فى شهر تموز/ يوليو الحالى يبدأ الأثيوبيون، كما هو مخطط ومعلن، الملء الثانى لخزان السد، دون أدنى اعتبار للقانون الدولى، أو لمصالح دولتى المصب مصر والسودان.
خطورة تلك الخطوة الانفرادية تتلخص فى أمرين متلازمين:
الأول، صنع أمر واقع يصعب بعده قصف جسم السد لمنع السيطرة الأثيوبية على النيل الأزرق خشية غرق أجزاء واسعة من السودان واصلا فيضانه المدمر إلى مصر، لكنه لا يلغى تماما سيناريو العمل العسكرى إذا ما اقتضته ضرورات الدفاع عن الحق فى الحياة.
بتنسيق عسكرى مصرى سودانى كامل يمكن احتلال موقع السد نفسه، الذى يقع بالقرب من الحدود السودانية.
هذا خيار غير مستبعد فى ظل المناورات المشتركة، التى أجرياها بجميع الأسلحة البرية والبحرية والجوية بالقرب من موضع العمليات المفترضة تحت اسم لافت برسائله: «حماة النيل».
يستلفت الانتباه ــ هنا ــ أن التصريحات المصرية والسودانية المتواترة عن استبعاد العمل العسكرى أفضت إلى عكس رسائل الطمأنة تأكيدا على أفضلية الحل الدبلوماسى.
لأول مرة منذ بدء الأزمة ارتفعت أصوات لقيادات عسكرية أثيوبية تهدد وتنذر وتؤكد على جاهزيتها القتالية.
كانت تلك عنجهية مستأنفة، دون إدراك لفوارق القوة.
بتلخيص ما، العمل العسكرى شبه مستبعد مصريا وسودانيا، لكنه وارد بقوة إذا ما أفضت الأزمة إلى حرب مياه وخيمة لا يمكن تحمل كوارثها على الزراعة والاقتصاد والحياة نفسها.
والثانى، المضى قدما فى اعتبار النيل الأزرق بحيرة تخص دولة المنبع وحدها لا نهرا دوليا تنظمه اتفاقات وقوانين ومصالح وجودية لدول أخرى تتعلق بالحق فى الحياة.
الترجمة العملية: فرض الهيمنة الأثيوبية السياسية والاستراتيجية على حوض نهر النيل، باعتبار أنها صاحبة الحق الحصرى فى توزيع الحصص والأنصبة من المياه، تمنح وتمنع وفق ما تراه من حسابات ومصالح تتداخل فيها بطبائع الأمور إرادات دول أخرى، إسرائيل فى مقدمتها، تطلب لأسباب مختلفة تهميش مصر فى محيطها.
هذه مسألة وجودية أخرى تتعلق بمكانة البلد واحترامه لتاريخه ومصالحه ونظرته إلى نفسه.
باستهلاك الوقت ضاقت الخيارات عند المنعطف الأخير.
كان اختيار «فيلتمان» بالذات مؤشرا على نوع التسوية، التى تطلبها الولايات المتحدة فى أزمة مياه النيل، فهو سفير أمريكى سابق على إلمام بالمنطقة وأحوالها وصراعاتها، عمل فى لبنان، وكانت تجربته مثالا سلبيا على قدر التدخل فى أدق اموره وسياساته
أغلب ما هو مطروح من أفكار وتصورات إعادة إنتاج لما جرى التفكير فيه واللجوء إليه من قبل مثل الذهاب إلى مجلس الأمن، أو استصدار بيانات تضامن من دول شقيقة أو صديقة تتفهم دواعى القلق فى مصر والسودان.
رغم أية مشاعر مقدرة فإن أحدا فى العالم لن يخوض معاركك الوجودية بالنيابة عنك.
أفضل ما يحدث الآن حالة التأهب التى تخامر قطاعات متزايدة من الرأى العام المصرى استعدادا لدفع تكاليف الدفاع عن الحق فى الحياة، أيا كانت التضحيات.
تكاد تقارب تلك الحالة، التى يمكن تلمسها بسهولة بالغة، ما كان عليه الشارع المصرى عام (1972) قبل حرب أكتوبر مباشرة، حين بدأت بمظاهرات طلاب الجامعات وبيانات النقابات والمثقفين وبطولة الرجال فى الخنادق الأمامية متأهبة لإزالة آثار عدوان (1967) بقوة السلاح.
القضية الآن ليست طلبا لإزالة آثار عدوان مهما بلغت خطورته، بقدر ما هى دفاع عن الحق فى الحياة والوجود.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق فهناك تقصير بالغ لا يمكن إنكاره فى طرح قضية المياه والوجود على الرأى العام العالمى ومراكز التأثير الدولية.
لا بد أن يكون واضحا أن مصر لن تضبط نفسها للأبد، وأن قضيتها تمثل فعلا تهديدا حقيقيا للأمن والسلم الدوليين فى حوض نهر النيل، كما القرن الإفريقى واستراتيجية البحر الأحمر.
قرب المنعطف الأخير، قبل الملء الثانى لخزان السد الأثيوبى، جرت محاولة لاختراق التحالف المصرى السودانى بالاستثمار فى مخاوف الخرطوم المتفاقمة والمشروعة من التأثير السلبى الفادح على سد «الروصيرص».
