عثمانية أردوغان.. تنبىء بـ”حروب إسلامية”

 ثمة من يردد أن سياسات حزب العدالة والتنمية، بوصفه الحزب الحاكم في تركيا، سواء في الداخل التركي أو على الصعيدين الإقليمي والدولي، إنما تعبّر عن إندفاعة بعنوان "العثمانية الجديدة".

في زيارتيه المتتاليتين إلى بيروت، لم تحجب أهوال إنفجار مرفأ بيروت عن بال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، “التحدي التركي” الذي يضع أوروبا، ولو بشكل متفاوت في حالة إشتباك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

 لم يتأخر الرد. حضر نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، فكان له إستقبال شعبي مفبرك في منطقة الصنائع في بيروت، أعلن بعد جولات شملت عددا من المسؤولين والمماطق المدمرة عن بدء الإجراءات اللازمة لمنح الجنسية التركية للتركمان والأتراك اللبنانيين الذين لا يحملونها، وعرض الإستفادة من ميناءي مرسين والإسكندرون القريبين من بيروت، ثم توالت تصريحات القيادات التركية كوزير الخارجية جاويش اوغلو الذي قال لصحيفة “ديلي صباح” أنّ فرنسا ما زالت تطبق العقلية الاستعمارية على سياساتها في الشرق الأوسط، وزيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة للبنان وتصريحاته بعد انفجار الميناء الذي دمر بيروت هي خير دليل على ذلك.

العثمانية الأولى

يشير المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية”، أن عام 924 م لا يُعتبر نقطة تحول في التاريخ التركي فحسب، بل في التاريخ الإسلامي والعالمي أيضًا، لأنّه أرّخ للحظة إعلان الخاقان الأكبر الذي أسلم وسمى نفسه عبد الكريم، أن الدين الإسلامي (السني الحنفي) هو الدين الرسمي الوحيد للخاقانية والسلالة التركية.

بعد هذا التاريخ، يستعرض أوزتونا بدء ظهور التأثير التركي على مسار العالم الإسلامي، من قيام الدولة السلجوقية التي خلفها على التوالي: الخوارزميون، الزنكيون، المغول، الإمارات التركية في الهند، المماليك، الإمبراطورية التركية في إيران، الدولة الصفوية، القاجاريون، وصولاً إلى ولادة العثمانية في بدايات القرن الثالث عشر للميلاد.

يُعتبر أرطغرل والد عثمان الغازي الذي تُنسب العثمانيّة له، الشّخصية التأسيسيّة لمجد وقيام السلطنة (أنتجت تركيا وقطر مسلسلًا ضخمًا عن هذه الشخصيّة)، والتي بحسب المؤرخ التركي نفسه، ساهمت عوامل عديدة في بروزها وتمايزها ومن ثم تفوّقها على باقي أمراء المقاطعات الحدودية الأتراك. العامل الأوّل سياسي ـ جغرافي، بحيث جعل إمارة أرطغرل مباشرة على حدود العدو البيزنطي الخطر، ممّا نتج عنه حالة استعداد وحذر وجهوزيّة دائمة للحرب. أمّا العامل الثّاني، فهو مزيجٌ من الصّفات النّفسيّة والجسميّة الّتي ميّزت “عثمان أوغلو” (بنو عثمان)، فإضافة إلى القدرة الفائقة على التنظيم والتخطيط، كان الدّهاء واحدًا من ميزات هؤلاء الأمراء.

انحياز الولايات المتحدة للمرّة الأولى، لصالح طرف غير مؤسّسة الجيش، وهو حزب العدالة والتنميّة، حسم هويّة تركيا الجديدة، تركيا الأطلسية بنموذج إسلامي معتدل ترضى عنه الولايات المتحدة

تحرّر السياسة الخارجيّة التركيّة

بعد سقوط السلطنة العثمانية، جهِد مصطفى كمال أتاتورك للحفاظ على الأجزاء الأساسيّة والحيويّة لجمهوريّته النّاشئة، وسعى للتخلص من الإرث القديم للعثمانيّة، واختط نهجًا جديدًا في السياسة الخارجيّة يقوم على الإنكفاء إلى الدّاخل والإبتعاد عن المحاور من أجل إعادة بناء الدّولة التركيّة. غير أنّ ذلك لم يدم طويلًا، فقد أفرزت نتائج الحرب العالميّة الثانيّة قوتين عالميتين جديدتين: الولايات المتحدة الأميركية والإتّحاد السوفياتي.

