لبنان: “الفاريز” تعتذر والتدقيق الجنائي يسقط

سقط التدقيق الجنائي حتى قبل أن يبدأ. فقد وجهت شركة "الفاريز آند مرسال" كتاباً رسمياً، اليوم (الجمعة) إلى وزير المال اللبناني د.غازي وزني إعتذرت فيه رسمياً، عن متابعة مهامها، متذرعة بالأسباب التي كانت قد أبلغت المسؤولين اللبنانيين بها، سابقاً، وأبرزها عدم تعاون مصرف لبنان المركزي معها.

لم يكن قرار شركة “الفاريز آند مرسال” مفاجئاً. حاول وزير المال إيجاد تخريجة قانونية ـ سياسية، ربطاً بتكليف سعد الحريري بتكليف حكومة جديدة. وافقت الشركة على تمديد مهمتها ثلاثة أشهر، على أن تتحمل الحكومة اللبنانية ما يتوجب عليها مالياً، غير أنه على مسافة أسبوع من مغادرة وفد الشركة، جاء قرار الإعتذار الذي لم يكن مفاجئاً لأحد.

ماذا يعني قرار إنسحاب شركة “الفاريز آند مرسال” بالإنسحاب من التدقيق الجنائي أو “التشريحي” (Forensic Audit) والذي تلبغه الرئيس اللبناني ميشال عون من وزير المال بعد ظهر اليوم؟

أولاً، برغم حرص الشركة والجهات الرسمية اللبنانية على إضفاء طابع تقني إجرائي على قرار الشركة، أي نتيجة عدم تعاون مصرف لبنان معها، ما أدى إلى وصول مهمتها إلى حائط مسدود، إلا أن البعد السياسي لا يغيب عن عمل هذا النوع من الشركات التي تتواصل مجالس إداراتها مع الحكومات، والعكس صحيح. فأن تتخذ الشركة قرارها بعد زيارة وفد من إدارتها إلى بيروت وإستجماع معطياتها وشمول اللقاءات التي عقدتها عدداً من سفراء الدول الكبرى، ممن روجوا لقرار الشركة قبل إعلانه، فهذا يعني أن قرار الشركة حظي بتشجيع سياسي دولي وربما محلي، وإلا كان بمقدور الشركة تأجيله ثلاثة أشهر من دون أن يرتب ذلك عليها أية أعباء مالية.

إن أقل ما يمكن قوله سياسياً أن هذا القرار موجه ضد لبنان، فمن يريد وضع هذا البلد على سكة الإصلاح وإستعادة ثقة الداخل والخارج به على حد سواء، يجب أن يدفع بإتجاه إنجاز التدقيق الجنائي، ومن يشجع على عدم التدقيق يريد تجهيل الفاعل في ما آلت إليه الحسابات النقدية والمالية.

ثانياً، ليس خافياً على أحد أن من شأن هكذا قرار الإضرار بصورة لبنان في الخارج، وهي صورة مهتزة جدا في الآونة الأخيرة، وكان مقدراً للتدقيق الجنائي أن يعطي إشارة إيجابية إلى المانحين والمؤسسات الدولية والدول الصديقة التي تنوي مساعدة لبنان شرط إنجاز سلسلة إصلاحات، يقع في صلبها التدقيق الجنائي لجهة تحديد العمليات المالية في مصرف لبنان، ولا سيما بين العامين 2015 و2020، وما جرى خلال هذه الحقبة من صرف وتوظيفات وهندسات مالية. هنا يقول مسؤول أوروبي كبير لأحد الدبلوماسيين العرب إن نموذج لبنان المالي “قد سقط في 17 تشرين الأول/أكتوبر (2019)، وما تحاول المصارف ومصرف لبنان بالتعاون مع بعض السياسيين القيام به “هو مجرد هروب إلى الأمام، لذلك من المؤسف أن يرفض حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة تزويد شركة “الفاريز آند مرسال” بالوثائق التي طلبتها للتدقيق بالحسابات، لا سيما وأن التدقيق يقع في صلب المبادرة الفرنسية وفي صلب أي برنامج مع صندوق النقد الدولي، لذا نقول للمسؤولين اللبنانيين الرسالة الآتية: لا تدقيق جنائياً يعني لا مال ولا مساعدات للبنان. فقط مساعدات إنسانية ونريد أن نضمن وصولها إلى الشعب اللبناني مباشرة”.

