اللقاء الأخير مع هيكل.. حان وقت الرحيل
عربيات هيكل في مكاتب السفير ( عباس سلمان )

بعد خمس سنوات من رحيله، تأكد حضوره برغم الغياب، فالأفكار تبقى بعد أصحابها والتجارب تلهم لأمادٍ طويلة بقدر ما تنطوي على معنى وقيمة.

وهو على سرير المرض الشديد حاول أن يستدعى أسلحته التقليدية فى مقاومته.
معنى الحياة عنده أن يتابع حركة الأحداث وما خلفها، ويقرأ المستقبل وما قد يحدث فيه.
بادرنى بسؤال واحد: «قل لى ما الذى يحدث؟».
جلست على مقعد بجوار سريره أروى وأتحدث، وهو نصف ممدد منتبه للمعانى من وراء الأخبار ولا يخفى قلقه على مستقبل البلد ومصيره.
على مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثا كان قد بدأ فى قراءتها، وبعض الجرائد اليومية المصرية، وشاشة التلفزيون مفتوحة على محطة الـ«C.N.N» الأمريكية الإخبارية.
فى غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شيء بسيط وذوقه خاص واللون الأبيض سيد المكان.
من حين لآخر تدخل السيدة قرينته «هدايت تيمور» تطمئن على تناوله الدواء وتسأل إذا ما كان هناك شيء يطلبه.
كانت تخشى من إنهاك الحديث، وهو يريد أن يدقق فى المعلومات، يسأل فى الخلفيات ويستقصى الأبعاد.
حتى لحظاته الأخيرة ظل مخلصا لمهنته، التى لم ير لنفسه مهنة سواها.
حاول أن يتحدث ويعلق ويحلل كما اعتاد على مدى حياته العامة الطويلة، غير أن المرض الشديد عانده بقسوة.
لم يكن بوسعه، وهو على ذلك الحال، أن يتذكر ما كتبه عن لقاء أخير مع الزعيم الهندى التاريخى «جواهر لال نهرو»: «كان على عادته، حتى وهو على فراش المرض، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور».
كان هو نفس الرجل، يريد أن يسمع ويريد أن يحاور حتى النفس الأخير.

سيطرت على وجدانه فكرة أن وقت الرحيل قد حان، كأنه رسم خطًا فى فضاء الغرفة: «هنا النهاية»

استأذنته أن الوقت حان للتفكير فى «تنظيم الطاقة الإنسانية».
أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومى دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأى فيما يجرى عليها من تفاعلات وحوادث.
علت ابتسامة خفيفة على وجهه المتعب: «لماذا التنظيم؟».. «سوف أمتنع عن أى نشاط وكل حضور حفاظا على صورتى».
سيطرت على وجدانه فكرة أن وقت الرحيل قد حان، كأنه رسم خطًا فى فضاء الغرفة: «هنا النهاية».
انتهت القصة كلها عندما استشعر بعمق أن طاقته الإنسانية استنزفت إلى حد يصعب معه أن يحيا بالأسلوب الذى انتهجه فى العمل والإنتاج والتأثير شاهدا وشريكا فى الأحداث والتحولات الكبرى التى شهدتها مصر منذ ثورة (١٩٥٢) بجوار زعيمها «جمال عبدالناصر»، ومع خلفه «أنور السادات» حتى حرب أكتوبر (١٩٧٣)، وما بعدها من انقلابات دراماتيكية فى السياسات والتوجهات حتى (٢٥) يناير (٢٠١١) وما تلاها من انقلابات دراماتيكية أخرى كان شاهدا عليها ومؤثرا فيها.
معنى الحياة انتهى عند رجل يدرك فلسفة الوجود الإنسانى وقيمة كل دقيقة فى وضع بصمة، أو التأثير فى حركة.
قبل آخر إطلالة تلفزيونية على شبكة (cbc) قرب نهاية (٢٠١٥) لم يكن متحمسا لأى حديث جديد.
تساءل: «ألم يحن الوقت للتوقف النهائى عن مثل هذه الحوارات؟».
بدا أن هناك شيئا ما يضايقه لكنه لم يفصح عنه، أراد أن ينسحب بهدوء من المجال العام كله.
قلت: «أرجوك ألا تفعل ذلك، طالما أعطاك الله الصحة والهمة فلا تتوقف».
سأل مرة أخرى: «لماذا؟».
قلت: «معنى الحياة».
ردد الجملة مرتين، ثم صمت كأنه فى حوار داخلى لا شأن له بما حوله.

هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟ فكر فى اليونان وأماكن أخرى لكن شيئا ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه. من وداع فى الأندلس إلى الوداع فى القاهرة تداعى كالجبال فى أيام قليلة

كان لا يهدر وقتًا في ما لا طائل منه، والحياة بلا دور كأنها موت مؤجل.
برغم شدة المرض تبدَّى كبرياؤه الإنسانى، أراد أن يعتمد على نفسه ولا يطلب مساعدة من أحد، لا يشتكى ويواجه قدره رافعا رأسه.
بعد طول ممانعة تقبل مساعدتى فى تناول كوب ماء على «كومودينو» بجوار سريره لم يستطع من فرط التعب الوصول إليه.
أراد أن يرحل على الصورة التى حرص عليها طوال حياته ورسم بدأب أدق تفاصيلها.
قرب النهاية لم يأبه بالقيود المفروضة على حركته بعد عملية جراحية فى عنق فخذه الأيمن إثر سقوط من فوق درج فى «الغردقة» أثناء إجازة عيد أضحى.
حاول بقدر ما يستطيع أن تمضى الحياة على وتيرتها السابقة برغم مصاعب الحركة بـ«الووكرز»، الذى استعان به فى حركته حتى يأمن أية مفاجآت.
كان واضحا أمام نفسه قبل الآخرين وهو يقول: «لا يهمنى إن ظهرت صورى وأنا أمشى بالووكرز».
لم يجد غضاضة أن يظهر فى أماكن عامة على هذه الصورة، بعضها دور مناسبات، وبعضها أماكن فائقة الأهمية.
برغم أنه واصل العلاج الطبيعى بهمة، وحاول أن يحافظ على لياقته بقدر ما يمكن، إلا أنه لم يحاول مرة واحدة المشى بدونها.
تمنيت عليه أن أراه واقفا على قدميه، أن يتحرك بحرية ويذهب إلى حيث يشاء دون أية وسائل مساعدة.
قال: «أنا أستطيع الآن، لكن لا تنس أننى فى سن السقوط فيه محتمل بأية لحظة ولأى سبب طارئ».
كان اعتقاده أنه طالما يجلس على مكتبه، يقرأ ويعمل ويحاور ويساهم فى السجال العام وتخفيف أعباء التحول إلى المستقبل، فإنه لا شيء يهم».
فى تلك الظروف خطر له أن يطل على الأندلس بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة وذكرياته فيها لا تغادر مخيلته.
كانت أجراس الزمن تدق فى المكان مرحبة باقتراب عام (٢٠١٦).
بدا مسحورا بجمال الأندلس وإرثه الحضارى كأنه يراه لأول مرة.
فى كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومى.
هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟
فكر فى اليونان وأماكن أخرى لكن شيئا ما دعاه إلى الأندلس، كأنها رحلة وداع لكل معنى أهدرناه.
من وداع فى الأندلس إلى الوداع فى القاهرة تداعى كالجبال فى أيام قليلة.
قبل أن يفارق الحياة اتصلت بى السيدة قرينته قائلة: «طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأى لقاء.. أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتى أمام الله وأمامه».
لم أكن أعرف وأنا أنحنى على جبينه مقبلا، وهو على سرير مرضه الشديد، أنه اللقاء الأخير.

إقرأ على موقع 180  رفقة هيكل الآسيوية في زمن.. "الأهرام"!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  روسيا فجّرت ربيع مصر 2011 بالقمح.. هل ينفجر مجدداً؟