بطبيعة الحال، لا يتعلق الجدال حول هذه الدعوة (الدعوات) بالمظنون فيها ولا المكنون، ولا بمدى قدرتها على أن تحظى بتوافق إقليمي يرعاه ويعلو فوقه توافق دولي.
ماذا في سجلات التاريخ والتدخلات الدولية في لبنان؟
حين إنكفأ نابوليون بونابرت عن أبواب مدينة عكا الفلسطينية عام 1799، لأسباب عدة، منها جائحة الطاعون والتحالف العثماني ـ الإنكليزي، لم يشكل ذاك الإنكفاء المكتمل بالإنسحاب من مصر عام 1801، تراجعاً عن الإستراتيجيات الفرنسية بالعودة إلى مصر ذاتها وبلاد الشام، ففي عام 1805، غدا محمد علي باشا والياً على مصر وهو القائل:”أنا مثل الإسكندر المقدوني وُلدتُ في مقدونيا، وأنا مثل نابوليون بونابرت وُلدنا في اليوم نفسه”.
تلك الروح العسكرية لدى محمد علي باشا، وربما “أرواح” أخرى له، التقطها القنصل الفرنسي (من أصل إيطالي) في القاهرة “دروفيتي” Bernardino Drovetti المعروف بـ”قنصل نابوليون”، فأوصى به خيراً لدى القادة الأتراك لمّا عَزَمَ الباب العالي العثماني على تنحيته عن ولاية مصر بعد انقضاء سنتين على رأسها، بل إن “دروفيتي” أوعز إلى عشرات الفرنسيين الذين كانوا يعملون في خدمة محمد الألفي، غريم محمد علي باشا، بترك الأول والإلتحاق بالثاني.
وفي الأول من آذار/ مارس 1811، حين دقّ العثمانيون النفير لمحمد علي باشا بالتوجه نحو الجزيرة العربية لمقارعة أتباع المذهب الوهابي، جرّاء توسع نفوذهم آنذاك، “دُعيت أسرة الألفي إلى قلعة القاهرة لتشهد حفلة تقليد الحملة على الجزيرة العربية، فلم يسعها نبذ الدعوة، وبينما هم يودعون لينصرفوا، دنا أحد ضباط القصر من ضابط الفرقة الفرنساوية، هامساً بأذنه بأن يظل في مكانه، وبعد بضع دقائق، سُمع صوت مدفع، وتلته عيارات نارية عدة، وكانت مذبحة هائلة، نجا منها الفرنساويون من الردى، بفضل محمد علي باشا وميله إليهم كما مرّ بيانه”، مثلما يقول الياس الحويك في كتابه “صفحة من تاريخ مصر” الصادر في نيويورك عام 1914.
هذه العلاقة المتوثقة والمتطورة بين محمد علي باشا والفرنسيين، سيتوسع في سرد تفاصيلها إبراهيم بك ابو سمرا غانم، إبن أبو سمرا غانم، القائد الشهير في ما يُعرف في لبنان وسوريا بـ”حوادث سنة 1840″، ففي محاضرة ألقاها عام 1932 ونشرتها مجلة “المشرق” البيروتية وأصدرتها “المطبعة الكاثوليكية” يقول:”بعد أن ظفرت الجيوش المصرية بالوهابيين، فكر محمد علي باشا بإنشاء جيش منظم على الطريقة الأوروبية، فعهد بالأمر إلى الكولونيل سيف الفرنساوي الأصل، الذي صار في ما بعد سليمان باشا، فنجح في مهمته، وأنشأ أيضاً في الإسكندرية بحرية، وفتح في القاهرة معملاً لصنع الأسلحة والمدافع وسائر المعدات الحربية، وقد قام بجميع هذه الأعمال، رجال اختصاصيون من الفرنسويين”، وأما الأسطول البحري لمحمد علي باشا، فقد “جدّده المهندس الفرنساوي سيزري ونظمه بيسون”، كما يقول ويفصّل داوود بركات مؤسس صحيفة “الأخبار” المصرية ورئيس تحرير صحيفة “الأهرام” حتى العام 1933 في كتاب “البطل الفاتح إبراهيم وفتحه الشام”.
