بعد سلسلة من العمليات الفاشلة التي اعتُبِرَ رئيس “وحدة قيصرية” زفي اهاروني مسؤولا عن عدم نجاحها “في تصفية زعماء الارهاب”، استقال من منصبه ليخلفه مايك هراري.
وضع هراري خطة أسماها “الصحراء البيضاء” لاغتيال ياسر عرفات خلال احتفال كان سيجريه الزعيم الليبي معمر القذافي في الاول من ايلول/ سبتمبر (ذكرى ثورة الفاتح) عام 1970 (أي بعد مرور عام واحد على وصول القذافي الى السلطة بانقلاب عسكري)، وتم تشييد منصة للإحتفال مخصصة للشخصيات المهمة بمحاذاة الحائط الذي كان يحيط بمدينة طرابلس الغرب القديمة.
طرحت عدة افكار في “وحدة قيصرية” لإستهداف عرفات، منها ان يتم وضع مدافع “مورتر” خارج منطقة الاحتفال، مع اجهزة توقيت لاطلاقها نحو المكان الذي سيجلس فيه عرفات وباقي القادة، ومنها ايضا ان يتم زرع عبوات ناسفة تحت المنصة التي سيجلس عليها عرفات ورفاقه، ولكن كلتا الفكرتين إستبعدتا لانهما ستؤديان إلى مقتل العديد من الحاضرين. استقر الرأي اخيراً على ارسال قناص لقتل عرفات خلال الاحتفال.
لهذه الغاية، سافر مايك هراري وفريق من وحدته الى ليبيا مرات عدة لاستطلاع المكان واستئجار بيوت آمنة وضع خطة فرار بعد تنفيذ العملية. ولكن عندما حمل مدير “الموساد” زفي زامير الخطة الى رئيسة الوزراء جولدا مائير رفضت اقرارها لانها خافت ان ينكشف أمر ان “اسرائيل” تقف وراء العملية، وبالتالي ان تستدرج العملية ردوداً مشابهة “تؤدي إلى قتل سياسيين اسرائيليين”، كما يروي رونين بيرغمان.
خاب امل هراري من رفض مائير لخطته، فأرسل البعض من عملائه الى اوروبا وبحوزتهم خطة تهدف إلى تفعيل عمليات البريد المفخخ ضد النشطاء الفلسطينيين، ولكن هذه الخطة لم تأت بمردود مهم اذ أنها لم تؤد سوى الى تصفية ناشطين ليصبح بعدها الفلسطينيون اكثر حذراً في التعامل مع بريدهم. بدت خيبة الامل عامة لان الاهداف الرئيسية لـ”الموساد” بقيت حية، ويعدّد رونين بيرغمان هذه الاهداف قائلاً: “ياسر عرفات، (خليل الوزير) ابو جهاد، جورج حبش، وديع حداد بقيوا احياء وبصحة جيدة”.
ضباط “وحدة قيصرية” يشتكون: “لماذا نجلس بلا اي عمل في الوقت الذي نرى فيه الارهابيون يخططون يومياً لقتل اليهود، نعلم اين هم في المانيا وفرنسا وايطاليا وقبرص ومكاتبهم معروفة للعامة في تلك البلاد. هم لا يختبئون. لماذا لا نفجّرهم”؟
وفي ما يشبه التبرير للفشل المتواصل، يقول بيرغمان نقلا عن هراري انه كان لديه نوعان من المصاعب؛ الاول، إختيار المنظمات “الارهابية” مقراتها في عواصم الدول العربية، ما يعطيها نوعا من الحصانة بالاضافة الى صعوبة عمل عملاء “وحدة قيصرية” في هذه العواصم؛ الثاني، عملاء “قيصرية” لم يكونوا ملائمين حينها للعمل الميداني غير الاستطلاعي، أي ليسوا على طريقة جيمس بوند الذي كان يصوّر على انه متعدد المهام فهو باستطاعته ان يتغلل في صفوف العدو ويستطيع أن يكون قاتلاً محترفاً وفناناً وخبير مراقبة يجمع المعلومات ويحللها ويرسلها الى القيادة، غير ان الحقيقة لا تشبه الافلام ابداً، خاصة في “الموساد”، فقد كان عملاء “وحدة قيصرية” مدربين على مهمات طويلة الامد تحت غطاء عميق، وكانوا مدربين على ان يكونوا الاقل جذبا للانتباه في محيطهم والاقل اختلاطا بالمحيطين بهم، كما كانوا مدربين على جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات لتوضع بتصرف القيادة من أجل تقدير إحتمالات اية حرب مقبلة.
