ولكن هناك من يرى فعلا أن ما رأيناه على الشاشات من اقتحام الغوغاء لمعقل الديمقراطية الأمريكية فى الوقت الذى كان الكونجرس ينظر فى إقرار نتيجة الانتخابات الرئاسية.. ليس هو وجه أمريكا الحقيقى. وفى الواقع فإن أمريكا تتجه الآن بقوة نحو ما يشبه الانقسام القبلى فى الدول المتخلفة.. فهناك أمريكا التى تتيح الفرص المتساوية لكل مواطنيها والتى مكنت رجلا أسود اللون «مخلط» ابن مهاجر من كينيا إلى تولى رئاسة الجمهورية مرتين متتاليتين.. أمريكا التى يشغل منصب وزير الدفاع فيها حاليا أسود من أحفاد العبيد وتتولى منصب نائب الرئيس امرأة من أب جامايكى أسود وأم هندية.. أمريكا التى يمكن أن يصعد فيها ماسح أحذية إلى أعلى مكان ومكانة، وهناك الوجه الآخر لأمريكا الذى يجمع تكتل البيض المذعورين من تزايد أعداد الملونين ونفوذهم الذى انضم إليهم اليمين المتطرف وأصحاب الأعمال، وقد ازدادت مشاعر الخوف لديهم بعد انتخاب أوباما للرئاسة، كما ساهم الرئيس السابق ترامب فى إشعال نيرانها بهجومه على المهاجرين ووصفهم بأنهم مغتصبون للنساء ومهربون للمخدرات، ومشروعه فى بناء الجدار العازل وانتقاداته المتكررة للمسلمين وعقيدتهم وثقافتهم.
الترامبية مستمرة إلى حين فى الساحة الأمريكية.. وسوف يواجه بايدن مهمة صعبة للغاية فى جهوده لترميم «الولايات المتحدة المنقسمة الأمريكية» كما سماها المعلق الشهير فريد زكريا
ولقد أكدت الاستطلاعات أن العنصرية ما زالت متجذرة فى المجتمع الأمريكى، بل طرأ عليها عنصر جديد يضاف إلى عنصر الاستعلاء والاقتناع بسيادة الجنس الأبيض وتفوقه وهو الخوف الحقيقى لدى البيض من الكثرة العددية المتزايدة للأجناس غير البيضاء. والاقتناع بنظريات المؤامرات الدولية «لسرقة» أو «استعادة» الولايات المتحدة. فالمكسيكيون يقولون فيما بينهم «سنستعيد تكساس ونيومكسيكو وكاليفورنيا بالهجرة بعد أن انتزعت منا بالغزو»، والمسلمون يزرعون خلايا نائمة سعيا لنشر الإسلام، وهناك اعتقاد سائد لدى الأمريكيين البيض بأنهم هم الذين يتعرضون للتفرقة العنصرية من خلال المزايا التفضيلية التى يحصل عليها السود واللاتينيون.
***
إن كل ما فعله ترامب أنه أيقظ الفتنة النائمة وأجج لهيبها وسحر المتابعين واسترهبهم، فسار وراءه الملايين مبهورين بسحره ومصدقين لأكاذيبه، وأصبح بالنسبة للكثيرين المنقذ والمخلص.. وكثير منهم يقولون الآن سنتبعه أينما كان.. فى الحكم أو خارج الحكم، فى الحزب الجمهورى أو خارج الحزب.. إذن الترامبية مستمرة إلى حين فى الساحة الأمريكية.. وسوف يواجه بايدن مهمة صعبة للغاية فى جهوده لترميم «الولايات المتحدة المنقسمة الأمريكية» كما سماها المعلق الشهير فريد زكريا.
***
فى حياة الشعوب لحظات تجعل العالم ــ بما فيه أبناء هذه الشعوب ــ يدهش لما يراه ويعيد النظر فى الصورة النمطية التى ترسخت فى الأذهان عندنا. ولقد مرت مصر بمثل هذه الفترة عندما اندلعت ثورة الشباب المطالبة بالحرية والخبز والكرامة منذ عقد من الأزمان.. لقد أبهر هذا الشباب العالم بأسلوبه الحضارى.. وكان هذا قسما فقط مما تخبئه مصر، فبجانب الشباب وأساليبه الحضارية ظهرت القوى الرجعية والقوى السلفية والغلو الدينى بأعداد فاقت كل التوقعات وتقدمت لتسيطر على المشهد وتنحى ما عداها.
