أرض الخسارة يا لبنان!

في يوم تشييع رئيس الحركة الوطنيّة اللبنانيّة كمال جنبلاط (اغتيل في 16 آذار/مارس 1977)، روى جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، أمام بضع شخصيّات كانت تشارك معه في التشييع ما يلي: "كنتُ أرافق المعلّم كمال جنبلاط في طريق العودة من دمشق، بعد لقاءٍ عاصف ومتوتّر له مع الرئيس السوري حافظ الأسد. فهمس لي قائلاً: لقد اتُّخِذ القرار باغتيالي يا جورج".

فهمتُ من كلامه، ومن دون أن أسأله توضيحاً، يضيف جورج حاوي باكياً، أنّ كمال جنبلاط أيقن، في حينه، أنّ النظام السوري بات يرى فيه عائقاً يجب إزالته، بأيّ ثمن. كلام جنبلاط لحاوي، الذي قضى هو الآخر اغتيالاً عام 2005، لم يكن، بطبيعة الحال، تنجيماً أو فتحاً للمندل أو لأنّ “كلّ شخصٍ يعرف غريمه”، كما يقول المثل الشعبي. بل، كان الزعيم الوطني الكبير يدرك، تمام الإدراك، متى تحين اللحظات التي يُنَفَّذ فيها الاغتيال السياسي، ومَن هي الجهات التي “تبرع” في التخصّص في كيفيّة التخلّص من الخصم. فالتصفية الجسديّة أو القتل العَمْد، فكرة خبرتها البشريّة منذ آلاف السنين، ولم يتبدّل مسارها كثيراً، في العصور الحديثة. تُسمّى إغتيالاً. فما هو الإغتيال، ولماذا يتمّ توسّله؟

لم تحدّد الهيئات القانونيّة الدوليّة تعريفاً مطلقاً وموحَّداً ومقنِعاً لمفهوم الاغتيال. وكلّ تعريفٍ وُضِع، في هذا الإطار، إنّما هو خاضع لتأويل الأفراد والجماعات. ويُعزى ذلك التأويل، إلى الغموض الذي يكتنف “القاتل” و”الضحيّة”، وشرعيّة وجود الإثنين ونشاطهما. أي، وبمعنى أوضح: مَن يغتال مَن؟ الأكيد، أنّ الاغتيال هو عمليّة قتل منظَّمة ومتعمَّدة، تستهدف، غالباً، شخصيّة مهمّة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي. ويحصل الاغتيال، عادةً، لأسبابٍ عقائديّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو انتقاميّة، تستهدف شخصاً معيّناً يعتبره منظِّمو عمليّة الاغتيال عائقاً لهم، في طريق نشر وترويج أفكارهم أو أهدافهم أو أجنداتهم. ولكنّ الاغتيال السياسي، يمثّل، بلا ريب، عجزاً فاضحاً في السلوك البشري، والذي لا يجد إلاّ القتل وسيلةً لإنهاء الخصم. وهو يمثّل، بلا ريب أيضاً، تردّياً في العقليّة السياسيّة، لكون هذه الممارسة تتناقض، كلّياً، مع أبسط حقوق الإنسان.

غالباً ما يحدث “القتل السياسي”، إذا جاز التعبير، عندما يصل مستوى التفاهم بين طرفيْن إلى درجة الانسداد والقطيعة. أي، عندما لا يجد الحوار السلمي طريقه إليهما. لكنّ الاغتيال يظهر، أكثر ما يكون، في بيئات الصراع على السلطة والثروة والحصول على الامتيازات. وإذا كانت الحكومات المركزيّة تمتلك، في معظم الظروف، الرصيد الأكبر في تدبير عمليّات الاغتيال وتنفيذها، إلاّ أنّ حجم الجهة المنظِّمة للاغتيالات، يتراوح بين شخصٍ واحد، فقط، إلى جماعاتٍ وتنظيماتٍ ومؤسّساتٍ عملاقة.