كان من المنطقي أن تنحاز تركيا لمحور الولايات المتحدة، فيكفي ذكر الإتحاد السوفياتي كوريث للقيصريّة الرّوسيّة، كي تستنفر الذّاكرة التركيّة وتتأجّج بالعداء لهذا المحور. شكّل وجود الإتّحاد السّوفياتي ثقلًا وعبئًا على سياسة تركيا الخارجيّة، فأصبحت عضوًا في حلف شمالي الأطلسي (الناتو) عام 1952، لتغدو على امتداد الحرب الباردة، جزءًا لا يتجزّأ من المنظومة الغربيّة وامتدادها في غرب آسيا.

لكن مع انهيار الإتحاد السوفياتي عام 1991، وظهور دول مستقلّة جديدة، فجأة لم تعد تركيا، كما يشرح المتخصّص بالشأن الإسلامي والتّركي غراهام فولر، على حدود روسيا، وهو تحوّل جيوسياسي ضخم. ثم يُضيف، بأن الأتراك أعادوا التفكير في وضعهم في العالم من منظور جديد تمامًا، وبدأت تركيا في إعادة تصوّر نفسها بشكلٍ أكبر في المنظورات الجيوسياسية التاريخيّة للإمبراطوريّة العثمانيّة، التي كانت تمثّل قلب الإسلام السني ومقرّه، والتي بحسب الكاتب، هذه واحدة من العديد من القضايا التي ما زالت السعودية تشعر بها، والتي لا يمكنها حتى التظاهر عن بعد، بأنّها منافسةٌ سياسيّة أو ثقافيّة أو صناعيّة أو حتّى عسكريّة لتركيا.

ظلّت تركيا تصارع ما بين العامين 1992 و2002 على هويتها الآخذة بالتشكل بعد التغيّر العالمي الكبير الذي أعقب إنهيار الإتحاد السوفياتي، وهو ما عبر عنه صراحة رئيس الحكومة الرّاحل بولند أجاويد في تلك الفترة، حيث اعتبر أن الأزمة لم تعد أزمة حكم بل أزمة نظام. لكن انحياز الولايات المتحدة للمرّة الأولى، لصالح طرف غير مؤسّسة الجيش، وهو حزب العدالة والتنميّة، حسم هويّة تركيا الجديدة، تركيا الأطلسية بنموذج إسلامي معتدل ترضى عنه الولايات المتحدة، كما عبر عن ذلك لاحقًا الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في خطابه الشهير في أنقرة، وإستكمله في القاهرة بحديثه عن بداية جديدة في علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي، وذلك عشية ما يسمى “الربيع العربي”، لتدخل سياسة تركيا الخارجيّة طورًا جديدأ ومختلفا بشكل جذري عن تلك السياسة التي وضع أسسها باني الدولة التركيّة الحديثة كمال أتاتورك.

إقرأ على موقع 180  "من الآخر".. من يجمع باسيل بالحريري؟

عثمانيّة أردوغان وعثمانيّة محمّد الفاتح

تميّز صعود أردوغان واحتكاره للسلطة في تركيا وإن عبر المسارب الديموقراطية، بإعادة ترداد مصطلح العثمانيّة وانبعاثها من جديد. فكلّما تراجعت قبضة الأتاتوركيّين وسطوتهم، كانت العثمانيّة بتاريخها وأمجادها تتوهج حضورًا في خطابات وأداء أردوغان، لكنّها غالبًا ما تبدو إستعراضية شكلية (كاستعراض زيّ المقاتلين العثمانيّين على مدى سنوات التاريخ التركي في القصر الرئاسي الجديد) أكثر من كونها استحضارًا حقيقيّا لروح العثمانية الحقيقيّة وعقيدتها الأساسيّة.

هناك فارق كبير بين حروب وفتوحات بني عثمان الذين أسقطوا بيزنطا إمبراطورية الغرب المسيحيّة الأولى، وشكّلوا تهديدًا وجوديّا لباقي إمبراطوريّات أوروبا، وبين عثمانيّة أردوغان الغارقة بـ 480 مليار دولار ديناً خارجياً، تُمسك بعنقه دول الغرب

في هذا السياق، فإنّ المقارنة والمقاربة بين “العثمانيتين” تبدو ساذجة وظالمة، وبالتالي لا بدّ من تسجيل وذكر عددٍ من الملاحظات المهمة:

أوّلاً، يُحسب للعثمانية تأسيس نموذجها الخاص والمتمايز، والتي شكل الجهاد عاملًا مهمًا لتلك الدولة وتطورها، كما يذكر خليل إينالجيك في كتابه “تاريخ العثمانية من النشوء إلى الإنحدار”. لقد قدّمت نموذجا حضاريا خاصّا مُشبعًا بالجهاد الدائم لتوسيع دار الإسلام ليشمل العالم كلّه. في المقابل، فإن عثمانيّة أردوغان لا تمتلك نموذجها الحضاري الخاص والمميز، فالنظام السياسي والإقتصادي والتعليمي والثقافي التركي يشكل امتدادًا لحضارة وثقافة الغرب، فتركيا جزء من الغرب، وهو ما أعاد تثبيته وزير خارجية ورئيس وزراء حزب العدالة والتنمية الأسبق داوود أوغلو حين حسم موقع تركيا قبل سنوات أنّه “ضمن البلوك الغربي”. ويكمن الهدف من استعارة الخطاب الإسلامي بالدرجة الأولى، في كونه وسيلة شعبوية جذابة تُدغدغ روح النّاخب وتستقطب إسلاميّي الأمّة.

