لم يترك رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع شيئاً إلا وفعله ليُثبت “نُدرتَهُ” السياسية. حيناً يطُل كمن ينتظر دعوى تطويبه قديساً. أحياناً أُخرى يُظهر “مثالية سياسية” أولويتها أخلاقية، لكن سرعان ما تتبدد هذه الصورة مع استذكار “اتفاق المحاصصة على المسيحيين” (تفاهم معراب). في أحايين ثالثة، يبدّد الرجل أوقاته بـ”إرشاد” الساسة اللبنانيين إلى جادة الصواب السياسي لبناء لبنان المُرتجى بمخيلته. ولذلك، يضرب خبط عشواء بالجميع لأن أحداً لا يستجيب لنداءاته الصادرة من قلعة معراب. عليه، فإن غالبية الساسة اللبنانيين هم حقل رماية لأهدافه: يستهدف الرئيس سعد الحريري، ولا يوفر “حزب الله”. ولا يستثني رئيس حزب الكتائب سامي الجميل. ولا يستبعد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، حتى الجيش اللبناني لم يسلم منه ومن رؤاه، وكان ذلك في تقرير أعدته دائرة اغتراب قواتية ورفعته إلى إحدى عواصم القرار منذ نحو عامين.
لا يزال “الحكيم” أسير ماضيه الحربي. يصدر عن عقل طائفي يستحوذ على غالبية القوى السياسية الوازنة في لبنان. هذا العقل وظيفته تعيين آخر يُعاديه. فالطوائف لا يمكن أن تحيا وتستمر من دون عدو. ومن عادات الطوائف وغرائبها أن تُجاهر بما ترفضه. وأسوأ طبائعها تورية ما تريده وما تسعى في مناكبه. وأكثر ما تحترفه الطوائف هو “التقية” إذ تُعلن غير ما تُضمر على الإطلاق. وسمير جعجع يشتغل كالطوائف. فهو يُحابي “حزب الله” من تحت الطاولة، لكنه يسابقه في العسكرة والتسلح حتى “صارت القوات اللبنانية الآن أقوى مما كانت عليه في زمن (الرئيس) بشير الجميل. لقد أنجزت نهائياً عملية التسلح والتسليح والتدريب. أما حزب الله، فهو يعيش أسوأ مراحل ضعفه. لقد صار أضعف مما كانت عليه منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، عشية الإجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران/يونيو من العام 1982”. هذا ما قاله “الحكيم” حرفياً في عشاء جمعه قبل أكثر من أسبوع، مع رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط عند “صديق مشترك”، بحضور زوجتيهما ستريدا طوق جعجع ونورا جنبلاط.
والحال هذه، فإنه يصح عن سمير جعجع القول إنه إما جاهل بالتاريخ أو متجاهل للتاريخ بأحسن الأحوال، لذا فقد صار محكوماً بتكراره. فالرجل الميلشياوي الذي درس الطب في الجامعة الأميركية ولم يكمل سيرته طبيبا، فنال منها فقط اللقب (الحكيم)، لم يمعن في قراءة مقولة كارل ماركس الشهيرة عن أن التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. فلقد اشتهر “الحكيم” بخوضه “حروب الخسارات” باسم “الدفاع عن المسيحيين”: من حرب الجبل وشرق صيدا وإقليم الخروب وصولاً الى حروبه مع ميشال عون. كان يمزج القتال باللاهوت. يرفع شعار الصليب المشطوب ويتماهى مع نفسه، إلى درجة محاولته لعب دور “القديس” سواء من خلال حملة الشمعة الصغيرة أو الوردة الحمراء في المهرجانات المعرابية.
جعجع لجنبلاط: صارت القوات اللبنانية الآن أقوى مما كانت عليه في زمن (الرئيس) بشير الجميل. لقد أنجزت نهائياً عملية التسلح والتسليح والتدريب. أما حزب الله، فهو يعيش أسوأ مراحل ضعفه. لقد صار أضعف مما كانت عليه منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، عشية الإجتياح الإسرائيلي للبنان
وعلى الرغم من محاولات جعجع الحثيثة لتنميق خطابه السياسي، ومحاولته الدؤوبة للظهور بصورة السياسي المتزن و”المثالي” وصاحب الرؤية الإستراتيجية، لكنه لم يتغير بالمعنى العميق للكلمة. فقط خذوا كبائره من صغائره: هل تحتاج “القوات اللبنانية” الى عراضة عسكرية لاستذكار بشير الجميل ولو كانت بستار “الكشفية”؟ وهل تُبقي عراضة الأشرفية “الكشفية أيضاً” على المسيحيين في لبنان وتزيل من مخيلتهم هول إنفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس الماضي؟ الكشافة هي خطوة أولى نحو العسكرة في المجتمعات.. هكذا كانت الكتائب وكل أحزاب لبنان “الحربية” سابقاً!