غدا الاغتيال، في عصرنا هذا، أسرع وأبسط وسيلة لإحداث خرقٍ وصدمة، يمكن أن يحرّكا، برأي مَن يغتال، “المياه السياسيّة الراكدة”. وربّما يكون الهدف، أحياناً، إحداث تغييرٍ في المشهديّة السياسيّة المأزومة

ليس هناك اتفاق على استخدام مصطلح “الاغتيال”، ولا سيّما بين جماعة “القاتل” وجماعة “المقتول”؛ ففي بعض الأحيان، ينظر القاتل والمتعاطفون معه إلى الاغتيال، كواجبٍ تبرِّره حججٌ إيديولوجيّة وعقائديّة. فيُصوَّر الضحيّة، حينئذٍ، كطاغية أو كمغتصِب، ويصبح قتله فضيلةً وليس جريمة. وغدا الاغتيال، في عصرنا هذا، أسرع وأبسط وسيلة لإحداث خرقٍ وصدمة، يمكن أن يحرّكا، برأي مَن يغتال، “المياه السياسيّة الراكدة”. وربّما يكون الهدف، أحياناً، إحداث تغييرٍ في المشهديّة السياسيّة المأزومة. وغالباً ما يكون، بغية إثارة الفوضى، ولا سيّما في المجتمعات الهشّة والرخوة والمتداعية البُنى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة. أي، مثل حال مجتمعنا اللبناني الذي يتوقّع له المنجِّمون والأمنيّون، على حدٍّ سواء، موجة اغتيالات في المقبل من الأيام! إسمعوا وحلّلوا وشدّوا الأحزمة!

إنّ إثارتنا لموضوع الاغتيال السياسي في هذه السطور، يعود الفضل فيه، إلى ما كشفته التقارير المرفوعة إلى قادة الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة. تقارير عرضوها، بدورهم، في جلسة المجلس الأعلى للدفاع (قبل أيّام)، والذي أنيط به في الجلسة ذاتها “فتح المجاري والمجارير”! ماذا قال القوّال؟ قال إنّهم تثبّتوا، وبالوجه الشرعي، “من معلوماتٍ أكّدت لهم وجود تهديداتٍ أمنيّة حقيقيّة في البلاد. وهذه التهديدات، كما نُمي إليهم، تستهدف مختلف الشخصيّات اللبنانيّة، من كلّ الاتجاهات”. لكنّهم لم يفصحوا عن أيّ اسم مهدَّد، انسجاماً مع مباشرتهم تكثيف الاستعلام واتّخاذ الإجراءات الاستباقيّة. لكن قبل ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الناس تعاطت بخفّةٍ عجيبة مع هذا الكلام، المفترض أن يجعل فرائص اللبنانيّين ترقص قلقاً وخوفاً. لماذا؟ لأنّ “الكبير والصغير والمقمّط بالسرير” يعرف جيّداً، أنّ هكذا حماقاتٍ يُحرَّم على الأجهزة الأمنيّة ارتكابها، بخاصّة  حيال قضيّةٍ خطيرة بحجم الاغتيال السياسي! لماذا؟

أوّلاً، لأنّ الفئة المهدَّدة بالاغتيال، من غير الممكن أن تشمل كلّ الطبقة السياسيّة المتنافرة في انتماءات أركانها! أي، من الصعب جدّاً أن يتّفق المغتالون على هكذا إباداتٍ جماعيّة لسياسيّينا!

ثانياً، لا تعلن الأجهزة الأمنيّة على الملأ، عادةً، معلوماتها المفترض أنّها بغاية السريّة. بل هي تعمد، على حدِّ علمنا، إلى التواصل مع الشخصيّات المعرَّضة للقتل، أكثر من غيرها (بحسب المعلومات المتقاطعة)، وتنبّهها إلى الأخطار المحدقة بها، وتنصحها باتّخاذ الإجراءات اللازمة.

ثالثاً، لم يحدث في تاريخ لبنان، أن كشفت جهة أمنيّة (وبهذه العلنيّة) تقارير سرّية جمعتها استخباراتها! فمعظم اللبنانيّين، الأمنيّين (السابقين) منهم وغير الأمنيّين، سخروا من هكذا سلوكٍ أمني، وتوقّعوا أن يكون الهدف منه هو الاستعراض فقط لا غير (نحن نسهر ليل نهار على راحتكم يا شعب لبنان). أو ربّما، التنصّل من أيّ مسؤوليّة في حال وقع المحظور مستقبلاً (ألمْ نخبركم أنّ هذا سيحصل؟).

