كانت النهايات محتمة، لكنها طالت واستغرقت وقتا طويلا.
بأية قراءة موضوعية مات النظام إكلينيكيا عام (2005)، وهو العام الذى أجريت فيه انتخابات رئاسية قيل إنها تعددية، وبرلمانية شهدت صفقات انتخابية مع جماعة «الإخوان المسلمين».
بقوة الصور ورسائلها، بدا الرئيس الأسبق غير قادر على ممارسة صلاحياته، ولا كان خطابه السياسى متماسكا، أو مقنعا، لكنه تمكن من البقاء فى السلطة لخمس سنوات أخرى بفضل اتساع هامش الحريات الصحفية والإعلامية.
سألت آخر وزير إعلام فى عهده «أنس الفقى»: من المستفيد الأول من هامش الحريات الصحفية والإعلامية؟
قال بلا تردد: «النظام طبعا».
كانت تلك حقيقة، فالحريات الصحفية والإعلامية رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل، عندما تبددت تلك الآمال بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية فى خريف (2010) اقتلع النظام يعد أسابيع قليلة.
هناك من توقع «ثورة جياع»، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو «انتفاضة خبز جديدة» كما فى كانون الثاني/ يناير (١٩٧٧)، أو «حريق قاهرة آخر» على النحو الذى جرى فى كانون الثاني/ يناير (١٩٥٢).
لم يخطر ببال أحد إطاحته بثورة شعبية تتصدرها الأجيال الجديدة وتدعو إلى نظام ينسخ الماضى ويلتحق بعصره.
جاء التغيير فى «يناير» من خارج السياق السياسى، الذى همشت منابره.
كانت تلك نقطة قوة من حيث اتساع الحشد والتعبئة ونقطة ضعف من حيث ما بدا أنه فراغ قيادى سهل اختطاف الثورة على يد الجماعة.
كانت “الجماعة” آخر من دخل ميدان التحرير وأول من خرج منها.
لخّص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين فى صلب القرارين الاقتصادى والسياسى بزواج بين السلطة والثروة.
لم يكن ممكنا بأى حساب توريث الحكم بغير أثمانٍ باهظة واضطرابات لا قبل لأحد بها.
كان طبيعيا فى بلد محورى مثل مصر أن تتدخل أجهزة استخبارات دولية لتوظيف الأحداث الكبرى وفق مصالحها الاستراتيجية، أو على الأقل خفض فاتورة المخاطر على تلك المصالح.
غير أن ذلك لا يعنى أن الفعل الثورى نفسه مؤامرة وأسبابه «نكسة».
أحد أسباب ذلك السقوط التعويل على قوة الأمن وحده لضمان استقرار النظام وأن فيه الكفاية لمنع أى خطر على وجوده دون حاجة إلى أية ركائز أخرى تثبته
قيمة «يناير» فى التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التى لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلا وحرية وكرامة إنسانية.
قبل “يناير” تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة فى البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كله فى العراء السياسى.
رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التى دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجا إلى إعلان تذمرها فقد كان «مشروع التوريث» هو نقطة التفجير التى استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.
لم يكن الجيش فى وارد الصدام مع الإرادة الشعبية لتمرير التوريث، أو الدفاع عن نظام فقد شرعيته.
ولم يكن هناك ظهير سياسى يؤيد «مبارك» فى لحظاته الأخيرة، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف فى ميدان «التحرير».
ما هو مصطنع يسقط فى كل اختبار.
سقط «مبارك» لأن نظامه تقوّض من الداخل دون حاجة إلى مؤامرة.
أحد أسباب ذلك السقوط التعويل على قوة الأمن وحده لضمان استقرار النظام وأن فيه الكفاية لمنع أى خطر على وجوده دون حاجة إلى أية ركائز أخرى تثبته.
لمدة خمس سنوات قضاها نائبا للرئيس فى ظل «أنور السادات» تولى الملف الأمنى، وهو رجل أمن يفهم فيه ويبالغ فى اعتباراته على حساب أى شيء آخر.
بعد محاولة اغتياله فى «أديس أبابا» منتصف تسعينيات القرن الماضى مال إلى تركيز إضافى على الأمن غير أن نقطة التحول الجوهرية رافقت الانتخابات الرئاسية عام (٢٠٠٥).
أدار الانتخابات نجله الأصغر والمشهد أوحى أننا أمام بروفة مبكرة لـ«توريث الحكم».
فى اجتماع احتفالى بحى مصر الجديدة تصدرته قيادات «أمانة السياسات»، سأل اللواء «حبيب العادلى» واحدا من المجموعة القريبة من نجل الرئيس: «ماذا تخططون؟».
لم يكن فى حاجة إلى إجابة فقد حزم أمره على أن يكون «وزير داخلية التوريث».
كان ذلك إقحاما للأمن فى ملف ملغم.
لم يكن «الحزب الوطنى الديموقراطى» حزبا حقيقيا بقدر ما كان تجمعا لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أى سلطة.
فى لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملا للبنية السياسية المصطنعة.
بقدر ما تكون الحياة السياسية صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة.
كما لم يعصم النظام من السقوط ارتفاع معدلات النمو، فهو لا يغنى عن التنمية الحقيقية.
بالأرقام تجاوزت نسبة النمو حاجز الـ(٧٪)، وهى نسبة لا مثيل لها فى التاريخ المصرى المعاصر، غير أنها لم تمنع الانفجار الاجتماعى الذى أطاح النظام كله.
ذهبت عوائد النمو إلى طبقة رأسمالية متوحشة توغلت فى الفساد وجنت أموالها من زواج السلطة بالثروة.
فى الغنى الفاحش بغير إنتاج حقيقى والفقر المدقع بغير أمل بالحياة تعمقت التناقضات إلى حدود استدعت قلقا داخل قطاع الأعمال الخاص نفسه.
بحكم خبرته المباشرة لم يكن الرئيس الأسبق «مبارك» يجهل حقائق القوة، غير أنه لم يكن حازما فى وقف مشروع التوريث وترك التفاعلات تمضى إلى نهاياتها المحتمة.
فى اللحظة التى استهترت بعض أطراف «أمانة السياسات» بحقائق القوة دفعت الثمن فادحا فى «يناير» (2011) على ذات القدر الذى دفعته الجماعة فى «يونيو» (2013).
أسوأ مقاربة ممكنة لما جرى ادعاء الحكمة بأثر رجعى وقراءة التاريخ بالهوى.