يضيف هراري “لم يكن رجالي ونسائي مجموعات كوماندوس، فقد كنت مثلا ابحث عن شخص في القاهرة يستطيع التنكر كعالم اثار ويصل الى دعوة الرئيس جمال عبد الناصر الى جولة في اماكن الحفر التي يعمل فيها، او عن امرأة تستطيع التنكر كممرضة في مستشفى عسكري في دمشق. هذا النوع من الاشخاص لم يكونوا مدربين على اعمال قتالية ولا على سحب مسدس او رمي سكين. لقد كنت بحاجة الى نوع مختلف من الاشخاص والى سلاح مختلف”.
يضيف بيرغمان، لقد خلق تحول منظمة التحرير الى العالمية في نشاطاتها تحديا سياسيا للقيادة “الاسرائيلية”، فمن جهة، لم تكن محاربة الارهاب في حسابات الدول الاوروبية في تلك المرحلة، ومن جهة اخرى، لم يكونوا يسمحون لـ”اسرائيل” بفعل ذلك على اراضي أوروبا. وينقل بيرغمان عن جولدا مائير قولها في جلسة للجنة الدفاع في الكنيست “لقد جمع “الموساد” مئات المعلومات عن التخطيط لعمليات ارهابية ضد اهداف اسرائيلية او يهودية في اوروبا وتم تسليمها إلى اجهزة الاستخبارات في الدول المعنية، لكن شيئا لم يحصل”.
ويقول الكاتب بيرغمان: لقد اخذ الاحباط يتراكم في جهاز “الموساد” نفسه، فقد كان ضباط “وحدة قيصرية” يشتكون بالقول “لماذا نجلس بلا اي عمل في الوقت الذي نرى فيه الارهابيون يخططون يومياً لقتل اليهود، نعلم اين هم في المانيا وفرنسا وايطاليا وقبرص ومكاتبهم معروفة للعامة في تلك البلاد. هم لا يختبئون. لماذا لا نفجّر واحدا من هذه المكاتب مع كل عملية خطف طائرة يقومون بها”؟
امام هذا الواقع، انشأ هراري فريقاً خاصاً في “وحدة قيصرية” اسماه “الحربة” بقيادة ضابط إسمه داني. طلب هراري من الفريق إعتماد السرية وتنفيذ عمليات المراقبة وتحديد الاهداف البشرية وتصفيتها وتنفيذ عمليات تخريب على ان يكون مسرح عملياته بصورة رئيسية اوروبا الغربية “والدول الديمقراطية الاخرى”، على حد تعبير رونين بيرغمان.
اجتمع اعضاء المجموعة التي تم تدريبها مع “ابو داوود” في احد المطاعم حيث شرح لهم تفاصيل الخطة، وكتب هؤلاء وصية مشتركة، ورافقوا “ابو داوود” الى محطة القطارات حيث تمت تخبئة سلاحهم في خزانة الامانات بعد ان جرى تهريبه من كل من اسبانيا والسويد
ولكن لم يستطع مايك هراري تفعيل هذا الفريق ميدانيا لان جولدا مائير ارادت احترام سيادة الدول الغربية وكانت تخشى من ردود افعال الدول الصديقة اذا ما نفذت “اسرائيل” عمليات قتل متعمد فوق اراضيها من دون اذن سلطاتها. وينقل هراري عن مائير قولها “ان لاجهزة الاستخبارات الاوروبية القرار بما هو مسموح وبما هو ممنوع فوق اراضيها. نحن هنا اسياد الارض، وتلك البلاد ليست بلادنا”. لكن هراري كان مقتنعا ان مائير ستغيّر رأيها يوما ما، لذلك واصل تدريب عناصر فريقه لانه كان يعتبر ان لا بديل عن قتل هؤلاء في اوروبا.
يضيف بيرغمان لم تتأخر الفرصة لاقناع مائير، ففي اوائل تموز/ يوليو عام 1972 وصل ثمانية عناصر من “منظمة ايلول الاسود” الى معسكر تدريب في الصحراء الليبية بأمرة محمد يوسف النجار (أبو يوسف) رئيس جهاز الامن والاستطلاع في حركة فتح. الثمانية هم اعضاء في حركة فتح وتم اختيارهم لاسباب عدة. بعضهم من أصحاب الخبرات القتالية وبعضهم الاخر كان يعرف اوروبا جيدا وبالاخص المانيا ومن ضمن هؤلاء كان محمد مصالحة المولود عام 1945 وكان ابوه اول رئيس لمجلس بلدة دبورية في الجليل الاعلى، وكان محمد يتقن الالمانية والانكليزية بطلاقة واكبر المجموعة سناً، ولم يكن مقاتلا بل كان منظًرا للمجموعة والناطق باسمها، وقد اصبح شكله وصوته بعد فترة وجيزة معروفا في كل انحاء العالم باسم “عيسى”.