***
الاختلاف فى حد ذاته ليس أمرا سيئا بل هو مطلوب وحتمى، ولكن بشرط ألا يتحول إلى عداء.. الدول التى تستطيع أن تدير خلافات فى إطار مؤسسى هى التى سيكتب لها البقاء والتقدم وحتى الآن أثبتت الولايات المتحدة أن لديها مؤسسات راسخة صمدت للعاصفة ولكن هل انتهت القصة أم لا تزال لها بقية؟
***
بالرغم من أن قيادات الحزب الجمهورى ينتمون إلى النخبة المثقفة المحترفة، إلا أن قواعدهم تتركز فى الريف المحافظ المتدين البروتستانتى الأبيض فى الغالب ذوى التعليم المتوسط أو أدنى من المتوسط والثقافة المحدودة، على عكس الحزب الديمقراطى.. لذلك كان من السهل على ترامب مخاطبتهم وتوصيل رسالته إليهم التى هى فى الواقع رسالتهم أيضا.. كما لجأ ترامب إلى تبسيط الأمور جدا.. الأمور لا تحتاج إلى لجان ودراسات طويلة، بل تحتاج إلى عزيمة وشجاعة فى اتخاذ القرار.. لذلك ابتدع ترامب عبارة «من اليوم رقم واحد ــ From day one» سأفعل كذا وسأوقع كذا.. ولم يكن ذلك من أساليب الخطابة الانتخابية كما توقع الكثيرون وكما جرت عليه العادة.. لقد فعل بالفعل وشرع فى الخروج من اتفاقية المناخ ومن اتفاقية النافتا التجارية ومن الاتفاق النووى مع إيران وأعلن حربا تجارية مع الصين.. إلخ.
ويبدو أنه وضع سابقة وتقليدا حديثا، فقد أعلن بايدن أنه سيقوم فى «اليوم رقم واحد» لتوليه الرئاسة بإصدار قرارات تنفيذية لإلغاء قرارات ترامب المتعلقة باتفاقية المناخ وسيعيد أمريكا إلى عضوية منظمة الصحة العالمية وإلى التعاون مع حلفائها خاصة الأوربيين وإلى الدبلوماسية متعددة الأطراف بوجه عام وإلى الاتفاق النووى مع إيران.
***
وقد اختار بايدن أن يوضح للعالم عودة أمريكا إلى الدبلوماسية كأداة رئيسية، فاختار وزارة الخارجية لتكون مكانا لإلقاء بيانه الشامل فى الشئون الخارجية يوم 4 شباط/ فبراير الحالى والذى تحدث فيه بقوة عن عودة أمريكا إلى الساحة الدولية وإلى العلاقات متعددة الأطراف وإلى العمل مع الحلفاء. وكرر مرارا عبارة «لقد عدنا» و«لقد عادت أمريكا»، وتحدث عن اعتزامه التصدى لتفشى ظاهرة «السلطوية» فى العالم، والتصدى لروسيا فى الساحة العالمية والداخلية الأمريكية، والتصدى لسياسات الصين التجارية المجحفة. وفى إطار الضغط على الأنظمة السلطوية وتشجيع آمال الشعوب فى الديمقراطية، أعلن أنه سيدعو قريبا إلى عقد قمة للديمقراطيات فى العالم.
***
وبالنسبة للشرق الأوسط، فيبدو أن بايدن آثر أن يترك لوزير خارجيته ومساعديه توضيح سياسات الإدارة الجديدة وذلك باستثناء حرب اليمن التى خصها بايدن بالحديث فى بيانه الشامل، حيث اتضح أنها ستأخذ مكان الصدارة فى اهتماماته. فقد أكد أنه سيعمل على وقف الحرب فى اليمن بدءا بوقف فورى لإطلاق النار لفتح المعابر لوصول الإمدادات الإنسانية للشعب اليمنى الذى ألحقت به الحرب كوارث إنسانية تفوق الوصف، كما سيوقف مشاركة أمريكا فى هذه الحرب وسيوقف كل أنواع الدعم العسكرى الذى تقدمه أمريكا للعمليات العدوانية فى اليمن بما فى ذلك وقف الإمداد بالسلاح مع استمرار دعم الإمكانيات الدفاعية السعودية.