ماذا يعني ذلك؟
يعني ذلك، أن النفوذ الفرنسي الميداني والمباشر الذي تمثل بحملة نابوليون بونابرت على مصر وبلاد الشام، وإنتكست بيارقه عام 1801 بعد الإنسحاب من البلاد المصرية، أطل مجدداً بصورة غير مباشرة مع محمد علي باشا، وبالتحديد عام 1831، حين باشر إبراهيم باشا، نجل محمد علي بالتقدم نحو المناطق الفلسطينية، ثم اللبنانية والسورية وصولاً إلى قلب الأناضول، حيث إرتابت الدول الكبرى حينذاك من سيطرة إبراهيم باشا على مدينة الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية، فـ”إضطربت دول أوروبا وخشيت أن يختل التوازن الأوروبي، فعقدت انكلترة وروسيا والنمسا وبروسيا في مدينة لندرة، في الخامس عشر من شهر تموز/ يوليو سنة 1840، مؤتمراً قررت فيه مناصرة الدولة العثمانية، لأنه لم يكن من مصلحة هذه الدول تعزيز حكومة وراء نجاحها دولة فرنسا التي تعضدها بالمال وتبعث إليها بالماهرين من رجالها ذوي الإختصاص لإدارة شؤونها العسكرية والمالية والزراعية والعلمية والصحية”.
أنذرت الدول الأوروبية المرتابة محمد علي باشا، فلم يستجب، وإنما راح نجله إبراهيم باشا يوزع السلاح على فئة لبنانية لمقاتلة أخرى، كما يروي إبراهيم بك أبو سمرا غانم وكثيرون غيره، فغرقت البلاد في حفائر القتال والمذابح
وعلى هذه الحال، أنذرت الدول الأوروبية المرتابة محمد علي باشا، فلم يستجب، وإنما راح نجله إبراهيم باشا يوزع السلاح على فئة لبنانية لمقاتلة أخرى، كما يروي إبراهيم بك أبو سمرا غانم وكثيرون غيره، فغرقت البلاد في حفائر القتال والمذابح، و”في غضون ذلك، حدث قتال بين الدروز والنصارى في دير القمر وزحلة والمتن، وعزمت الدروز على الإجتماع في حمانا ليشغلوا إبراهيم باشا عن قتال عسكر السلطان في حمص”، على ما يروي الشاهد على تلك الفترة طنوس الشدياق في كتابه “أخبارالأعيان في جبل لبنان” ويقول “بالجملة، فإن المدة التي قضاها إبراهيم باشا في الديار الشامية قضاها في المحاربة”، مثلما يقول إبراهيم بك الأسود في كتابه “تنوير الأذهان في تاريخ لبنان” الصادر عام 1925، وكل ذلك استدعى الدول المناوئة لفرنسا إلى أن ترسل أساطيلها إلى لبنان وتحتله، وليصار بعد ذلك إلى إنتاج “نظام القائمقاميتين” الذي عرفه جبل لبنان بعد العام 1842.
ما يراد قوله في الجانب السردي المذكور آنفاً، إن اضطراب موازين القوى الدولية بعد حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام والأناضول، أنتج تدخلاً دولياً، وهذا التدخل أنتج بدوره نظاماً سياسياً شكل مفصلاً بارزاً في تاريخ لبنان.
ذاك المفصل الأول، ماذا عن المفصل الثاني؟
هذا المفصل، ليس بعيداً زمنياً عن سابقه، بل امتداد له، والمقصود نكبة العام 1860، ذلك أن مجمل أسبابها وجذورها مرتبطة بـ”تركة” وموروث حملة محمد علي باشا وإبنه إبراهيم على الديار اللبنانية والسورية، وما خلفته تلك الحملة من جراحات وندوب وكوارث طائفية لم يفلح “نظام القائمقاميتين” في تطبيبها وعلاجها.
عن نكبة العام 1860، يقول إبراهيم بك الأسود إن النار بقيت مضطرمة بعد العام 1840، فنشب اللهب عام 1844، واحتدم القتال بين مائتي قرية عام 1845، ولم يعرف الأهلون هناءة ولا سلامة، وما أن أقبل شهر أيار/ مايو 1860 حتى “كان الخطب عظيماً، وقد إمتدت الإعتداءات إلى جوار بيروت وغرب لبنان ومرجعيون ووادي التيم والبقاع ودمشق وزحله ودير القمر، وجرى إذذاك من الأعمال الفظيعة ما تقشعر له الأبدان”.
