ظل سعد الدين العثماني طوال المرحلة الماضية يوزع الكلام على عواهنه ذات اليمين والشمال، معلنا رفضه تطبيع بلاده مع الصهاينة، مؤكداً أن “التطبيع مع إسرائيل يعزز موقف الكيان الصهيوني في مواصلة انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني”. كأن الرجل برغم موقعه المتقدم في الدولة كان آخر من يعلم، فالاتصالات للإعداد لإعلان التطبيع زادت سرعتها القياسية في الأشهر الماضية. وفيما كان رئيس الحكومة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية (ذي التوجه الإسلامي) يقف أمام شبيبة حزبه ليبلغهم جازماً استبعاد “إشاعة التطبيع”، كان صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكبير مستشاريه جاريد كوشنر مع فريقه الأمريكي – الإسرائيلي يجتمعون مع مسؤولي الخارجية والاستخبارات المغربية في الرباط للتوافق على آخر اللمسات التقنية وتحديد تاريخ قريب قبل نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب، بإعلان إقامة علاقات دبلوماسية بين أقصى بلد في الخريطة العربية وبين إسرائيل.
مما أكده العثماني حينها (24 غشت/آب 2020)، أن هناك “خطوطا حمراء بالنسبة للمغرب ملكا وشعبا وحكومة، وأن موقف المغرب ملكا وشعبا وحكومة هو الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى المبارك ورفض أي عملية تهويد أو التفاف على حقوق الفلسطينيين والمقدسيين وعروبة وإسلامية المسجد الأقصى والقدس الشريف”.
بعد الإعلان الرسمي لتطبيع المغرب مع إسرائيل، ترقبت الأعين بإشفاق ردة فعل سعد الدين العثماني، لأن أكثر من جهة استبعدت أن يعاكس العثماني الموقف الرسمي للملك، أو سيقدم على مفاجأة الرأي العام بتقديم استقالته مع وزراء حزبه الستة، برغم أن محمد أمكراز، وزير الشغل والإدماج المهني المنتمي لحزب العدلة والتنمية، تسرّع في الإدلاء بتصريح انفعالي إلى قناة “الميادين” اللبنانية، معلنا رفضه التطبيع. مخالفاً توجه السياسة الملكية وهو وزير في حكومة جلالته، ما وضعه هدفا لهجوم الفيسبوكيين الذين طالبوا بإقالته، وانتقدوا إطلالته الرافضة للتطبيع بصفته رئيسا لشبيبة العدالة والتنمية. وعابوا عليه “تعامله مع قناة يمولها حزب الله الذي يتهمه المغرب بالتورط في تدريب وتسليح مليشيات البوليساريو”!.
لقد وجد سعد الدين العثماني نفسه محرجا وفي موقف صعب. وانتظر الرأي العام قرابة أسبوع قبل ظهوره مجدداً لكن هذه المرة على قناة “الجزيرة” من الدوحة، للحديث عن مباركته للتطبيع وتبريره لما حصل من تطور يناقض ما صرح به قبل أسابيع قليلة.
إسكات الإخوان!
ولم يتردد آخرون في وصف الحزب الاسلامي الذي يقود الحكومة، بـ”الانتهازية وبيع القضية والنوم في عسل الريع والاستفادة من المال العام”. وبأن سلوكه لا يخرج عن “السلوك الخياني لحركة الإخوان المسلمين”، برغم أن الشيخ أحمد الريسوني، أحد الوجوه البارزة في حزب العدالة والتنمية، هاجم مبادرة التطبيع المغربي- الإسرائيلي، من موقعه رئيساً للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (خلفا للشيخ يوسف القرضاوي). وكان لموقف الرئيس التركي رجب الطيب أروغان عدم رفضه تطبيع الرباط مع إسرائيل، إشارة قوية أسكتت جزءاً من مؤيدي التيار الإخواني الإسلامي في المغرب وبعض دول المنطقة.
