لعلها كانت الخطوة الأولى في عملية تدمير الشرق الأوسط تمهيدا لإعادة بنائه وفق رؤيه لم تعلن وقتها ولم تسجل في وثيقة أو خطة، وعلى كل حال لم نشاهد بعد البناء الجديد إن كان هناك بناء. شاهدنا دمارا في مكان يليه دمار في مكان آخر وثالث ورابع وخامس وعدد لا نهائي. مزقوا الخريطة التي تعلمنا على بحارها وحدودها وهضابها وأنهارها وتلالها وصحاريها علم الجغرافيا وحكايات المهد العديدة التي صنعت في مجملها فجر تاريخ البشر.
***
هناك من يسأل: وماذا يهم لو خرج من زبالة التاريخ من يسأل الآن لمن يكون الشرق الأوسط؟ نعم يهم. أولا يهم لأن هذا الإقليم تسكنه أمم من البشر ظنت أن مبادئ الدول وقانونها تقر بأن من يعيش على أرض لآلاف السنين يصبح مالكها ولا يجوز أن ينازعه أحد في ملكيته لها. ويهم ثانيا لأن بول فولفوفيتز كان الشخص الذي خرج قبل أيام قليلة يسأل السؤال السخيف، لمن يكون الشرق الأوسط؟ بول لا ينسى أن حكومة بلاده استولت على الإقليم لسنوات قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، حكمت خلالها وهيمنت ونهبت وأذلت بعد أن فرضت أفكارها وأنماط حياتها وبعض عقائدها الاقتصادية والاجتماعية، ثم هي اليوم تتعجل الخروج من الإقليم، أيضا بدون مبرر مقنع. لم نقاومها عسكريا ولا سياسيا. لم نطالبها بالخروج حتى عندما راحت تنتزع ملكية أراض وتسلمها لليهود بدون صكوك. تخرج وهي تسأل بكره أو شفقة لمن سيكون الشرق الأوسط بعد خروجها؟
***
تعرضت أمريكا خلال العقود الثلاثة الماضية لأزمات عديدة متلاحقة ساهمت في سرعة انحدارها. من الأزمات التي خلفت جروحا غائرة في سمعة النخبة الأمريكية الحاكمة إخضاع أكثر من رئيس لإجراءات تحقيق أو محاكمة. منها أيضا اختيار رئيس للدولة بعيدا عن صندوق الانتخاب وإن بالرجوع إلى حكم من المحكمة الدستورية العليا، ويبدو أن الأمر سوف يتكرر في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر في حال فاز بأغلبية الأصوات المرشح الديموقراطي جو بايدن. في مرحلة غير بعيدة، استولت على إدارة مقاليد البلاد أقلية مغامرة أطلقت على نفسها اسم “المحافظون الجدد”. شنوا حربا في أفغانستان ما تزال مشتعلة بينما تحاول الآن القيادات الأمريكية كافة الانسحاب بالتسلل، وشنوا حربا ضد العراق وبطلها بول فولفوفيتز وارتكبوا فيها جرائم لا تحصى على رأسها حروب أهلية لم تتوقف وسرقات على الملأ لنفط البلاد، وما يزال الرئيس ترامب يصر على أن أمريكا لم تحصل من العراق على تعويض عما تكلفته واشنطن في الحرب. ومن الأزمات أزمة مالية أمريكية ضربت إلى الأعماق الاقتصاد العالمي. ارتفق بالأزمة وصول رئيس للبلاد من الأقلية الأفرو أمريكية، الأمر الذي أعاد إلى سطح الحياة السياسية توترا وأثار أمواجا عاتية ما تزال تهدد استقرار أمريكا وتربك نوايا الترميم والإصلاح. ثم حل بالبيت الأبيض الرئيس الأشد غرابة في التاريخ الأمريكي ونزلت بالبلاد في نهاية عهده كارثة وباء الكورونا، الكارثة التي أطاحت في شهور بأكثر من ربع مليون مواطن أمريكي وفضحت الحال البائسة التي تردت إليها البنى التحتية الأمريكية والمستوى المتدني لمؤسسات الدولة ونظم الرعاية الاجتماعية.