ثانيًا، إرتكز صعود العثمانيّة على التوسع باتّجاه الغرب، حيث سيطر الأتراك في النصف الثاني من القرن الرابع عشر على الطرق الرئيسية في شبه جزيرة البلقان. وطوال مرحلة الصعود منذ القرن الثالث عشر ولمدة ثلاثة قرون تقريبًا، تركزت حروب العثمانيين ناحية أوروبا، “وفي هذا الإطار نقل غريغوري بالاماس مطران سالونيك التي فتحها العثمانيون عام 1354م بعد غاليبولي كلمات الذين أسروه: إنّ التقدّم المستمر للإسلام من الشّرق إلى الغرب يمثّل دليلًا واضحًا على أنّ الله يُساعدهم، وعلى أنّ الإسلام هو الدّين الصّحيح” كما يورد إينالجيك في كتابه.

بعد انتصاراتها الكبيرة في أوروبا، تحرّكت العثمانية نحو الإمارات الإسلاميّة وأخذت تسيطر عليها الواحدة تلو الأخرى. بينما افتتح أردوغان مشاريع توسعه باتجاه الدول العربية (الإسلامية)، كسوريا والعراق وقطر وليبيا وتونس وفلسطين واليمن وقطر، في حين أنّه يحاذر الإشتباك المباشر مع أي دولة غربيّة (مسيحية)، بل يكتفي بالإستعانة بخطابات عالية النبرة، سرعان ما تتراجع أمام تقاطع المصالح.

ثالثًا، اعتمدت العثمانية في بدايات تمدّدها وانتشارها على قوّاها الذّاتيّة ومساندة بعض الإمارات الإسلامية لها، وكانت تحوز على شرعيّة السلطة الإسلاميّة حين انطلاقها، لتصبح لاحقًا هي الشرعيّة الوحيدة للأمة الإسلاميّة. أمّا اليوم، فإنّ تمدّد أردوغان وانتشاره، فيحظى بتغطية من الولايات المتحدة الأميركية، التي تنحاز لسياسات أردوغان في ظلّ رئاسة دونالد ترامب.

الفارق الكبير

إذًا هناك فارق كبير بين عثمانيّة محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية ودخل كنيسة آيا صوفيا ثم حوّلها إلى مسجد وصلّى فيه، في مرحلة احتدام الصّراع الإسلامي المسيحي، وبين عثمانيّة أردوغان الذي ألغى قرار تحويل المسجد إلى متحف وأعاده إلى سابق عهده، ليكون السفير الأميركي في أنقرة ديفيد ساترفيلد، أول الدبلوماسيين الذين زاروا المسجد ولم يستفزّهم هذا التحوّل.

وهناك فارق كبير بين حروب وفتوحات بني عثمان الذين أسقطوا بيزنطا إمبراطورية الغرب المسيحيّة الأولى، وشكّلوا تهديدًا وجوديّا لباقي إمبراطوريّات أوروبا، وبين عثمانيّة أردوغان الغارقة بـ 480 مليار دولار ديناً خارجياً، تُمسك بعنقه دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

وهناك فارق كبير بين السلطنة العثمانيّة التي أنهت شرذمة الأمة الإسلاميّة بعد أن توزّعت إمارات ضعيفة وعاجزة، ووحدتها تحت مظلّة سلطان الأناضول القوي، وبين عثمانيّة أردوغان المنخرطة في حلف شمال الأطلسي والمتحالفة مع إسرائيل، والّتي تخوض حروبها العسكريّة وتتوسّع بدعم أميركي في الدول العربية، بما يحقّق مصالح الولايات المتحدة وتركيا.

من الإجحاف التقليل من أهميّة ما أنجزه أردوغان على صعيد السياسة الخارجية، وهو إنجاز يُستثمر داخليًا في الصّراع المحتدم على السّلطة. إلّا أنّ عثمانيّة أردوغان تنبىء باشتعال صراعٍ إسلامي ـ إسلامي، بدأت تتحقّق مراحله الأولى في أماكن عديدة، وتظهر ملامح صراع أكثر ضراوة واشتعالًا منه في المرحلة القادمة.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  مستقبل تركيا غامض.. حتى لو فاز اردوغان!