في حربها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، للشهر السادس على التوالي، اتبعت إسرائيل، وعلى جاري عادتها، سياسة قتل الصحافيين الفلسطينيين لإخفاء جرائمها، كجزء من الإبادة الجماعية بحق هذا الشعب. وتميّزت جرائمها المستمرة منذ خمسة أشهر على المدنيين في غزة، بأنها موجهة أيضاً لتطال الأطباء والكوادر الطبية والمشافي عن عمد، فتستحق بذلك أن يجري إدراجها ضمن الجرائم التي صنّفتها محكمة العدل الدولية باعتبارها عمليات إبادة وليست جرائم حرب فحسب. هذا العدد الكبير من الجرائم الإسرائيلية وضحاياها الذين تجاوزوا المائة ألف بين شهيد وجريح، مقرونة بدلائل وقرائن عديدة، إنما تؤكد أنها كانت منظمة وتم التخطيط لها مُسبقاً، وبالتالي، يجب أن يدفع ذلك إلى الاعتراف بها وتصنيفها انتهاكاً للقانون الدولي، واشتقاق تسميات جديدة لها من قبيل “الإبادة الصحافية” و”الإبادة الطبية” إلخ.. ومحاسبة الإسرائيليين على اقتراف هذه وغيرها من الجرائم التي لا تُحصى ولا تُعد.
وفي هذا الإطار، لا يمكن النظر إلى استشهاد عدد كبير من الصحافيين على أنهم جزء مما يصنف عادة في خانة “الأضرار الجانبية”، التي تحدث كنتيجة طبيعية للحرب، أو أنهم قُتلوا بفعل الصدفة التي جعلتهم يتواجدون في أمكنة القصف. فقد تبيَّن أن القوات الإسرائيلية لم تتعمد استهداف الصحافيين وحدهم، بل مكاتبهم ومنازلهم والأماكن التي تتواجد فيها عائلاتهم لقتلها، انتقاماً منهم بسبب تغطيتهم الواسعة وعلى مدار الساعة لجرائم الاحتلال وبصفتهم شهوداً عليها. وهنا تحضُر العبارة المؤلمة التي قالها مراسل قناة “الجزيرة” في غزة، وائل الدحدوح: “بتنتقموا منا في الأولاد.. معليش”، وذلك حين استهدفت الطائرات الإسرائيلية عائلته، فقتلت زوجته وابنته وابنه.
وقد يقول قائل: “دائماً ما يدفع صحافيون حياتهم خلال الحروب”، إلا أن العدد الكبير من الصحافيين والمصورين التلفزيونيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية في غزة خلال خمسة أشهر، يتعدى ما يُقتل من صحافيين في جميع أنحاء العالم في كل سنة. وإضافة إلى انتقامها منهم، تهدف أيضاً قوات الاحتلال الإسرائيلي من قتلهم إلى منع نقل الحقيقة التي تحاول إخفاءها بغية جعل روايتها للحرب هي الرواية السائدة فقط. كذلك لكون الصحافيين هم من يقع على عاتقهم تدوين الحوادث وأرشفتها وتوثيقها باعتبارها ركيزة السردية الفلسطينية في مواجهة السردية الإسرائيلية. فمن خلال التعمية على ما تقترفه تريد إسرائيل التأكيد أنها تدافع عن نفسها عبر محاربة حركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية.
بعد خمسة أشهر من حربها بدا أن 75% من المباني والمساكن باتت مدمرة وغير صالحة للسكن بفعل إلقاء الإسرائيليين من المتفجرات عليها ما يعادل قنبلتين من عيار القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية
وأفادت إحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي الفلسطيني أنه ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى أواسط فبراير/شباط الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 130 صحافياً في قطاع غزة. وبحسب نقيب الصحافيين في غزة، يُشكل هذا العدد نسبة 10 في المئة من عدد الصحافيين العاملين هناك. وقالت منظمة “هيومان رايتس ووتش” إن الضربتين الإسرائيليتين في جنوب لبنان، في 13 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، واللتين أسفرتا عن إستشهاد الصحافي اللبناني عصام عبدالله وجرح ستة صحافيين آخرين “كانتا متعمَّدتين”. ولم تكتفِ قوات الإحتلال بذلك، بل تعمَّدت تدمير أكثر من سبعين مقراً من مقرات المؤسسات الإعلامية العاملة في قطاع غزة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الحروب، ما يجعل دولة الاحتلال متورطة بنوعٍ جديد من الإبادة، وهي “الإبادة الصحافية”.