مَن من الممكن أن يفكّر باغتيال أحد أركان هذه الطبقة السياسيّة، التي أنعم الله علينا بها وبشجراتها العائليّة؟ بمعنى آخر، مَن في باله، اليوم، إلغاء سياسيّينا الذين ألغوا أنفسهم قبل أن يفكّر خصومهم (المجهولون بغالبيّتهم) بإلغائهم؟

رابعاً، ترمي الجهات المسؤولة، عن أمن البلاد والعباد، بسلوكها هذا، إلى محاولة بثّ الذعر والخوف بين الناس التي تغلي أعصابها، أصلاً، على صفيح أزماتها ومآسيها ونكباتها الساخن. ويكاد المرء يجزم، أنّ بثّ الهلع هو الهدف المنشود، بالتحديد، من وراء إعلان المعلومات المذكورة آنفاً. أيُعقل؟ نعم يا صاحِ.

إقرأ على موقع 180  سنة أولى على "الطوفان".. قراءة في جبهات فلسطين ولبنان وإيران

فهناك أكثر من احتمال من وراء إشاعة الهلع. قد يكون أهمّها، هو التمهيد لفرض حالة الطوارئ في لبنان (على غرار مصر وسوريا)، والتي تعني أن تقوم الحكومة اللبنانيّة بتعطيل السلطة القضائيّة (فلنتذكّر المنافسة الحامية هذه الأيّام بين القضاء والأمن). وبموجب حالة الطوارئ هذه، تتوقّف، وحتى إشعارٍ آخر، شتّى أوجه الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في البلاد، إضافةً إلى تعليق الحقوق المدنيّة العاديّة للمواطنين، والطلب منهم القيام بإجراءٍ مُحدَّد (عدم النزول إلى ساحات التظاهر مثلاً!).

أما الأزمة التي تستدعي فرض حالة الطورائ، فتكون عبارةً عن حدثٍ غير عادي، أو جرّاء أسبابٍ غير طبيعيّة تتعرّض، على أثرها، سلامة الناس ومواردهم إلى الخطر. إذاً، لن يجد مجلس الدفاع الأعلى، الذي بات يلتئم بسببٍ أو من دون سبب، أفضل من هذه التقارير الأمنيّة، مسوّغاً لشلّ الحركة وكافّة التحرّكات والحراكات. لكن، مَن من الممكن أن يفكّر باغتيال أحد أركان هذه الطبقة السياسيّة، التي أنعم الله علينا بها وبشجراتها العائليّة؟ بمعنى آخر، مَن في باله، اليوم، إلغاء سياسيّينا الذين ألغوا أنفسهم قبل أن يفكّر خصومهم (المجهولون بغالبيّتهم) بإلغائهم؟