أما جماعة “العدل والإحسان” الإسلامية (غير المعترف بها قانونياً)، فقد أدانت في بيان صادر عن “مجلس الإرشاد” قرار التطبيع مع إسرائيل، واعتبرته “خطوة غير محسوبة العواقب”، موضحة أن “هذا القرار يتنافى مع المواقف التاريخية والآنية لهذا الشعب الكريم الداعم لإخوانه في فلسطين، ولحقهم الكامل في تحرير أرضهم والعودة إلى ديارهم”.
اليسار المغربي يناهض
من جانبه، نادى الطيف اليساري المغربي، بأحزابه وهيئاته الحقوقية ومنظماته المدنية ورموزه السياسية والفكرية، بمناهضة التطبيع مع إسرائيل. وأصدرت فيدرالية اليسار الديمقراطي (الاشتراكية) وحزب النهج الديمقراطي (الماركسي)، ومركزية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (العمالية)، بيانات أوضحت فيها موقفها الرافض للتطبيع ولصفقة مقايضة الصحراء المغربية بالقضية الفلسطينية. وخرج متظاهرون ضد التطبيع في بعض المدن، مثل مكناس والدار البيضاء. واتجهت السلطات إلى منع وقمع الوقفة السلمية التي دعت إليها أكثر من 55 منظمة وهيئة مغربية مناهضة للتطبيع أمام ساحة البرلمان في الرباط، وجرى إقفال العاصمة وتطويق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في شارع محمد الخامس، وكان لافتا للإنتباه حضور المحامي اليساري الأستاذ عبد الرحمان بنعمرو برغم سنوات عمره ومرضه، إلى جانب المناضل اليساري والمعتقل السياسي السابق اليهودي المغربي سيون أسيدون يلف عنقه بالكوفية الفلسطينية وبيده علم فلسطين. لكن قوات الأمن قامت بإرغامهما على مغادرة المكان بعد مشادة كلامية وتدافع مع المتظاهرين.
وفي الوقت الذي تتجه فيه السلطات المغربية إلى قمع التظاهرات المعارضة للتطبيع، فإنها عمدت إلى حشد حوالي 30 الف في مهرجان كبير بمدينة العيون في الصحراء، نسب تنظيمه إلى حزب الاستقلال، احتفالا بـ”النصر الدبلوماسي التاريخي الذي حققته المملكة” وبقرار فتح قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة (في الصحراء).
تخوين الفلسطينيين
ولم يكن جديدا انضمام الأحزاب المشاركة في الحكومة والممثلة بفرق في البرلمان إلى التصفيق للمقايضة التي أنجزت، باعتراف ترامب بمغربية الصحراء، مع التقليل من أهمية الاعتراف الدبلوماسي العلني للمملكة بإسرائيل.
في الوقت نفسه، تحولت بعض صفحات الفيسبوكيين المغاربة إلى منصات تأييد للتطبيع، بل ظهرت حسابات جديدة اختصت في كيل الشتائم والسباب إلى الفلسطينيين وإلى “القومجيين” كما سمتهم. وأعيد نشر صور للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يسلم على الرئيس السابق للبوليساريو محمد عبد العزيز، وأخرى لمحمود عباس يتوسط العقيد معمر القدافي ومحمد عبد العزيز، وصورة للسفير الفلسطيني في الجزائر حاملا علم الجمهورية الصحراوية. كل ذلك للقول إن الفلسطينيين خانوننا ولا يستحقون دعمنا، فلنضع أيدينا بيد إسرائيل، وبينهم إخوتنا الإسرائيليون اليهود المغاربة. ولم تفلت السياسية الفلسطينية حنان عشراوي من هجومات المدونين وشتائمهم بعد تدخلها عبر قناة أمريكية هاجمت فيه التطبيع المغربي واصطفت إلى جانب “الشعب الصحراوي”.
كما انتشرت تدوينات تقول بأن “الوطن أولا”، وتخون من يرفض التطبيع. وأكثر أصحاب تلك الحسابات من الأمازيغيين الذين أصبحوا في الأعوام الأخيرة يجاهرون بمعاداة العرب وفلسطين، ولا يتأخر متزعمو الحركة الأمازيغية في زيارة إسرائيل وحمل علمها، لذلك طالب بعضهم بجعل يوم إعلان ترامب والتطبيع (10 ديسمبر/كانون الأول) عيدا يضاف إلى الأعياد الوطنية للمملكة!
