خفايا النقاط الخمس.. والخطة اللبنانية المفقودة

التكنولوجيا السَحابية الرقمية أخذت كثيراً من دور الجغرافيا. لم تفقد الجغرافيا الطبيعية دورها كليَّاً لكنها فقدت جزءاً مهمّاً، إلَّا ما كان في العمل الميداني البرّي المباشر.

تغيّرت الحسابات الإستراتيجية في عصر عسْكرةِ الفضاءِ. الأقمار الاصطناعية، طائرات الرادار الإلكترونية، والمسح الحراري نهاراً وليلاً، حوَّلت السماء إلى برج مراقبة كونيّ. لم يَعُدِ الرصد العسكري منفرد الاعتماد على طبيعة المرتفعات والسهول والشواطىء. بات الفضاء الإكتروني هو الأصل، وباتت للتضاريس معانٍ سياسية وديموغرافية تتجاوز المعاني العسكرية، وربما تكون أشدَّ منها خطورةً. هذه النقاط هي جوهر الانسحاب الإسرائيلي الناقص من جنوب لبنان، فلماذا بقيت إسرائيل في النقاط الخمس التي تربط شرق الجنوب وغربه بفلسطين المحتلّة وسوريا، وتتصل بخطِّ نقاط أميركي – إسرائيلي يمتدُّ حتى الجولان ومرتفعات الجنوب السوري ويلامس حدود العراق، ويلتف على دمشق وبيروت، في إطارمخطط مشترك بين واشنطن وتل أبيب للتغيير الديموغرافي والجغراسي في الشرق الأوسط.

البقاء في النقاط الخمس سيُستخدَمُ لاحقاً لممارسة ضغوط على لبنان، تجعله قريباً من حالة فرض اتفاقيات سياسية عليه مع الأميركي ومع الإسرائيلي في وقت واحد، وستكون أفكار التطبيع أخطرها

عندما أعطت واشنطن إسرائيل الضوء الأخضر للبقاء في ما بات يسمَّى النقاط الخمس، مارسَتا معاً أعلى درجات الكذب وأسوأ حالات انتهاك القرار1701، برغم الثغرات في آليّته لوقف إطلاق النار. لم تنطلِ الأكاذيب على أحد بمن فيهم شريحة واسعة داخل الكيان الإسرائيلي نفسه. تقول تل أبيب إنها تريد هذه النقاط لحماية المستوطنات الشماليّة، ولمراقبة تحركات المقاومة في الجنوب. لماذا تحتاج إلى هذه التلال طالما الرصد الإلكتروني متوافر لديها على أعلى المستويات؟ المسألة خلاف ذلك تماماً. إنها معركة ضغوط سياسية هائلة، تُخاض من مسمار جحا في تلك التلال على لبنان، وهْيَ لا تخلو من التلويح الإسرائيلي بتحويلها في أيِّ لحظة إلى ضغوط عسكرية. وهذه الضغوط تمثِّل التحدِّي الأكبر للحكومة اللبنانية الجديدة التي عليها الاستعداد لمعركة دبلوماسية قاسية ومحفوفة بالمخاطر في إطار المجتمع الدولي.

العدوُّ الإسرائيلي يربط هذه التلال بمشروع دونالد ترامب للتغيير في الشرق الأوسط انطلاقاً من بلاد الشام. لا يعني ذلك أن هذا المشروع سينجح بالضرورة، لكن المخاوف قائمة في ظل اتساع الضعف والخذلان العربيّيْن. وفي هذه الحالة، يحضِّرُ العدوُّ الإسرائيلي نفسه لتكون النقاط الخمس ممرات طبيعية لمحاولة تهجير أعداد من الفلسطينيين نحو لبنان وسوريا، وهكذا فإن النقاط الخمس هي ركائز لمشروع سياسي خطير وليس للمراقبة ولا للحماية.

وبمعزلٍ عن مشروع التهجير من غزة إلى الأردن ومصر، فإنَّ البقاء في النقاط الخمس سيُستخدَمُ لاحقاً لممارسة ضغوط على لبنان، تجعله قريباً من حالة فرض اتفاقيات سياسية عليه مع الأميركي ومع الإسرائيلي في وقت واحد، وستكون أفكار التطبيع أخطرها. ولن ننسى أبداً مخاطر بقاء الاحتلال في النقاط الخمس على إعادة الإعمار في الجنوب، إذْ ستكون هذه العملية مهددة في أيِّ لحظة بانتهاك القرار1701 بأيِّ ذريعةٍ إسرائيلية.

إذاً، لا مراقبة ولا حماية بل مشروع سياسي – عسكري يتحدّى لبنان وحدةً ووجوداً واستقراراً، ويتحدّى الحكومة اللبنانية والعهد الجديدين. ولا شكَّ في أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى خطة نوعية لمواجهة هذا التحدِّي، وكلّما تأخَّرت هذه الخطة استفحلت التحدّيات.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  روسيا – بيلاروسيا.. لا أخوة ولا أعداء
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  سوريا والمشرق.. لعنة الجغرافيا أم دُرَّتُها (2)؟