فبلادنا تعيش في حالة عطالةٍ تامّة وشاملة وكاملة، عن العمل والإنتاج. جلّ ما يفعله سياسيّوها، هو النوم بعد أن يكونوا فرغوا من عرض عيّنةٍ من أفلام الفساد الإباحيّة على الشعب. يقومون كذلك، باستجداء الصحافيّين كي يجروا معهم المقابلات، وبعد ذلك يضعون الكمّامات إذا حصل وزارهم زائر، ومن ثمّ يفتّشون عن حيلةٍ جديدة لإضاعة الوقت وتبديد الأمل، ومن ثمّ يعودون إلى النوم. أمّا جلّ ما يفعله معظم قضاتنا، عدا تفريغ الكيد وتدوير النكايات، فهو رفع سمّاعات الهاتف لأخذ التعليمات من أولياء أمرهم ونعمتهم (من السياسيّين طبعاً). أمّا قوانا الأمنيّة المترهّلة، فهي لا تعرف البطش والاستشراس، بعنفٍ موصوف، إلاّ ضدّ مَن يطالب بحقوقها، أي الثوار! منظر قوى الأمن وهي تقمع هؤلاء الثوار، كُرمى للقوّامين على سائقي الدراجات الناريّة وقالعي عيون المتظاهرين، يُدمي القلوب. مَن سيغتال مَن؟ طبعاً، باستثناء بضع شخصيّات ما زالت تقضّ مضجع إسرائيل، لا يمكن أن نعرف القَتَلة. فهذا “تقليد” اعتدنا عليه. القاتل في بلادنا دائماً مجهول! صحيحٌ، أنّ مسرح جريمة الاغتيال يكتظّ، عادةً وفوراً، بالإجراءات الأمنيّة غير العاديّة، إلاّ أنّ وظيفة هذه الإجراءات تصبح، حصراً، نثر الرماد في العيون. فلقد تعوّدنا التغطية على الجرائم الكبيرة، كمقدّمة لمحوها من الذاكرة العامّة. وتبعاً لذلك، تبدأ كافّة السيناريوهات والاحتمالات بغزواتها لأذهان المحلّلين، فيأتي معظمها بعيداً عن الواقع، ويشبه الغوص والسباحة في مياه عكرة شديدة الملوحة.

لكن ما الجدوى من تنفيذ الاغتيالات على الساحة اللبنانيّة اليوم؟ عدا قلّة قليلة لشخصيّاتٍ تسعى جهات دوليّة محدّدة لشطبها من المعادلة، فمَن يهوى أن يعبّئ الفراغ والخواء بالنار والرصاص؟ لا أحد، على الأرجح. قد تكون الاستفادة الوحيدة من اغتيالهم (والمطلوبة ربّما)، هي في إدخال وطننا في حالة فوضى واقتتال مذهبي. والأهمّ، لتشريع عمليّات القمع بحقّ الثوار الذين، لن تتورّع سلطة نيترات الأمونيوم، عن تحميلهم مسؤوليّةً في حال حصول الاغتيالات “المتوقّعة”. لكن يا أصدقائي، الخوف كل الخوف هو من اغتيال بعض الرموز الثائرة والناشطة. ألمْ يشهد العراق اغتيالاتٍ لعشرات الناشطين أمام منازلهم، على أيدي مسلحين مجهولين، لتخرج بعدها السلطات ناعيةً عجزها عن معرفة الجناة؟ بلى.

فالمتابع لإحصاءات الأشخاص الذين طالهم الاغتيال السياسي، يخرج بنتيجة مروّعة. أرقام، تدلّل إلى استشراء هذه الظاهرة في الدول العربيّة الرازحة تحت سلطات القهر والطغيان والدكتاتوريّات وأجهزة الأمن والمخابرات والجمهوريّات الوراثيّة. لبنان إحدى هذه الدول. ولا تقتصر عمليّات الاغتيال السياسي على السياسيّين فحسب، إنّما تصل إلى أصحاب الرأي والأقلام الحرّة “المزعجة” والصحافيّين الاستقصائيّين الذين يخوضون في خبايا وأوساخ وقذارات الحُكّام والمسؤولين. يعتقد القاتل، الذي يتخفّى وراء الجهة التي تنفّذ عمليّة الاغتيال، أنّه يمكنه إسكات الصوت بإنهاء حياة صاحبه. هو يظنّ، أنّه يزيح من طريقه خصماً يمكن أن يؤثّر في مسيرته. خصماً كانت له القدرة في فضح ما يحاول القاتل ترقيعه أو التستّر عليه.

كلمة أخيرة. كان الكاتب والسياسي والقانوني الإنكليزي Thomas More واحداً من المفكّرين الغربيّين (في القرن السادس عشر) الذين دافعوا عن فكرة اغتيال القادة السياسيّين. كانت حجّته تقول، إنّ الاغتيال السياسي هو “أداة من أدوات فنّ الحُكم، ووسيلة لتجنيب المواطنين العاديّين مشاقَّ الحرب التي كان قادتهم مسؤولين عنها”. إقتضى التنويه.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مارتن إنديك: "طوفان الأقصى" أحيا حل الدولتين