تشاهد السقوط.. وتأكل “الفوشار”!

تقسمنا حتى الفتات فماذا بعد؟ فيما العالم يلملم بعضه، بقينا نحن نفتت المفتت ونتحول إلى التناهي فى الصغر ربما ليس حجما جغرافيا بل حجما على خارطة العالم المتحول والمسموع والقادر على أن يضع مطالبه ورغباته وربما حتى أجنداته.

وما الجديد طالما بقينا مقسمين أو ربما في الواقع نحن كذلك فيما التزييف الذى أتقناه أعطى انطباعا بوحدة ومحبة تفاهم ووفاء لماضٍ طويل.. كثيرون اعتادوا هذا الواقع أو بأقل تقدير كان مكشوفا لهم ولم يعيشوا في وهم أحلام الأخوة والمحبة والروابط!

***

انهارت كل المفردات أمام ذاك السقوط المدوي، كحجر الشطرنج وقعوا أو وقعنا واحدا خلف الآخر! وما هي إلا لحظات حتى وصل السقوط لكل بيت وكل عائلة وكل شلة وكل شركة وكل صداقة. وحدها الصفقات بقيت صامدة لا تنكسر ولا تنحني ولا تلين، فهي لم تضع نفسها في أجواء الكلمات المشبعة بالعواطف حتى عندما توارت خلفها كان الموقف واضحا جدا أنها الصفقة والمصالح الشخصية جدا وليست حتى مصالح المجموعة أو ما هو أوسع منها.

***

كل صور السقوط مرت سريعا حتى ازدحمت بها المساحات المفرغة من أدمغتنا.. فهي مثل الأوبئة عليك أو علينا عزلها حتى فى ذهننا حتى لا تلوث الأماكن الجميلة الأخرى. تلك التى نخزن فيها حميمية اللحظة وجمالياتها، تلك المغمسة بمحبة قلبية خالصة، غير ملونة ولا ملوثة ولا حتى «مفذلكة» بتعابير رنانة، تحولت إلى موضة فهناك في اللغة موضة أيضا.. نعم هكذا يحاولون إفهامنا أن «كلامنا قديم جدا» أو أنه «مش فاشن»!

***

تلك الصور التي أقل ما يقال عنها إنها مستفزة لمشاعر كثير من الصامتين غصبا أو كرها أو خوفا أو حتى ترفعا عن النزول لمثل هذه المستويات من الانحطاط.. تطاردنا الصور أو هم مستمرون في محاولة لحصارنا في إطارها مثلهم مثل أولئك الذين حملوا السيوف وقطعوا الرقاب على مرأى من محطات التلفزة الحداثية بكاميرات حديثة ومتطورة جدا.. هناك خدم التطور التقني كل الفكر المتحجر والمتطرف وهنا أيضا تخدم التكنولوجيا المروجين لهذه المرحلة.. هي كالقاتل الذى لا يكتفي بالذبح بل يريد أن يحوله إلى مادة للتفاخر أو للتخويف أو في محاولة ساذجة لغسل الأدمغة.. مع فنجان القهوة الصباحي تزدحم الصور وكذلك مع آخر كوب من شراب منعش في ليل تغلفه لسعة برد جميلة بعد قحط صيف «مكورن» أي صيف كورونا.

***

كبر بعضنا على أن القائد، الرئيس، الزعيم، الأمير، الملك أو حتى رئيس المؤسسة أو الشركة هو الأكثر قدرة ومعرفة على اتخاذ القرار فهو «يعرف أكثر» والمعرفة قوة حقا عندما تكون معرفة علمية مبنية على قرار متقن ومدروس أما المعرفة التى تديرها الأمزجة والمصالح فهي ليست معرفة وإنما فقط قرار فردي رغم أنهم مجموعة تجلس خلف مائدة طويلة وضعت عليها العصائر والماء بغاز أو دونه والقهوة بأنواعها والشاي بمذاقاته وعطوراته.. إذن فالقرار ليس فرديا بل جماعيا «ديمقراطيا» لأنهم يعرفون أكثر بل قادرون على الدفاع عن مصالحك أيها الفرد أكثر منك!

***

ما الجديد فى كل هذا الكلام المكرر؟ أن المعادلة لم تعد للمجموع بل أصبحت بين الأصدقاء والأفراد وبين العائلات والأصحاب والجمعيات الأهلية والخيرية والريعية وكلها انتقلت لها العدوى، كلها مصابة بنفس الداء.. تشاهد هذا السقوط فتتصور بأنك تأكل «الفوشار» أو كما يسميه أهلنا في الخليج بـ«النفيش»، فى سينما بمدينتك تعرض فيلما أمريكيا طويلا مع الاعتذار للعبقرى زياد الرحباني ومسرحيته «فيلم أمريكي طويل».

***

يبدأ التساقط من الرأس ثم تدريجيا يصل إلى شلتك، منزلك، زملائك المخلصين أو كانوا مخلصين، جمعيتك وأعضائها المحبين لك أو كانوا كذلك، مجتمعك المحلي، أو أهل حيك «فريجك».. من هنا تبدأ حكاية الانهيار التى قرأناها في كتب التاريخ بل بعضها تاريخنا القريب ــ البعيد. صديقات وأصدقاء لا يتحملون بعضهم أو بعضهن برغم أنهم ونحن مثلهم نردد تلك العبارة «الخلاف لا يفسد للود قضية». لقد أفسد الخلاف الود والعشرة وحتى الحب! لم تعد هناك مساحات إلا إلى كثير من الشك الذى تسلل للقلوب بعضهم يسميه نظرية المؤامرة. أتصور أن لا مؤامرة هناك ولا حاجة لها ما دمنا نحن كما نحن.. فحتى صناع نظريات المؤامرة تحولوا «على المعاش» أي تقاعدوا بعد أن اكتشفوا أن معنا لا حاجة لنظرياتهم!

(*) نقلا عن “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إعادة هيكلة سياسة مصر الخارجية.. مسألة وجودية
خولة مطر

كاتبة من البحرين

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هؤلاء من يصنعون سياسة الصين الخارجية