يومذاك، نُقِل عن الرئيس المصري الراحل حسني مبارك قوله الساخر: “عاوزينّا نساعد لبنان إزّاي؟ لمّا حِتّت وَدْ صُغَيَّر يروح بيروت ويجيب ربع مليون جنيه!”. وكان مبارك يقصد بكلامه، طبعاً، الأرباح التي جناها عمرو دياب من حفله اللبناني! إذْ تعجّب الرئيس المصري من حال هذا الشعب. فكيف ينعى عوزه ويشحذ القروض والمساعدات، صبحاً، ويضخّ المال الوفير على الطرب والكيْف، ليلاً؟! هو هذا التناقض الذي يعيشه لبنان واللبنانيّون منذ الأزل. تناقض لا يحيّر حسني مبارك لوحده. بل، كلّ مَن عرف بشؤون وشجون بلدنا الصغير هذا.
أطفالاً، كانوا يحشون رؤوسنا بالزجليّات عن مزايا لبنان الفريدة. بخاصّة، تلك “اللازمة” الممجوجة، والتي كانت تُطرَح علينا بصيغة السؤال المستنكِر: “هل يوجد مكان في العالم غير لبنان، يستطيع المرء فيه أن يتزلّج على ثلجه ويسبح في فقش موجه خلال ساعة واحدة من الزمن؟”. كلا، والله أعلم!
هكذا، يقرأ معظم اللبنانيّين خصائص بلدهم وشعبه. قراءة أحاديّة سطحيّة عاطفيّة، يكتنفها الإذعان لنمطٍ معيّن من التفكير. لكن، دار الزمان علينا وجار. حطّمت تجاربُ مريرة ومأساويّة حيواتنا. وحرمتنا عيش حياتنا كسائر البشر. كيف لا، والربّ قد أنعم علينا بعصابة من الحُكّام، بات التلفّظ باسم الواحد منهم يعني الإهانة، بحدّ ذاتها. إذاً لا داعي لهجائهم. هجاؤهم منهم وفيهم. حُكّام، سادت فيهم ذهنيّات الأنظمة الشموليّة، فضيّقوا مجالات المجتمع اللبناني إلى الحدود الدنيا. أفقدوه قيمته وقيمه، ليصبح أفراده مجرّد عبيد في خدمة الفساد والفاسدين والاستبداد. قاموا باستخدام الشعب أبشع استخدام، ليصلوا إلى السلطة والحُكم والهيمنة.
لكن للأمانة، بادلتهم أغلبيّة هذا الشعب الاستعداد الرهيب وغير المسبوق للرضوخ واستمراء الخنوع والمهانة. اتّخذت كلّ جماعة من زعيمها السياسي – الطائفي، كائناً مَن كان، إلهاً لها. تعبده وتجعل الأنفس والأولاد والأرزاق، قرباناً له. نعم. أناس يستمرئون الموت في سبيل حياة الزعيم. وهذا الواقع يدفعنا للتساؤل الإشكالي الكبير: هل يمكننا الحديث في لبنان عن “شعب” كما لكلّ الأوطان شعوبها؟ لا، بكلّ تأكيد.
ما هو الشعب؟
للشعب مفهومان اجتماعي وسياسي؛ المفهوم الاجتماعي، يعني مجموعة من الأفراد يعيشون في دولةٍ ما يكونون ينتسبون إليها عن طريق “التمتّع” بجنسيّتها. ويُطلَق على هؤلاء تسمية “المواطنين”، سواء أكانوا يعيشون داخل حدود دولتهم أو رعايا فيها (حصلوا على الجنسيّة) أو يعيشون خارجها. أمّا المفهوم السياسي، فيعني أنّ كلّ مَن ينتمي إلى بلدٍ ما برابطة الجنسيّة، فهو يتمتّع بمجموعةٍ من الحقوق السياسيّة (الانتخاب، الترشيح، حريّة الرأي، تولّي الوظائف العامّة..). وإذا تمعّنّا في هذيْن المفهوميْن من خلال واقعنا المعاش، نستخلص أنّنا لسنا شعباً. لا بالمفهوم الاجتماعي، ولا بالمفهوم السياسي. بل، نحن مجرّد جماعات تتجمّع على أرضٍ واحدة. تأكل وتقضي حاجاتها البيولوجيّة وتفكّر بأمورٍ تافهة وتنام. وبعد؟
يقولون عنّا، نحن اللبنانيّين، أنّنا شعب لا يشبه سوى نفسه، من حيث كثرة التناقضات التي تجتمع تحت سمائه الجميلة، وبعض عاداتٍ تجعله يحاول أن يتصرّف كالأوروبي والعربي، في آن.