***
يصبح مفهوما وأمر الولايات المتحدة على هذا النحو أن تعلن واشنطن عن مزاد عالمي تعرض فيه التنازل عن بعض هيمنتها على الشرق الأوسط مقابل ترتيبات أمنية في منطقة تمتد من الهند نحو الشرق حتى غرب الولايات المتحدة، وترتيبات في بحر البلطيق نعرف أن لا دولة أو مجموعة من الدول تقدمت بطلب الحصول على الحق في الهيمنة الأحادية أو المطلقة على الإقليم، والتخمينات ترشح دولتين هما روسيا بحكم وجودها العسكري والسياسي على الأرض والصين بحكم التوسع المتسارع في تنفيذ عمليات ربط اقتصادات في المنطقة بشبكة مبادرة الحزام والطريق. الظن الغالب بين المهتمين بشئوننا هو أن المسألة لن تحسم قريبا للأسباب التالية:
أولاً، اكتشاف أن أمريكا في حال أسوأ مما تصور كل الأطراف، ولا تحسُّن أو انفراج منتظر عند الأفق. وبالتالي لن تتمكن الأطراف مجتمعة أو متفرقة من حسم الرغبات والطموحات الإقليمية في وقت مبكر.
يجب أن نعترف، نحن العرب، أننا بهذه الإضافة سقط حقنا في أن نحدد من هو الجار ومن الغريب. وبفضل تراخينا وغيابنا المتكرر والنقص المستمر في القدرة الفردية والقطاعية والجماعية على تشغيل طاقاتنا وخبراتنا، ثم أخيرا وليس آخرا، بفضل السرعة المبهرة في الاستسلام، انحنينا باستعجال أمام “واقع” من المؤكد أنه كان ما يزال رهن التكوين
ثانياً، مسألة من هذا النوع، أقصد صلاتها بأوضاع إقليمية ودولية حساسة ودول إقليمية في أوضاع مرتبكة ودول كبرى لم تتوصل بعد إلى تحديد حدود توسعاتها وقدراتها على تعبئة الإمكانات اللازمة لتنفيذ هذه التوسعات، لن تجد الحسم الضروري إلا بعد أن تتضح معالم النظام الدولي القادم. البدائل المتصورة حتى الآن هي القائمة أو المتاحة بدون بوادر تغيير يذكر وهي: (أ) استمرار الأحادية الراهنة على تهالكها وجمودها ومضارها على الاستقرار العالمي. (ب) نظام هجين بين أحادية منفتحة على تعددية تجرب حظها في ظل هيمنة أمريكية على طريق الانسحاب. (ج) نظام تعددي يجمع كل الأقطاب الكبرى في شكل أقرب لنظام الوفاق الأوروبي الذي ساد لبعض الوقت في القرن التاسع عشر في أوروبا. (د) أحادية جديدة تقيمها الصين في حال استمر انحدار الولايات المتحدة إلى ما دون أسوأ التوقعات. وهو البديل الأبعد.
***
في غياب المنافسة القوية والجادة بين الدول الكبرى في الاستعداد لدخول هذا المزاد، نزل إلى الساحة عدد من دول الصف الثاني وهي بالتحديد تركيا وإيران وإسرائيل. جرت العادة، واللغة الدبلوماسية والأكاديمية السائدة لعشرات السنين، أن أطلقنا على تركيا وإيران صفة دول الجوار، ثم تدخلت إدارة الرئيس دونالد ترامب وعائلة إيفانكا كوشنر فجعلت إسرائيل جارا ثالثا. يجب أن نعترف، نحن العرب، أننا بهذه الإضافة سقط حقنا في أن نحدد من هو الجار ومن الغريب. وبفضل تراخينا وغيابنا المتكرر والنقص المستمر في القدرة الفردية والقطاعية والجماعية على تشغيل طاقاتنا وخبراتنا، ثم أخيرا وليس آخرا، بفضل السرعة المبهرة في الاستسلام، انحنينا باستعجال أمام “واقع” من المؤكد أنه كان ما يزال رهن التكوين. فاجأناه بالقبول والرضا قبل أن يكشف عن وجهه ويقرر لنا مستقبلنا باعتبارنا جزءاً من نظام إقليمي يتشكل بالفعل أمام أعيننا. نرى أدوارا تتحدد وتتوزع، ونرى دولا كبرى وعظمى تتقرب من أو تبتعد عن الأطراف التي عينت نفسها بالفعل أقطابا في الإقليم الجاري تشكيله. أرى تجاهلا كاسحا للدول والمؤسسات العربية التي كانت في وقت من الأوقات محورا جوهريا من محاور السياسة الدولية.