جان عبيد.. رحيل آخر “المتهمين”

برحيل جان عبيد تنطوي صفحة من الزمن اللبناني الجميل.

الدخول إلى عالم جان عبيد سهلٌ هين، والخروج منه صعب مستصعب.. سريعاً ما تكتشف أنك أمام قامة تربو بفكرها وثقافتها وأدبها على موقعها السياسي، وسرعان ما تدرك أنك لن تستطيع المفارقة حتى وأنت تعيش معه في مغايرة.. أقصد المغايرة في الرأي.. لأن ثمة من تغتني منهم كلما اختلفت معهم أكثر، وثمة من يدانيك جسداً أو نسباً وترى أنك “بفراق مثله قَمِنُ”.

ولعل الأجمل في مقاربة الصداقة مع جان عبيد يتمثّل في هذا الدثار من التواضع وكرم الأخلاق وسرعة “بسط” الروح أمامك، ليجتذبك هذا الممتلئ ثقافة صوب عالم جديد تشعر أنك تدخل فيه إلى مدلهمات السياسة من أبواب أخرى.. قل إنها صوفية.. معرفية.. أخلاقية.. قل ما شئت فهي غير عنفيّة في نهاية المطاف.

كانت لقاءات ــ معالي الثقافة والأدب ــ مع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، لقاءات مفتوحة.. تتجاوز كل البروتوكول السياسي المعتاد في لبنان، فقد كان السيد (رض) يحرص على أن يكون الوقت مفتوحاً لجان عبيد.. مسامرات في الأدب.. “مغامرات” في الثقافة.. مراجعات في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مقاربات في نهج البلاغة وتطواف الإمام علي بن أبي طالب في مساحات النفس الإنسانية كلها.

تكررت زيارات عبيد للسيد فضل الله منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وخصوصاً بعدما كان قد تعرّض للاختطاف وكان للسيد موقفه ودوره حيال هذا الاختطاف الذي يبدو أنه كان محل تجربة من الطرفين وقد تعرّض السيد فضل الله للاختطاف عام 1982 وهو في الطريق من البقاع إلى بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان.. وكنت شاهداً ومشاركاً في بعض أطراف الأحاديث والتي كانت تكثر فيها استشهادات الطرفين بأبي الطيب المتنبي على وجه الخصوص.. وأذكر في إحداها أن السيد ردد هذا البيت من الشعر:

أتَى الزّمَانَ بَنُوهُ في شَبيبَتِهِ
فَسَرّهُمْ وَأتَينَاهُ عَلى الهَرَمِ

فسأل الأستاذ جان عبيد عن صاحب البيت.. فنظرت إليه مستغرباً ــ بعدما شعرت بأنه يستدرجني ويختبرني ــ وقلت: يقول المتنبي في البيت الذي يسبقه من القصيدة نفسها:

وَقتٌ يَضيعُ وَعُمرٌ لَيتَ مُدَّتَه

في غَيرِ أُمَّتِهِ مِن سالِفِ الأُمَمِ

وأذكر أنه في الزيارة الثانية لمنزل سماحة السيد فضل الله في حارة حريك، كنت في استقباله، وبمجرد نزوله من السيارة لمحت في يده مظروفاً.. تقدم مني وأعطاني إياه وأحبّ أن يستمع لرأيي بما احتواه وقد كان في المظروف كلمة له في ذكرى رحيل الرئيس إلياس سركيس، وبداية الكلمة استشهاد بقول المتنبي:

أَفاضِلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَمَنِ
يَخلو مِنَ الهَمِّ أَخلاهُم مِنَ الفِطَنِ

في جلسته مع البطريرك (الراحل) مار نصرالله بطرس صفير والتي سبقت هذا اللقاء مع السيد، قال عبيد لصفير بأن السياسيين في لبنان يشبهون إلى حدٍ بعيد قول المتنبي في المرأة.. قال السيد: وماذا قال المتنبي في المرأة؟

ومع توالي الزيارات، كنت أستقبله بصدر بيت من أبيات المتنبي وسرعان ما كان يستحضر عجزه.. كما أذكر عند زيارته لسيدنا بعد حرب تموز/ يوليو 2006، حيث استقبلناه في المكاتب الملحقة بمسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك بعد أن كانت طائرات العدو قد سوّت منزل السيد في حارة حريك بالأرض في تلك الحرب.

فاجأته عند الوصول:

فَلَمّا رَأَوهُ وَحدَهُ قَبلَ جَيشِهِ

أجاب: دَرَوْا أنّ كلَّ العالَمِينَ فُضُولُ

في آخر اللقاءات، في العام الأخير قبل رحيل المرجع فضل الله، كان الأستاذ جان عبيد يتحدث للسيد عن الغصّة التي يعيشها حيال الطريقة التي يُدار بها البلد، وقال له بأن ما يُفاتحه به لا يستطيع أن يقوله في كل مكان، وأنه في جلسته مع البطريرك (الراحل) مار نصرالله بطرس صفير والتي سبقت هذا اللقاء مع السيد، قال عبيد لصفير بأن السياسيين في لبنان يشبهون إلى حدٍ بعيد قول المتنبي في المرأة.. قال السيد: وماذا قال المتنبي في المرأة؟

عندها كرّت سُبحة الأستاذ جان عبيد، وبدأ بترديد الأبيات الآتية:

إِذا غَدَرَت حَسناءُ وَفَّت بِعَهدِها
فَمِن عَهدِها أَن لا يَدومَ لَها عَهدُ
وَإِن عَشِقَت كانَت أَشَدَّ صَبابَةً
إِن فَرِكَت فَاِذهَب فَما فِركُها قَصدُ
وَإِن حَقَدَت لَم يَبقَ في قَلبِها رِضىً
وَإِن رَضِيَت لَم يَبقَ في قَلبِها حِقدُ
كَذَلِكَ أَخلاقُ النِساءِ وَرُبَّما
ضِلُّ بِها الهادي وَيَخفى بِها الرُشدُ

وأذكر أن السيد توقف ملياً عند هذه الأبيات طالباً من جان عبيد إعادتها ليبتسم، وليستمر الحديث بينهما حول مطابقتها لواقع البلد وساسته.