الخطر ماثل فى السودان فيما مصر مؤمنة بمخزون مياه بحيرة السد العالى لفترة قد تطول لثلاث سنوات.
جرى طرح مشروع اتفاق مرحلى أثيوبى سودانى اقترحه المبعوث الأمريكى إلى القرن الإفريقى «جيفرى فيلتمان»، بدعم وتأييد مفترض من الاتحاد الإفريقى والأمم المتحدة.
لم تبد أثيوبيا حماسا كبيرا للمشروع المقترح، رفضت أية اشتراطات سودانية تضمن جدية الالتزام بالتوصل إلى اتفاق قانونى ملزم بعد ستة أشهر، أو أن تكون هناك مشاركة دولية.
راوغت مجددا بتصور أنها فى مركز قوة يخولها التصرف كما تشاء.
كان اختيار «فيلتمان» بالذات مؤشرا على نوع التسوية، التى تطلبها الولايات المتحدة فى أزمة مياه النيل، فهو سفير أمريكى سابق على إلمام بالمنطقة وأحوالها وصراعاتها، عمل فى لبنان، وكانت تجربته مثالا سلبيا على قدر التدخل فى أدق اموره وسياساته.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق فهناك تقصير بالغ لا يمكن إنكاره فى طرح قضية المياه والوجود على الرأى العام العالمى ومراكز التأثير الدولية
بالقرب من المنعطف الأخير اندفعت الحوادث داخل أثيوبيا إلى مستوى لم يكن فى دائرة الاخبار المتوقعة بهزيمة الجيش الأثيوبى فى إقليم التيجراى، واضطراره للانسحاب من عاصمة الإقليم تحت ضربات «جبهة تحرير شعب التيجراى»، برغم ما ارتكبه من فظائع وجرائم ضد الإنسانية والمساندة التى حازها من قوات إريترية، اضطرت بدورها إلى انسحابات أخرى من ذلك الإقليم.
كان ذلك تطورا جوهريا فى معادلات الصراع على السلطة فى أثيوبيا يهدد وحدتها وينذر بفوضى فى القرن الإفريقى تهدد بالعمق استراتيجيات ومصالح غربية.
ارجو الالتفات إلى أن أحدا فى العالم لم يول اهتماما حقيقيا بما يحدث فى التيجراى من فظاعات وجرائم ضد الإنسانية باستثناء ما صدر عن بعض منظمات الأمم المتحدة من تقارير.
المعادلات الآن اختلفت، الجيش الأثيوبى روحه المعنوية فى الحضيض، على الأقل لم يعد بوسعه أن يتحدث بعنجهية عن جاهزيته العسكرية، حكومة «أبى أحمد» فى أوضاع اهتزاز، واحتمالات التصعيد العسكرى فى الحرب الأهلية مفتوحة على مصاريعها.
كان انهيار القوات الأثيوبية فى مواجهات التيجراى، واضطرارها لإعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، مروعا فى حجمه وتأثيراته الاستراتيجية وداعيا فى الوقت نفسه لتحرك جميع المؤسسات الأمريكية المعنية بصناعة السياسة الخارجية، فى مجلسى الكونجرس، كما فى البيت الأبيض ووزارة الخارجية، لمحاولة التوصل إلى تسوية سياسية تمنع انفلات السلاح فى هذه المنطقة الحيوية من القرن الإفريقى من أن يضرب فى مصالحها الاستراتيجية.
المصالح الأمريكية المهددة قبل أية ادعاءات عن حقوق الإنسان!
لا مصلحة للولايات المتحدة فى تفكيك إثيوبيا، كما لا مصلحة لمصر والسودان شرط أن تلتزم حكومة «أبى أحمد» بقواعد القانون الدولى، وتحترم حقوق البلدين العربيين فى مياه نهر النيل.
المشكلة الحقيقية التى تعترض أثيوبيا الآن أن مشروعها لبناء قوة إقليمية مهيمنة على نهر النيل يتعرض للتقويض من داخلها، لا بتآمر من خارجها، كما تحاول أن تحشد مواطنيها ضد «العدو المصرى المفترض».
إذا ما عجزت دولة ما أن تحفظ وحدة ترابها الوطنى فإن شرعية الحكم فيها تسقط، أو على الأقل توضع بين قوسين كبيرين.
وإذا ما تمددت نيران الحروب الأهلية فإن فكرة الدولة نفسها تتقوض.
الأسوأ فى الحالة الأثيوبية استدعاء قوات من خارج الحدود للتنكيل بمواطنيها فى التيجراى وارتكاب جرائم حرب بحقهم استثمارا فى أحقاد وعدوات قديمة.
بأية معايير قانونية وسياسية فهذه جريمة خيانة عظمى لا تؤسس لمشروع دولة إقليمية مهيمنة، ولا تتيح فرصة حقيقية لتنمية تحتاجها إثيوبيا للخروج من ربقة الفقر المتوارث.
عند المنعطف الأخير توفر المستجدات أمام مصر فرصا سانحة لإعادة عرض قضيتها العادلة باعتبارها مسألة حياة أو موت، وأن تكون الخيارات كلها مفتوحة، أيا كانت تكلفتها، فـ«يا روح ما بعدك روح» ــ كما يقول المصريون عادة عند مواجهات المصير.
(*) بالتزامن مع “الشروق“