في هذا المعسكر على أرض الصحراء الليبية، التقت المجموعة مع مؤسس “منظمة ايلول الاسود” صلاح خلف (“ابو اياد”) بحضور مساعده وهو ناشط قديم في حركة فتح اسمه محمد عودة (ابو داود)، وقد ابلغهم الاخير انهم بصدد القيام بعملية على جانب كبير جدا من الاهمية. لذلك، واصلوا التدريب على مدى خمسة اسابيع على كل انواع الاسلحة الفردية من مسدسات ورشاشات وقنابل يدوية وعلى القتال اليدوي بالاضافة الى التدريب على اللياقة البدنية والتنكر بصورة جيدة. وقد اعطيوا اسماء حركية وجوازات سفر ليبية مزورة واعطيوا تعليمات بتغطية وجوههم وتغيير ملابسهم طوال فترة تنفيذ العملية وذلك لاعطاء انطباع ان هناك اكثر من ثمانية اشخاص أثناء تنفيذ العملية.
لم يعرف جهاز “الموساد” بالتحضيرات الجارية في الصحراء الليبية واقصى ما عرف به كان في السابع من تموز/ يوليو من خلال عميل يحمل اسما حركيا هو “لوسيفير” ان “منظمة ايلول الاسود” تخطط لعمل ما في اوروبا في الخامس من آب/ اغسطس، وقال في تقريره ان المنظمة “تحضّر لعملية ذات طابع دولي”، من دون ان يكون لديه اية تفاصيل. ولان قسم الابحاث في “الموساد”، كان يتلقى طوفاناً من المعلومات، فقد ذهبت معلومة “لوسيفير” مع المعلومات التي يتم إهمالها.
في الثالث والرابع من أيلول/ سبتمبر 1972، استقل اعضاء المجموعة الفلسطينية بشكل متفرق طائرات عدة متجهة الى المانيا الغربية وكان موعد لقاؤهم معا في مدينة ميونيخ حيث كانت تجري الالعاب الاولمبية التي يشاهدها ملايين الناس في كل انحاء العالم. وقد طلبت منظمة التحرير الفلسطينية من اللجنة الدولية للالعاب الاولمبية المنظمة لهذه الالعاب ان يشارك رياضيون فلسطينيون فيها ولكن طلبها رفض لان هؤلاء لا دولة لهم.
وعشية تنفيذ عمليتهم التي لم يكن لديهم اية معلومات عنها، اجتمع اعضاء المجموعة التي تم تدريبها مع “ابو داوود” في احد المطاعم حيث شرح لهم تفاصيل الخطة، وكتب هؤلاء وصية مشتركة، ورافقوا “ابو داوود” الى محطة القطارات حيث تمت تخبئة سلاحهم في خزانة الامانات بعد ان جرى تهريبه من كل من اسبانيا والسويد.
جمع “ابو داوود” جوازات سفر أعضاء المجموعة، ووّدعهم الى الباب رقم “ايه 25″، في محطة القطارات، وإستقلوا القطار المتجه الى القرية الاولمبية. هناك تسلقوا بسهولة الحائط ومشوا الى شارع كونولي ستراس 31 حيث كان يقيم الوفد “الاسرائيلي” المشارك في الالعاب. في ذلك الوقت، كان يوجد 32 شرطيا في القرية، بينهم فقط شرطيان يحملان سلاحاً، فلم يلحظ هؤلاء ما يحصل من حولهم.
يضيف بيرغمان عند الساعة الرابعة من فجر الخامس من أيلول/ سبتمبر، هاجمت مجموعة “ايلول الاسود” مهاجع الفريق “الاسرائيلي”، فتمكن احدهم من الهرب، فيما قتل مدرب إسرائيلي على المصارعة يدعى موشيه واينبرغ ورافع الاثقال يوسف رومانو عندما حاولا مقاومة المهاجمين وبقيت جثتا الإثنين على الارض حتى نهاية العملية بعد حوالي تسع ساعات.
تولى محمد مصالحة (عيسى) التفاوض نيابة عن المجموعة، وقالت جولدا مائير للكنيست انهم يطالبون باطلاق سراح 200 اسير فلسطيني من السجون الاسرائيلية مقابل الرهائن لديهم. في المقابل، رفضت السلطات الالمانية وقف الالعاب الاولمبية بذريعة ان التلفزيون الالماني لم يكن لديه برامج بديلة للالعاب الاولمبية. ولدهشة “اسرائيل” اكثر، فقد رفضت المانيا السماح لاية وحدات امنية “اسرائيلية” بالدخول الى اراضيها باستثناء رئيس “الموساد” زفي زامير ورئيس “الشين بيت” فيكتور كوهين والاخير كان من اصل سوري ويجيد اللغة العربية بطلاقة..