لكن، ما هي أبرز عادات اللبناني؟
لديه عشر عاداتٍ لا يفهمها أحدٌ سواه، وهي: الاستماع إلى فيروز صباحاً؛ تطعيم حديثه دوماً بالكلمات الأجنبيّة؛ مضاعفة التحيّة إظهاراً للمودّة؛ استخدام كلمات التحبّب خلال المشاجرات؛ التذمّر من وضع البلاد؛ الحلم بالهجرة.. ومن ثمّ عشق لبنان عن بُعد؛ الحديث المفرط في السياسة وشؤونها؛ معرفة كلّ العلوم؛ ادّعاء القدرة على مزاولة جميع المهن، وعدم إتقان المهنة التي يزاولها؛ التأكيد صباحاً على أنّه غير طائفي، وإعلان مظلوميّة طائفته مساءً!
منظر المصارعة الحرّة لتناتش علبة الحليب في أحد المتاجر بالأمس القريب، يدمي القلوب حُزناً وذلّاً. وأسأل نفسي، معقووول؟ أيُعقل أن يكون هؤلاء الناس ينتمون إلى الشعب ذاته؟ الشعب الذي خرّج ثوّاراً ومقاومين ومقاتلين وأبطالاً وأسرى مواجهات و.. هزم إسرائيل وكلّ الطامعين؟ أيُعقل؟
مَن ليس له هذه العادات، ليس لبنانيّاً أصيلاً. ومَن لا يجعل من العادة العاشرة (الأخيرة) أيقونته والبوصلة لحياته، يُشكَّك بوطنيّته. بل يكون مواطناً قاصراً، في حال عدم إتقانه التصفيق والهتاف بحياة الزعيم. “لحم كتافي (أكتافي) من خيرو.. كيف بدّي إطعنو بالظهر.. كيف؟!”، قالها لي بحدّة، ذات مرّة، أحد زملائي في الإذاعة. فكاد كلامه يتسبّب لي بجرحة قلبيّة. لم أستوعب سبب وجهه المنتفخ إنفعالاً، وهو يصرخ بوجهي لتسمعه الآذان المتلصلصة، وتبلّغ مَن يعنيهم الأمر. كان هذا الزميل يحتجّ على تحرّكنا النقابي ضدّ مشروع الصرف التعسفي للموظفين، والذي أعدّه بإتقان “زعيمه” الوطني!
زميلي المسكين هذا، نموذجٌ لنماذج صنّعها ساسةُ لبنان على مدى عقود. نعم. شعب لبنان خلقه ربّه، ومن ثمّ أكمل حُكّامنا نفخ الروح فيه. صنعوا من شعبنا شعوباً وقبائل لا يتعارفون. جعلونا عصيّين على التعارف والتقارب. قطعاناً بالمختصر. تلوّح لهم عصا الراعي ناهرةً، فتعود الخراف الشاردة إلى القطيع. على فكرة، يجرحهم توصيف القطعان. لا عجب. فالحقيقة تجرح، بطبيعة الحال.