ثالثاً، لا يجوز التقليل من البعد التقني. لقد طلبت شركة “الفاريز آند مرسال” من مصرف لبنان أن يقدم أجوبته على أسئلتها، فكان أن تم التعامل مع الملف بطريقة مهينة جداً للشركة، سواء برفض تخصيص مكتب لها في المصرف المركزي أو إرسال الملفات إليها بكرتونة خشبية، ومن ثم عندما تبين أن الأجوبة كانت عبارة عن معلومات متوفرة إلكترونيا ولا حاجة لإرسالها أبداً بهذه الطريقة. لذلك، أبلغت إدارة الشركة في زيارتها الأخيرة كلاً من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير المال غازي وزني أن الشركة لم تتلق ما يزيد عن 42% مما طلبته من مصرف لبنان، ولدى مراجعتها عما يمكن الحصول عليه من دون تعديل قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف، كان الجواب أن هذا أقصى ما يمكن الحصول عليه، إذا لم تتوفر الإرادة لدى مصرف لبنان بالتعاون مع الشركة.

وعندما حاول رئيس الجمهورية حث حاكم المصرف المركزي رياض سلامة في الإجتماع الذي عقد في بعبدا مع “الفاريز” بحضور وزير المال، على التعاون مع الشركة، تعمد سلامة تقديم أجوبة ضبابية عامة، من دون أن يقفل الأبواب، لكن عندما تكرر الإجتماع نفسه، في رئاسة حكومة تصريف الأعمال، بعد أقل من ساعة، غادر حاكم مصرف لبنان ديبلوماسية القصر الجمهوري، وأبلغ دياب أنه ليس جزءاً من توقيع العقد مع “الفاريز” وأن المطلوب من السلطة السياسية التقدم بمشروع قانون بتعديل قانون السرية المصرفية إلى مجلس النواب، وإلا لن يتعاون المصرف المركزي مع شركة التدقيق. لذلك، كانت ردة فعل دياب الإيعاز إلى الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية إعداد مشروع قانون بمادة وحيدة لتعديل قانون السرية المصرفية تسهيلاً لعمل الشركة في المستقبل القريب.

إقرأ على موقع 180  خمسة أيام في بيجينغ 

غير أن شركة “الفاريز” وبعد عودة وفدها إلى دبي، قررت عدم الإلتزام بالإتفاق الذي أبرمته مع وزير المال والقاضي بتمديد عملها لمدة ثلاثة أشهر. ويقول مقربون من إدارة الشركة في دبي إن المعطيات التي تكونت لديها تشي بأن التدقيق الجنائي الجدي لن يكون متاحاً ولن يكون مسموحاً تعديل قانون النقد والتسليف أو قانون السرية المصرفية، كما ان القوى التي تريد حماية حاكم مصرف لبنان تملك الأكثرية في مجلس النواب، وما وصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة إلا عنصر تقييد إضافي بدل أن يكون عنصر تسهيل. لذلك، ومن موقع حرص الشركة على سمعتها الدولية، وأن لا يصيبها ما أصاب شركة “لازار” عندما تم تحميلها مسؤولية طريقة إحتساب خسائر المصارف ومصرف لبنان، قررت الإنسحاب بهدوء، إفساحاً في المجال أمام شركة أخرى قادرة على تولي هذه المهمة.

رابعاً، قبل أن تبادر الحكومة اللبنانية الحالية، وهي حكومة تصريف أعمال، إلى إختيار شركة جديدة، سيتم التذرع بحدود تصريف الأعمال التي تقيدها وتمنعها من ذلك، برغم فتاوى دستورية عديدة، وأبرزها فتوى وزير العدل الأسبق الدكتور بهيج طبارة التي أعطتها حق الإجتماع وإتخاذ القرارات، صار مطلوباً توافق أهل السياسة على قضية التدقيق الجنائي، خصوصاً وأن أي عقد مع أية شركة جديدة، سيلقى المصير نفسه، أي الإصطدام بعدم تعاون مصرف لبنان. وما يسري على العقد يسري على أي تعديل لقانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف، في غياب الإجماع الوطني على قضية التدقيق الجنائي. لذلك، لا بد من الإستفادة من ثغرات العقد مع شركة “الفاريز آند مرسال” قبل إبرام أي عقد جديد مع أية شركة جديدة، وأبرزها توافر الغطاء السياسي وإشراك مصرف لبنان في توقيع العقد حتى يكون ملزما له وإختيار شركة ذات مصداقية عالمية وقادرة على توفير “الداتا” التي تطلبها وهي حتما موجودة لدى الفرنسيين، على حد تعبير مصادر لبنانية وثيقة الصلة بالفرنسيين.

خامساً، النتيجة الوحيدة لقرار إعتذار الشركة هي الآتية: ممنوع التضحية برياض سلامة و”نقطة على السطر”.

إذاً التدقيق الجنائي خطوة لا بد منها من أجل تحديد الخسائر وتوزيعها قبل البدء بإعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي، وهي خطوة أكثر من ضرورية لاستعادة ثقة الخارج والداخل بلبنان، إقتصادياً ومالياً.. لكن في لبنان، ثمة من يدفع الحافلة نحو الوادي السحيق، حيث لن يُبقي الإرتطام الكبير ولن يُذر، وكأن هناك من يقول عليّ وعلى أعدائي يا رب!

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ما أشبه اليوم بالأمس!