وحول نكبة 1860، من المناسب الرجوع إلى سجالات وجدالات ليست بعيدة زمنياً عن وقائعها، تلك السجالات إستمرت ستة أشهر ودارت على صفحات صحيفة “الأيام”، وكانت تصدر في نيويورك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وأورد بعضاً منها يوسف نعمان معلوف في كتابه “خزانة الأيام في تراجم العظام”، الصادر في عام 1899 في نيويورك أيضاً، وفيها:
يكتب شبل أفندي دموس فيقول “إن دول الفرنجة تبغي أن يكون لها يد في شرقنا، فلا ترى أصلح من المدافعة عن حقوقنا، بمعنى أننا أخوانها في الدين، وهو إدعاء صادر عن مكر وخبث ورياء وخداع، فالأحرى بهذه الدول عن تدافع عمن هو أقرب إليها، فما بال انكلترا تثقل نيرها على الإيرلنديين، وأين روسيا من المدافعة عن حقوقنا، وهي على ما عملت من الهمجية وإستبداد الحكم وظلم النظام، أو نصدق ألمانيا وهي الدولة التي لا تتظاهر سوى بالخبث ولا تقول سوى الرياء، أم نرتاح إلى مواعيد فرنسا وهي مسببة لحوادث 1860 ومجلبة الويل والباعثة على تلك الأهوال والمذابح”؟
يرد على هذه المقالة أسعد أفندي الملكي فيكتب:”ما الذي تعرفه عن أرلاندا؟ أتعلم أن لتلك البلاد الحق التام في إرسال نواب عنها إلى مجالس الأمة الإنكليزية؟ وأغرب من ذلك أنك تذكر الدولة الروسية بأنها مهد الظلم ومرتع الإستبداد وأن لا أمل يرجى منها لنصارى الشرق، أما أنها إستبدادية، فهذا ليس من شأننا، وأما أنها لم تنفع النصارى، فهو مما أنكره عليك وينكره كل منصف، ألا تعلم أنه لولا دوي مدافعها التي مادت لها أركان الآستانة لما كنت تجسر على رفع رأسك في الشرق؟ والغريب في بيانك ذكرك لحادثة الستين وأن فرنسا مسببة لها، وهو من غرائب التطاول على دولة التمدن والرأفة والحنان”.
بعد إندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وفي وقت كانت الجولات الأولى من الحرب محصورة بين اللبنانيين ومع صبغة فلسطينية محدودة، ارتفعت أصوات لبنانية مطالبة بـ”تعريب” الحل كطريق للخلاص من الحرب، وجاء رد معترض من أصوات أخرى تقول إن “التعريب” سيجر أذيال “التدويل”
ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن أهل الدار لا ينفكوا عن تلاوة بيت الشعر هذا:
تدور علينا عيون الذئاب / فنحتار من أيها نحتمي.
عموماً، أدت مهالك العام 1860 إلى تكريس التدخل الدولي ونقله من الواقع الميداني إلى الواقع السياسي من خلال الدفع بإتجاه إنتاج “نظام المتصرفية”، بعدما وافقت السلطنة العثمانية على إدخال تغييرات وتعديلات على “نظام القائمقاميتين”، وتوضح رسالة من الباب العالي إلى سفيري فرنسا وإنكلترة مؤرخة في العشرين من تموز/ يوليو 1860، مضمون تلك الموافقة على الشكل التالي:”إيفاد لجنة أوروبية إلى سوريا لإجراء تحقيقات فيها بإشتراك مع مأموري الباب العالي وإدخال التعديلات اللازمة على نظام 1845ـ إنفاذ قوة إلى سوريا للمساعدة على إعادة مياه الراحة إلى هذه الإيالة ـ عقد اتفاق مع الدول العظمى للقطع بهاتين المسألتين”.
مع “نظام المتصرفية”، وقبله “نظام القائمقاميتين”، تولدت قناعات ـ بل إيديولوجيات ـ الإستدعاء للقوى الدولية كلما دب إختلاف أو نشب خلاف، ومن دون النظر إلى عاملين في غاية الأهمية، الأول: يبحث في الأسباب المحلية لأي خلاف أو إختلاف إنطلاقاً من قاعدة فطرية بشرية تؤكد استحالة إجتماع الناس على عقل واحد وفكر واحد ورأي واحد ومصلحة واحدة، والثاني: عدم إعطاء الأحجام الحقيقية لمخاطر التدخلات الدولية المتضاربة المصالح والطموحات، والوقوف دائماً عند مقدمات تلك التدخلات، وصرف النظر عن تناقضاتها وتداعيات ذلك على الواقع المحلي.