كان جان عبيد “رسالياً” في سياسته وربما رأى في السيد فضل الله ضالته في الدين والعقيدة المنفتحة على الناس جميعاً.. وسرعان ما امتدت صداقتهما امتداد ثقافتهما وانفتاحهما وحيويتهما في طريق المحبة.

إقرأ على موقع 180  "اليوم التالي" عربياً وفلسطينياً.. جيل جديد برؤى مختلفة

بعد رحيل السيد فضل الله تكلم جان عبيد: “قلت للسيد (فضل الله) إن النفوس والناس والأصدقاء مثل الخيل، لا تُعرف الخيول الأصيلة إلا بعد السبق، والأصدقاء كذلك لا تعرفهم إلا بعد التجربة، وهذا ما قاله المتنبي:

وَما الخَيلُ إِلّا كَالصَديقِ قَليلَةٌ
وَإِن كَثُرَت في عَينِ مَن لا يُجَرِّبُ

هكذا قرأ جان عبيد الآيات واحدة تلو الأخرى ثم قال للوزير السعودي:”كل هذه الآيات تخاطب الناس وأنا من هؤلاء الناس ولكن لا يمكنني دخول مكة… كيف يكون ذلك”؟

ولقد كان سماحته صديقاً صدوقاً وصادقاً، وإذا قورن الأصدقاء بالخيل فالسيد من أفرس الخيل وأحصنها عقلاً وقوة وتجربة وقيمةً ونعمةً.. السيد فضل الله لا يغادر ذهني ووجداني، لأنَّ إيمانه فوق دينه وأوسع من دينه، ودينه فوق مذهبه وأوسع من مذهبه، وأكاد أقول إنه من الناس الذين تتسع عقيدتهم لتكون شبه كونية”.

وفي واحدة من لقاءاتي الغنية معه في مكتبه بسن الفيل حدّثني عن حوار جرى بينه وبين وزير الأوقاف السعودي بحضور وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل، الذي بادر الى تحذير وزير الأوقاف قائلا:”كن على حذر فأنت تحاور من يُصحح للأئمة..”
وفي طيّات الحوار، توّجه عبيد لوزير الأوقاف بالسؤال حول آيات الحج، ولمن وجهها القرآن الكريم وهل كان التوجيه للمسلمين مثلاً؟
واسترسل جان عبيد بالحوار مجيباً نفسه، نافيا أن يكون التوجيه فيها للمسلمين فحسب بل للناس جميعاً… وبدأ (عبيد) بتلاوة الآيات واحدة بعد أخرى – كما تلاها على مسمعي- ومنها:(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا)
والآية الأخرى:(وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر).

وهكذا قرأ جان عبيد الآيات واحدة تلو الأخرى ثم قال للوزير السعودي:”كل هذه الآيات تخاطب الناس وأنا من هؤلاء الناس ولكن لا يمكنني دخول مكة… كيف يكون ذلك”؟
أحسست وهو يعد الآيات ويستشهد بالقرآن لأجل بيان سعة الدين ورحمته، أنني أمام مسلم يلتحف بإيمان رسالي يسمو فوق المسميات.. وهو في الوقت نفسه يضع علامات الاستفهام التي تطل بك على رحابة الدين الذي يصطدم دائماً بعقدة الواقع.

يرحل جان عبيد مدججاً بثقافة قل نظيرها.. يرحل دون أن يُكمل الشوط في بلد لا تتنفّس رئتاه هواءً صافياً ولا تحمل ساقاه الضعيفتان أثقال أهل الفكر الذين قاربوا السياسة من مسارات الفكر والأدب ورسالية الثقافة.

جان عبيد يرحل متهماً “… فثقافته الإسلامية ربما كانت أوسع من ثقافته المسيحية”.. هكذا قال له السيد فضل الله ذات حوار.

هذه “القماشة” من السياسيين.. من “العملة النادرة”.. تغادر مع الرجل الذي سيبقى مكتبه في سن الفيل يلّح عليك أن تدخله ليفرض مشهد الكتب المترامية في كل زواياه نفسه عليك.. وليعيدك إلى جماليات الذكرى فقد كنت تحمل في جعبتك من هناك حكمة لا تنفد وسور للقرآن والإنجيل تتراءى.. ومعالم أدبية، وتراثيات معرفية.. وسُبّحة من “العيار الثقيل” تذكرك دائماً بالتسابيح والابتهالات في بلد لم يعد له من سبيل للخلاص بعيداً من الصلوات والمناجاة.

(*) راجع مقالة الدكتور عبدالله بو حبيب عن جان عبيد الحكيم والحكم

Print Friendly, PDF & Email
هاني عبدالله

كاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إسرائيل في عقدها الثامن.. مصير الهنود الحمر!