وشهد البرلمان المغربي مداخلات لنواب أشادوا بـ”القرار الحكيم” للمملكة، بل وصل الأمر ببعض النواب إلى المطالبة بقمع كل الرافضين للتطبيع.
بداية أم نهاية؟
في المقابل، لم يتراجع المعارضون للمقايضة والتخلي عن فلسطين، في التواجد على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت فجأة مجالا للمزايدات بالوطنية وتبادل التخوين. واعتبر المرصد المغربي لمناهضة التطبيع في تدوينة نشرت على صفحته بالفيسبوك أن “من تخلى عن فلسطين لا يمكن أن يؤتمن على الصحراء الغربية”. وغلبت التعابير العاطفية المتشنجة على لغة العقل والنقاش الهادئ والمتزن. وقال مدون من الرباط “إن أغلب المؤيدين لقرار الملك هم من زمرة المستعدين دائما للتصفيق والتطبيل و”العياشة” (مرادف تعبير “الشبيحة” و”البلطجية”).
وللإشارة فإن القصر هو من يستفرد بملف الصحراء منذ نشأته، أما الأحزاب والهيئات السياسية والنقابية والمدنية فلا يجري استدعاؤها إلا للإخبار والمباركة والتأييد. وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن وافق على قرار الاستفتاء في القمة الإفريقية المنعقدة في نيروبي في يونيو/حزيران 1981، من دون الرجوع إلى البرلمان أو الأحزاب، ولما رفض الزعيم الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد تفرد الملك بالقرار تمت محاكمته وسجنه.
والأفدح أن الإعلام الرسمي المغربي حرص على تسويق المقايضة كربح كامل وكنهاية لنزاع الصحراء الغربية. وأن الملف تم طيه. وقد انبرت تدوينات ومداخلات عبر مواقع التواصل إلى توضيح حقيقة هذه المزاعم، خلاف ما يدعيه وزير الخارجية ناصر بوريطة وخلفه مجموعة من”المحللين السياسيين” الذين يظهرون على شاشات الفضائيات، ومن بين أصحاب الرأي الآخر المناهض للتطبيع، الباحث المغربي محمد الشرقاوي الخبير السابق في الامم المتحدة، الباحثة فاطمة معروف المقيمة بكندا، أستاذ الفلسفة عبد الرحمان الغندور، نبيلة منيب الأمين العام للحزب الإشتراكي الموحد، المفكر اليساري محمد طالب الحبيب، واليساريون عبد الله الحريف وعبد المنعم أوحتي وجليل طليمات وغيرهم.
التحريض على الحرب
أميركياً، جرى التشكيك في قانونية إعلان ترامب بمغربية الصحراء، وتساءل البعض حول ما إذا كان الرئيس المنتخب جو بايدن سيحتفظ بالقرار أو يتنصل منه بعد توليه منصبه في كانون الثاني/يناير المقبل. وقد طالبه مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون إلغاء قرار دونالد ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية لأنه “يقوّض سياسة أمريكية حذرة مضى عليها عقود من النزاع على المنطقة”. وذكرت مجلة “فورين بوليسي” أن إعترف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية “هو تجاهل لثلاثة عقود من دعم الولايات المتحدة لمبدإ تقرير المصير من خلال استفتاء”.
أما جريدة “الفايننشال تايمز” البريطانية فإعتبرت أن اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية “لا ينشر السلام وإنما يحرّض على الحرب”، في إشارة إلى الخشية من انفلات الأوضاع نحو حرب شاملة بين المغرب والجزائر.
يذكر أن مجلس الأمن الدولي سيعقد الاثنين اجتماعا مغلقا، بطلب من ألمانيا، لمناقشة قضية الصحراء الغربية، فيما أرسلت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، إلى الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريس وإلى مجلس الأمن نسخة من إعلان ترامب الذي يعترف “بأن كامل أراضي الصحراء الغربية جزء من المملكة المغربية”!