ذُهلت كما ذهل الأمريكيون مما شاهدناه يحدث فى 6 كانون الثاني/ يناير. وأتصور أن التاريخ الأمريكى عرف حدثين بنفس القوة لكنهما لم يكونا بنفس الخطورة على الدولة الأمريكية الحديثة.
فى السابع من كانون الأول/ ديسمبر عام 1941، أغار الأسطول الجوى اليابانى على الأسطول البحرى الأمريكى فى المحيط الهادئ، وتحديدا فى بيرل هاربر بجزيرة هاواى، ونتج عن ذلك إعلان الحرب على اليابان ودخول واشنطن الحرب العالمية الثانية. وبعد ستين عاما وفى الحادى عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، اختطفت مجموعة من الإرهابيين أربع طائرات، وأسقطوا بهم برجى التجارة العالميين فى قلب مدينة نيويورك ومبنى البنتاجون، وأعلنت واشنطن بدء حربها العالمية ضد الإرهاب والذى غزت معه أفغانستان والعراق ولم تنسحب منهما بصورة كاملة بعد.
وفى الحالتين، أصبحت أمريكا قبل الحدث تختلف تماما عن أمريكا بعد الحدث، وأتصور أن السادس من كانون الثاني/ يناير 2021 سيكون بأهمية الحادثتين السابقتين، وأن أمريكا قبل 6 كانون الثاني/ يناير ستختلف عن أمريكا بعد 6 كانون الثاني/ يناير. وتعد حادثة اقتحام الكونجرس أكثر خطورة من حادثة تدمير الأسطول فى بيرل هاربر أو حوادث 11 أيلول/ سبتمبر على الرغم من مقتل خمسة أشخاص فقط، فى حين قتل ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص فى الحادثتين السابقتين.
وتعد أحداث 6 كانون الثاني/ يناير أكثر خطورة؛ لأنها صنعت وبالكامل فى أمريكا، وهى أزمة أمريكية بامتياز تعبر عما وصل إليه حجم الاستقطاب، فى وقت يؤكد على فشل كثير من دول العالم من حيث التقدم التكنولوجى فى الاستعداد لتبعات توغل التكنولوجيا فى الحياة العامة.
***
أثناء وقبل خطاب ترامب تحدثت مع الكثير من أنصاره الذين يؤمنون بما يقوله لهم من أن الانتخابات سُرقت منه وتم تزويرها لصالح جو بايدن.
وفسر الكثير منهم سبب الولاء المطلق لدونالد ترامب، ويرون أن هناك تآمرا مستمرا ضد ترامب بدأ حتى من قبل وصوله للحكم. وقال لى أحد أعضاء جماعة “براود بويز” اليمينية «لقد تآمرت المؤسسات السياسية الأمريكية ضد ترامب، ولا تزال تتآمر بهدف منع انتخابه عام 2020، بعدما فشلت فى منع وصوله للبيت الأبيض عام 2016».
لكن أهم ما سمعته فى هذا اليوم جاء على لسان رجل ارتدى ملابس شبه عسكرية، إذ قال «لو لم يوجد ترامب.. لأوجدناه».
***
تاريخيا تبنى الحزب الجمهورى أفكارا وقيما تقليدية محافظة سواء الاجتماعى منها، أو ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فى الوقت الذى تبنى فيه سياسة خارجية تدعم التدخل فى الشئون العالمية، ولا تمانع من استخدام القوة والسلاح لخدمة المصالح الأمريكية
بعيدا عما يفكر فى فعله الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب بعد مغادرته البيت الأبيض فى 20 كانون الثاني/ يناير، لن يختفى تأثيره سريعا، إذ فاز بأصوات أكثر من 74 مليون أمريكى، بزيادة تقدر بـ11 مليون صوت عما حققه فى انتخابات 2016، وذلك على الرغم من تعرضه لتحقيقات حول التدخل الروسى استمرت عامين، وتحقيقات بهدف عزله استمرت لنصف العام، وجائحة غير مسبوقة نتج عنها وفاة ما يقرب من 400 ألف أمريكى، وإصابة 23 مليون آخرين حتى موعد كتابة هذا المقال.
لكن بعيدا عن التأثير الواسع لترامب على الحياة السياسية الأمريكية وعلى الحزب الجمهورى تحديدا، حرى بنا التذكير أن ترامب لا يمثل مرضا بحد ذاته، بل هو العرض لما تعرفه أمريكا منذ عقود طويلة.
فقد عرفت الولايات المتحدة تيارات شعبوية منذ تأسيسها فى نهايات القرن 18. ومثّل العام 2008 نقطة تحول هيكلية فى تركيبة الحزب الجمهورى، فقد خرجت إرهاصات التيار اليمينى عمليا وبقوة وتشكلت منذ عام 2008، الذى شهد حدثين تاريخيين، أولهما الأزمة الاقتصادية الكبيرة، وثانيها وصول رئيس أسود للبيت الأبيض.
ودفعت هذه التطورات فى ضخ دماء جديدة فكرية وتنظيمية، وهو ما سهل من وصول التيار الشعبوى، الذى نجح ترامب فى امتطاء قيادته.
ويضم الحزب الجمهورى منذ ستينيات القرن الماضى تيارات فكرية متنوعة، تبلورت بوضوح مع إقرار قوانين الحقوق المدنية، التى منحت حقوقا مساوية للسود. وعلى رأس تلك التيارات يأتى المحافظون الاقتصاديون (فيما يتعلق بالضرائب وقطاع الأعمال)، والمحافظون الاجتماعيون (ممن يؤيدون وبشدة شكل العائلة التقليدى ويعادون الإجهاض)، والمحافظون الجدد (ممن يدفعون لاستخدام القوة والحروب الخارجية)، وضم كذلك المعارضين لدور متضخم للحكومة الفيدرالية. وتاريخيا تبنى الحزب الجمهورى أفكارا وقيما تقليدية محافظة سواء الاجتماعى منها، أو ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، فى الوقت الذى تبنى فيه سياسة خارجية تدعم التدخل فى الشئون العالمية، ولا تمانع من استخدام القوة والسلاح لخدمة المصالح الأمريكية. واحتفظ الجمهوريون الوسطيون المرتبطون بالمؤسسات الحزبية ببوصلة الحزب، التى ترأسها خبراء كثيرون كيمين للوسط منذ ستينيات القرن الماضى.
***
ودفعت نتائج تصويت أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب فى التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، حتى بعد اقتحام الكونجرس، لتذكير الأمريكيين أن الطريق مازال طويلا أمام إنهاء الاستقطاب السياسى فى وقت يضغط فيه تيار يمينى على مؤسسات الحزب الجمهورى التقليدية، وهو ما يقابله ضغط متزايد من التيار اليسارى داخل الحزب الديمقراطى.
لقد نجح دونالد ترامب فى إحداث ثورة بالمعايير السياسية الأمريكية، ونجح فى إثارة حماس ملايين المواطنين ودفعهم للمشاركة السياسية بصورة غير مسبوقة، ولا أتوقع أن تنتهى الترامبية حتى مع هزيمة ترامب وخروجه من البيت الأبيض بعد أيام.
قبل 4 سنوات، فاز ترامب ووصل للبيت الأبيض؛ بسبب انقسام أمريكا، وتزايد الغضب بين ملايين الأمريكيين، وها هو ترامب يغادر الساحة السياسية بعد 4 سنوات، ويترك أمريكا أعمق انقساما وأكثر غضبا.
(*) بالتزامن مع “الشروق”