يكن جزءا من الحكومة التي قد يرأسها سعد الحريري، يمكن أن تؤدي التجربة إلى القضاء على ما بقي من عهد، كما ان دوره سيضعف وحظوظه بالرئاسة ستضيق حتى التلاشي ومصالحه ستُضرب في الصميم.
اذا تجاوب مع المطالب الغربية والعربية بالابتعاد عن حزب الله، يفقد حظوظه بالرئاسة والسلطة، وان بقي على تحالفه القوي مع الحزب، سيتعرّض لعقوبات دولية… ليس أمامه سوى إعادة فرض نفسه قوة حقيقية في المجتمع المسيحي وإعادة نسج علاقات حقيقية مع الدول العربية
لكن الرجل الذي ابتعد عنه بعض رفاق الأمس، وانشق عنه عديله النائب شامل روكز وعدد من الوجوه الحزبية، لم ينته بعد. أمامه فرصة للابتعاد عن ممارسة السلطة والانتقال الى المعارضة وهذا الأمر سيسهل معارضته للحكومة الجديدة، نظرا لقلة الموارد وكثرة المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية الضخمة. هذه فرصة أيضاً لإعادة تنشيط التيار الذي نجح في المعارضة وضعف في السلطة، ذلك ان معركة باسيل الحالية متعددة المصادر، أبرزها من القوات اللبنانية في بيئته المسيحية، وثانيها مع خصوم الداخل الذي ازداد عددهم بدل ان يتراجع، وثالثها مع المجتمع الدولي الذي قد يضعه على لائحة العقوبات.
لن يستطع جبران باسيل الثاني ان يجتاز الخطر الكبير الحالي، اذا عاد الى السلطة، فكثير من الناس باتوا ضده، اما بسبب أخطاء يحملونه مسؤوليتها، او بسبب نجاح الدعاية المضادة. وبالتالي فان ابتعاده عند الحكومة صار شرطا دوليا وعربيا، وليس اكثر برهانا على ذلك من احجام عدد من الدبلوماسيين الأجانب والعرب عن زيارته مؤخراً.
ليس امام جبران باسيل سوى فرصة أخيرة ووحيدة، وهي ان ينتقل الى المعارضة، ويقوم بعملية نقد ذاتي كبيرة ومراجعة لكل الأخطاء، ويعيد اطلاق التيار الوطني على أسس جديدة وبوجوه جديدة حتى ولو ابتعد هو نفسه عن رئاسته.
بغير ذلك، سيفقد باسيل كل شيء وخصوصا الأمل في الترشح للرئاسة، كما سيساهم في القضاء على ما بقي من عهد عمه الرئيس ميشال عون.
لكن المشكلة الكأداء عند جبران باسيل هي التالية: اذا تجاوب مع المطالب الغربية والعربية بالابتعاد عن حزب الله، يفقد حظوظه بالرئاسة والسلطة، وان بقي على تحالفه القوي مع الحزب، سيتعرّض لعقوبات دولية… ليس أمامه سوى إعادة فرض نفسه قوة حقيقية في المجتمع المسيحي وإعادة نسج علاقات حقيقية مع الدول العربية، لان الغرب لا يُعاقب عادة الأقوى تمثيلا بين المسيحيين، ولان العرب ليسوا أعداء للمسيحي في لبنان وانما غالبا ما يحتضنونه، ولان حلفاءه وخصومه لا يرغبون بتقدم سمير جعجع صوب الرئاسة… لا شك انها مهمة صعبة جدا، لكنها غير مستحيلة، فوضع العماد عون سابقا كان أقسى واشد صعوبة وكان من المستحيل وصوله الى الرئاسة ولكنه وصل.