بعد إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وفي وقت كانت الجولات الأولى من الحرب محصورة بين اللبنانيين ومع صبغة فلسطينية محدودة، ارتفعت أصوات لبنانية مطالبة بـ”تعريب” الحل كطريق للخلاص من الحرب، وجاء رد معترض من أصوات أخرى تقول إن “التعريب” سيجر أذيال “التدويل”، ولذلك فالرؤية الفضلى تقتضي حصر الحل بأهل الداخل عبر الذهاب إلى إصلاح النظام السياسي اللبناني وإقامة دولة يتساوى تحت قوانينها كل اللبنانيين.
هذا الإعتراض على الإحتكام إلى الخارج، قوبل برفض عنيد، ومع تعاقب جولات القتال وتحولها إلى حرب فعلية، راح اللبنانيون يشتعلون في أتون تعويلاتهم على الخارج، فتقرر في منتصف العام 1976 إرسال “قوات الأمن العربية” إلى لبنان، وفي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1976، تقرر تحويل “قوات الأمن” إلى “قوات ردع” بعد مؤتمر القمة العربية في العاصمة السعودية والمعروف بـ”مؤتمر الرياض”.
لم يفلح “التعريب”؛
فإسرائيل كانت بالمرصاد، كما أن التحول المصري نحو “السلام” مع اسرائيل، أسقط على العلاقات العربية ـ العربية، قطيعة مع مصر وتضاربات في المصالح معها، إستغلها الإسرائيليون بإجتياح قسم من جنوبي لبنان في آذار/ مارس 1978، واستكملوه بالغزو الواسع في حزيران/يونيو 1982 بإحتلالهم بيروت، ومع خروج المقاتلين الفلسطينيين من العاصمة اللبنانية، كانت “القوات المتعددة الجنسية” تحط رحالها في لبنان لتزيده تعقيداً.
لم يفلح “التدويل”؛
فجولات الموت والحرب، ستضرب اللبنانيين بعنف أعمى في عقد الثمانينيات، فكانت “حرب الجبل” (1983) أمثولة، وحروب الأخوة مع الأخوة وحروب “الصف الواحد” مع “الصف الواحد”، غطت ساحات ومساحات الكل مع الكل، إلى أن حلت “اتفاقية الطائف” عام 1989، فاتحة الطريق أمام مدخلين: مدخل إيقاف الحرب ومدخل إصلاح النظام.
حسناً توقفت الحرب، وقيل في ذلك، إن الحرب الساخنة توقفت وحلّت مكانها الحرب الباردة بين اللبنانيين، لا بأس ولا غضاضة في الأمر طالما لا أرواح تزهق ولا أملاك تحرق، وعلى هذا النحو، إستمرت وقائع السياسة اللبنانية حتى لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فكان ما كان من اصطفافات مرعبة انطفأ بعض حمأتها في “تسوية الدوحة” عام 2008، لتستعيد جذوتها بعد الحرب السورية عام 2011، ولتعلو حدتها بعد الإنهيار المالي والإقتصادي في صيف العام 2019، ولتشهد تتويجاً لها في القول المستعاد عن الرعاية الدولية والتدخل الدولي.
مائة وستون سنة من القول ذاته والمقولة ذاتها، ومع كل هذا العمر المديد لذاك القول وتلك المقولة، لم يتم الإلتفات ولا مرة إلى سؤال من ماس وذهب: لماذا نختلف؟ ولماذا كلما إختلفنا نذهب إلى حرب؟.
هذا السؤال، لو جرى تدقيق فيه، ومن ضمن “لغتنا الجميلة” المحتوية على أفعال الجزم وأدوات الجزم، ربما إنقلبت المطالبة بالتدخل الدولي، إلى الجزم بضرورة الإستعجال والإلحاح بانعقاد مؤتمر وطني لا ينفك عقده ولا يتركه المؤتمرون إلا بعد إنتاج صيغة جامعة تقول: لا فرق بين لبناني ولبناني إلا بالتقوى الوطنية.
هل يمكن اللجوء إلى إجابة الجزم الوطنية؟ إجابة يكون مبتدؤها حوار وخبرها دولة لكل اللبنانيين، إجابة يكون أولها: كلنا للوطن وآخرها: كلنا للوطن.
أهلكتنا التدخلات الدولية والرعايات الدولية والحمايات الدولية منذ إبراهيم باشا، أي منذ أكثر من قرن ونصف القرن.
إرحمونا.. يرحمكم الله.