لم يتغير جعجع وان فقد مخالب الحرب. فهو وعلى الرغم من “حقبة 14 آذار” وشعاراتها “الوطنية” البرّاقة، بقي عالقاً في ماضيه الحربي. لا يزال عند شعارات الصليب المشطوب. تقدم بـ”اعتذار عميق، صادق وكامل، عن كل جرح، او أذية، او خسارة، أو ضرر غير مبرر، تسببنا به، خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية، طوال مرحلة الحرب الماضية”. يسمي مشاركته في الحرب الشنيعة “مقاومة” و”واجبات وطنية”. وحتى حين كتب مؤخراً في رثاء الكتائبية الراحلة جوسلين خويري، مدح المرحلة التي كانت فيها الى جانبه في بداية ثمانينيات القرن الماضي، علماً أن خويري انسحبت من الميليشيا المسيحية حين دب الخلاف بين قادتها وبدأوا يأكلون بعضهم بعضاً في منتصف الثمانينيات.
السوريالي في الأمر، أن جعجع شكّل إحتمالاً إنقاذياً لبعض مناصري قوى 14 آذار. ففي عام 2011، بدأ الحديث في حزب “القوات اللبنانية”، عن المجموعات الشبابية الإسلامية التي تسأل عن إمكان الانتظام في صفوف “القوات”. كل الطلبات التي قدمت بقيت محفوظة في أرشيف “القوات” إلى حين حسم النقاش والدرس العميق، “لكوننا لا نريد بناء أي شيء على أسس غير ثابتة” على ما قال جعجع، وقتذاك، ليستطرد مؤكداً أنّ الطابع المسيحي لحزب “القوات” موضع نقاش!
كلام جعجع في عشائه الأخير مع جنبلاط يستحضر سؤالاً ما يلبث يتكرر مؤخراً جراء حملات “البدلة الزيتية” الفايسبوكية: هل عادت “القوات اللبنانية” الى الصليب المشطوب؟ الجواب: ربما لم تغادر الصليب المشطوب حتى يعود. فالصليب الذي حذف من المهرجانات “الرسمية”، بقي مكتوباً وموشوماً على الأجساد. هو مطبوع على صور جعجع في الجامعات. ومنشور عبر مواقع الانترنت. ولم تُسعف سمير جعجع صوره مع نساء عكاريات مسلمات محجبات، في خضم اندفاع بعض السُنة باتجاهه باعتباره صاحب خطاب غرائزي ضد سلاح “حزب الله”.
ما عادت “القوات اللبنانية” تستطيع كبت حنينها الميلشياوي، وهي تُكثر من عراضاتها الكشفية في المناطق من الأشرفية إلى معراب مروراً بعين الرمانة
لم يستطع جعجع الصمود طويلاً في رفع شعار العبور إلى الدولة. هذا ما يقوله كلامه إلى جنبلاط، ثم كيف يمكن أن يتصور صدى عباراته في حضرة جنبلاط الذي كان والده ثم هو رأس حربة القتال ضد بشير الجميل ومن ثم ضده في حرب الجيل؟ لماذا ينكأ جراح الجبل وهل يريد أن يرفع معنويات جنبلاط ضد حزب الله أم أن الرسالة محض مسيحية لدروز الجبل؟.
يثبت جعجع مجددا أنه “ملك التكتكة”. فمن باب الكيدية ضد ترشح سليمان فرنجية، لجأ “الحكيم” إلى توقيع اتفاق معراب مرفقا بنظرية “اوعا خيك” وصولاً إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. الجوهر كان تقاسم حصة المسيحيين بين القوات والعونيين. لكن حساب الحقل لم يتفق مع حساب البيدر، ذلك أن جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر إلتهم معظم حصة المسيحيين من الوظائف. وهنا بلع قائد “القوات اللبنانية” الموس. بدأ يكابر في الاعلام عن الخطأ، وأحيانا يضع الخطأ في خانة الـ”ربما”، كل هذا وعداءه لسعد الحريري يستحكم أكثر فأكثر لكون الأخير لم يستثمر في ترشيحه.
ما عادت “القوات اللبنانية” تستطيع كبت حنينها الميلشياوي، وهي تُكثر من عراضاتها الكشفية في المناطق من الأشرفية إلى معراب مروراً بعين الرمانة. والأرجح أنها صارت أميل إلى عروض “سرايا وئام وهاب الرياضية” في الجاهلية، وإلى عروض أفواج “الحزب السوري القومي الاجتماعي” في شارع الحمرا سنوياً، كأن اللغة المدنية لم تعد تسترها في شد عصبها، فلجأت إلى النظام المرصوص الذي يستهوي بعض الشبان المسيحيين “المهووسين بالبدلة الزيتية” في خضم صراع الهويات القاتلة في المنطقة.
“القوات اللبنانية” تستعيد راهناً “شق المهزلة” من إعادة التاريخ لذاته. فالحرب اللبنانية، بدأت بعراضات ثياب الكاكي وانتهت بصدام بين “حزب الكتائب” وبين “التنظيمات الفلسطينية”، ما دفع البلد إلى الهاوية. اليوم تأتي “العروض الكشفية” في خضم الحديث عن الذهاب الى “جهنم”.
“عروض كشفية” تستحق دعماً عربياً، وتحديداً سعودياً ـ إماراتياً، ولا بأس في أن “تلفت أنظار” الغرب، وتحديداً الأميركيين.
“عروض كشفية” يُنظر لها بعض فريق إستشاري يريد فقط أن يؤدي الولاء والطاعة لسيده، لا أن يجادله بالتي هي أحسن للبنان ولا سيما للمسيحيين.
ما هكذا يُحمى المسيحيون يا “حكيم”!