اقتاد الخاطفون الرهائن الى طائرات هليكوبتر لنقلهم الى احد المطارات العسكرية القريبة حيث قيل لهم انه سيتم نقلهم من هناك مع الاسرى المخلى سبيلهم ما ان تتم الصفقة. ولحقت بهم مروحية كانت تقل المسؤولين الأمنيين “الاسرائيليين” زفي زامير وفيكتور كوهين.
اتصل زامير بجولدا مائير التي سارعت لتهنئته على نجاح العملية بعدما جرى ابلاغها من قبل احد المسؤولين الالمان ان كل الرياضيين الإسرائيليين “كانوا سالمين”، فرد عليها قائلا “يؤسفني ان ابلغك يا جولدا انه لم يتم انقاذ الرياضيين، لقد رأيت جثثهم جميعاً
يقول بيرغمان إنه ما أن وصلت طائرات الهليكوبترات الى ارض المطار العسكري، حتى فتحت قوات المانية غير مدربة وغير منظمة النار، وتبين أن هذه القوات كانت تفتقر إلى المعلومات الاستخبارية عن الخاطفين، ولم يكن لديها قناصة لمواجهة هذا النوع من العمليات، وعندما فتحوا النار لم يكونوا على تنسيق كامل مع بعضهم البعض، ففشلوا في شل قدرات الخاطفين، وعندما سأل زفي زامير الالمان لماذا لا تهاجم القوات الالمانية الخاطفين قالوا له انهم بانتظار عربات دعم مدرعة عالقة في زحمة السير على طريق المطار!
يضيف الكاتب: هكذا، شاهد زامير كيف ان الخاطفين اطلقوا القنابل اليدوية على طائرات الهليكوبتر التي تحولت مع الرهائن بداخلها الى كتلة نار وعندما وصل اليهم وجد جثثاً متفحمة لتسعة “اسرائيليين”.
وينقل بيرغمان عن كوهين قوله “علمنا لاحقا ان بعض رجال الشرطة الالمان الذين كان يفترض بهم المشاركة في عملية انقاذ الرهائن كانوا قد اتخذوا قرارهم مسبقا بانهم لن يخاطروا بحياتهم من اجل الاسرائيليين”.
عند الساعة الثالثة فجراً، اي بعد قرابة 23 ساعة من بدء العملية، اتصل زامير بجولدا مائير التي سارعت لتهنئته على نجاح العملية بعدما جرى ابلاغها من قبل احد المسؤولين الالمان ان كل الرياضيين الإسرائيليين “كانوا سالمين”، فرد عليها قائلا “يؤسفني ان ابلغك يا جولدا انه لم يتم انقاذ الرياضيين، لقد رأيت جثثهم جميعاً. لم ينج اي منهم”. في المقابل، كتب احد عناصر منظمة التحرير الفلسطينية قائلا “قنبلة في البيت الابيض او انفجار لغم في الفاتيكان او موت ماو تسي تونغ او زلزال في باريس لم يكن كل ذلك ليترك الانطباع الذي تركته عملية ايلول الاسود في ميونيخ.. لقد كانت اشبه بطبع اسم فلسطين على جبل عال يمكن مشاهدته من كل زوايا الكوكب”.
بعد العملية مباشرة، تعرضت جولدا مائير لانتقادات حادة على خلفية فشل كل اجهزة الاستخبارات تحت قيادتها في منع حدوث عملية ميونيخ وردع منفذيها.
وبسبب خشيتها من تضاؤل فرص عدم اعادة انتخابها إلى عضوية الكنيست، قالت مائير انه إذا لم يوقف الاوروبيون الارهاب على ارضهم، “سأعطي الضوء الاخضر لـ”الموساد” ليفعل ذلك”. وبالفعل، أعطى الكنيست في 11 أيلول/ سبتمبر الضوء الأخضر لجولدا مائير بالحق في إستهداف “الأعداء” حتى في اراضي دول صديقة من دون اعلام السلطات في هذه الدول.
كان رئيس “وحدة قيصرية” مايك هراري مُحقاً، عندما راهن على الوقت. فقد غيّرت جولدا مائير رأيها، وتقرر إعادة تفعيل وحدة “الحربة” المُدربة على تنفيذ إغتيالات في أوروبا الغربية، يقول رونين بيرغمان.