الشواهد تدل على أن القدس التى تحدث عنها بلينكن هى القدس الغربية وليست القدس الموحدة لأن الإدارة أعلنت أنها تدرس إعادة افتتاح القنصلية الأمريكية فى القدس الشرقية ومن المفهوم أنها ستكون بمثابة تمثيل أمريكى لدى الفلسطينيين
وقد اختار بايدن دبلوماسيا محترفا لتولى وزارة الخارجية وهو أنتونى بلينكن الذى تربطه به علاقات صداقة وعمل منذ عشرين عاما. فقد كان مستشاره للشئون الخارجية عندما كان بايدن رئيسا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، ثم عندما أصبح نائبا للرئيس. كما نشأت بين الأسرتين علاقات صداقة قوية، وقد عين بايدن زوجة بلينكن كسكرتيرة تنفيذية له. ويتوقع المحللون أن يصبح بلينكن أهم شخصية فى إدارة بايدن حيث لن يقتصر دوره على الشئون الخارجية بل سيصبح مستشاره فى كل الشئون، لذلك فمن المهم دراسة مواقف بلينكن من مختلف القضايا العالمية.. وقد تابعت عن كثب جلسات اعتماده فى الكونجرس واستجوابه من جانب الجمهوريين وقد حاز على ثقة كبيرة من الجمهوريين وتم اعتماده بأغلبية كبيرة من أصوات الديمقراطيين والجمهوريين.. كما تابعت بعد ذلك مؤتمره الصحفى الأول.. لم أجد مفاجآت عما كان متوقعا ولكن بعض المواقف أصبحت أكثر وضوحا وتحديدا.. فبالنسبة للقضية الفلسطينية أعلن ممثل الولايات المتحدة فى مجلس الأمن أن الرئيس بايدن يدعم حل الدولتين ومن أجل المساعدة فى هذا الشأن فإن الولايات المتحدة تدعو إلى عدم اتخاذ إجراءات أحادية من شأنها إعاقة حل الدولتين مثل ضم الأراضى وإنشاء المستوطنات وهدم المنازل، وستعمل الإدارة على إعادة العلاقات مع الشعب الفلسطينى والقيادة الفلسطينية وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن وإعادة الدعم المالى.
كما استوقفتنى عبارة هامة فى البيان الأمريكى بمجلس الأمن حول التطبيع مع إسرائيل إذ قال المندوب الأمريكى: «إن التطبيع العربي ــ الإسرائيلى ليس بديلا عن السلام الفلسطينى الإسرائيلى»، كما أعلنت الإدارة الجديدة أنها تدرس العودة إلى الاتفاق النووى مع إيران وتعيد دراسة الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
***
ولا يجب أن نتوقع بزوغ فجر جديد لسياسة أمريكية أكثر إنصافا للشعب الفلسطينى.. فكل ما حدث وسيحدث هو عودة للمواقف الأمريكية التقليدية السابقة وهى على أى حال أفضل كثيرا من السياسة الترامبية التى ألقت بالعرب فى سلة المهملات وأيدت جميع المطامع الصهيونية وأكثرها غلوا.. ولكن بايدن المخضرم وجماعته يعرفون تماما أن هناك حدودا لا يجوز تجاوزها وأن عليه أن يلتزم المساحة المحدودة للتحرك دون الاصطدام بنفوذ إسرائيل أو إثارة غضب أو قلق أنصارها.. لذلك فإن الكونجرس لم يمنح السيد بلينكن اعتماده ليكون وزيرا للخارجية إلا بعد اجتياز اختبار فى نواياه تجاه إسرائيل، فقد سأله السناتور ماركو روبيو: هل تعتبر إسرائيل دولة عنصرية؟ قال لا.. وهل تعتبر القدس عاصمة إسرائيل.. قال نعم.. وهل توافق على استمرار وجود السفارة الأمريكية فى القدس.. قال نعم.. وبعدها تم اعتماده بأغلبية كبيرة.. وإن كانت هناك ملاحظة أخيرة وهى أن الشواهد تدل على أن القدس التى تحدث عنها بلينكن هى القدس الغربية وليست القدس الموحدة لأن الإدارة أعلنت أنها تدرس إعادة افتتاح القنصلية الأمريكية فى القدس الشرقية ومن المفهوم أنها ستكون بمثابة تمثيل أمريكى لدى الفلسطينيين.
(*) بالتزامن مع “الشروق”