وعلى الشاكلة نفسها، يُمكن القول إن استهداف القطاع الصحي كان مقصوداً وممنهجاً أيضاً، وحيث تبيَّن أن حياد القطاع الصحي لا يعني شيئاً للإسرائيليين ولا يمنعهم من قصفه وتدميره. لذلك ظهر التوحش واضحاً في محاصرة المشافي واقتحامها وقصفها وتدميرها على رؤوس من فيها، وقتل الأطباء والممرضين والممرضات واعتقالهم وتعذيبهم بهدف تدمير القطاع الصحي والإستشفائي بالكامل، ما يجعل الأمر يبدو وكأنه “إبادة طبية”. وقد كانت جريمة تدمير مشفى المعمداني، في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بمثابة المجزرة التي تسبب بها قصف طائرات الجيش الإسرائيلي الحربية، وراح ضحيتها أكثر من 470 شهيد فلسطيني بين مريض وطبيب وموظف، علاوة على النازحين الذين اتخذوا ساحاته ملجأً، بعدما أجبرتهم الهجمات الإسرائيلية على الهروب من مناطق شمال غزة.
وتريد إسرائيل أساساً من خلال استهداف القطاع الصحي ضرب قدرة الصمود لدى الفلسطينيين، في إطار تدمير كل مقومات استمرار الحياة في غزة. وقد رصدت وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع مليون إصابة بأمراض معدية بين النازحين، ما يفاقم الوضع الصحي أكثر نتيجة انعدام الأدوية واللقاحات وغياب أي شكل من أشكال الرعاية الصحية. ولأن القوات الإسرائيلية تدرك أن ضرب هذا القطاع يسهل مهمتها في الإبادة الجماعية، دمّرت بصواريخها حوالي 30 مشفى تدميراً كلياً أو شبه كلي، كما دمّرت عشرات المراكز الصحية وأكثر من 100 سيارة إسعاف، إضافة إلى قتل أكثر من 350 طبيب وفني عامل في هذه المراكز، علاوة على اعتقال ما يقارب من 100 طبيب وعامل في المجال الصحي.
هنالك حاجة ملحة لمعاقبة إسرائيل على التدمير الممنهج للمدن والقرى والمخيمات في قطاع غزة بهدف تهجير سكانها ومنع عودتهم إليها مستقبلاً. وفي حين اتضح أن تدمير المجتمع الفلسطيني في غزة لا يتم سوى بتغيير معالم القطاع برمته، تعمدت القوات الإسرائيلية تدمير المساكن والمشافي والمدارس والجامعات والمؤسسات ومصادر المياه والأماكن الأثرية وتجريف الطرق والساحات وحتى المقابر تنفيذاً لهذه السياسة. وبعد خمسة أشهر من حربها بدا أن 75% من المباني والمساكن باتت مدمرة وغير صالحة للسكن بفعل إلقاء الإسرائيليين من المتفجرات عليها ما يعادل قنبلتين من عيار القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وهنا تحضر جريمة “إبادة المنازل”، أو “قتل المنازل” (Domicide)، هذا المصطلح الذي ظهر في كتاب للكاتبين دوغلاس بورتيوس وساندرا سميث بعنوان “دوميسايد: التدمير العالمي للمنازل” سنة 2021. وظهرت دعوات لاعتماده من أجل معاقبة مقترفي هذه الجريمة أسوة بجريمة الإبادة الجماعية (Genocide)؛ إذ برزت في هذا المجال دعوة المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، بالاكريشان راجاغوبال، الذي قال في العام 2022: “يجب علينا أن نتوقف عن إغماض عيوننا عن التدمير واسع النطاق والممنهج لمساكن المدنيين خلال النزاعات”. وأضاف “يجب أن نوقف الإعفاء من العقاب على الانتهاك الصارخ لحق من حقوق الإنسان كهذا الحق”.
بسبب الجرائم الكثيرة التي باتت عصية على الإحصاء، والتي اقترفتها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأتها حتى اليوم، ثمة ضرورة لإنشاء محكمة خاصة للنظر في تلك الجرائم وتحديد العقوبات المناسبة لها ووضع آلية لتنفيذها. ومن دون هذا الأمر، لا يبدو أن ثمة شيء يمكنه أن يردعها، أو حتى يجعل داعميها يفكرون في تقييد دعمهم لها، فما بالك في وقف عدوانها؟