إلامَ يهدف كلّ هذا الكلام؟
تحاول هذه المقالة، ولو قليلاً، فهْم الآليّات التي يتفاعل عبرها الشعب اللبناني. أو اللبنانيّون، بمعنى أدقّ. إذْ ثبت بالوجه الشرعي، أنّ تشظّينا عسيرٌ على التجميع. وأنّ التحامنا في بوتقة شعبٍ واحد، أمرٌ مستحيل. لكن، لماذا هذا السُبات الذي ترزح تحته شعوب لبنان؟ لماذا نحن هكذا؟ لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ فمنظر المصارعة الحرّة لتناتش علبة الحليب في أحد المتاجر بالأمس القريب، يدمي القلوب حُزناً وذلّاً. وأسأل نفسي، معقووول؟ أيُعقل أن يكون هؤلاء الناس ينتمون إلى الشعب ذاته؟ الشعب الذي خرّج ثوّاراً ومقاومين ومقاتلين وأبطالاً وأسرى مواجهات و.. هزم إسرائيل وكلّ الطامعين؟ أيُعقل؟
فكّرت، ووجدتُ الجواب. شعبنا، يا أصدقاء، مريض. شعب يعاني من مرضٍ نفسيٍّ نادر، تمّ تشخيصه في 1974. وسمّى الطبيب النفسي والباحث في علم الجريمة نيلز بيجيروت هذا المرض “متلازمة ستوكهولم” Stockholm Syndrome.
ما هي عوارض هذا المرض؟
استوحى طبيبنا الاسم من مدينة ستوكهولم، حيث نُفِّذت عمليّة احتجاز رهائن في أحد بنوك المدينة. خلال هذه العمليّة، أظهر بعض المُحتجَزين مشاعر غير منطقيّة حيال مختطِفيهم. وسلوكاً غريباً يشبه الحبّ والولاء لهم. بحيث، كان يتولّد لدى الضحيّة، حالة نفسيّة تجعلها تتعاطف مع الجاني. وصولاً إلى حدّ الدفاع عنه والاشتراك معه في الجرائم. لقد استهوى ذلك السلوك علماء النفس. فحاولوا تفسير تلك الظاهرة المتناقضة عضويّاً. إذْ، وعند بعض الناس الذين يتعرّضون لتهديدات مرعبة من آخرين، كانت تتشكّل لديهم مشاعر إيجابيّة تجاه جلاّديهم! أي، بدل أن يخلق القهر والإذلال والترهيب، لدى المُحتجَزين، مشاعر الخوف والرفض والنقمة والازدراء (المتوقّعة في مثل هذه المواقف)، كان يحدث لهم العكس تماماً! كانوا، وتحت تأثير الصدمة، يفسّرون أبسط تصرّف من قِبَل آسرهم تجاههم (مثل منحهم الطعام أو السماح لهم بدخول المرحاض..) على أنّه رحمة.
قام أخصّائيّو علم النفس بتوسيع تعريف “متلازمة ستوكهولم”. فأصبح يشمل أيّ علاقة يرتبط فيها ضحايا “سوء المعاملة” إرتباطاً قويّاً ومخلصاً، بمرتكبي الإنتهاكات على أنواعها. كيف نميّز المصاب بـ”متلازمة ستوكهولم”؟ عندما يطوّر الضحيّة مشاعر إيجابيّة تجاه الشخص الذي يحتجزه أو يسيء معاملته؛ وعندما تتطوّر لديه مشاعر سلبيّة ورفض للتعاون مع كلّ مَن يحاول مساعدته على الإبتعاد عن آسريه؛ وعندما يبدأ الضحيّة في إدراك إنسانيّة آسرها، وتعتقد أنّ لديها الأهداف والقيم نفسها!
كأنّنا نتحدّث عن اللبنانيّين، أليس كذلك؟ وتحديداً، عن الشعوب الموالية بالروح والدم لأحزاب السلطة. فنراها تستنفر لتحمي مَن يأسرها ويذلّها ويستعبدها، بكلّ ما أوتيت من قوّة. هي تعتقد أنّها توالي وتخضع، عن قناعةٍ وثقة. يا حسرتي! شعوبنا اللبنانيّة تقيم، مع مَن تعشق من أسيادها، ما يُسمّى بـ”العلاقات السامة”. وهذه العلاقات لا داعي لتعريفها. فهي، كما يقول العلم، تُظهِر بعض العلامات لدى أصحابها. علامات تشبه الإنذار. وتحاول أن تخبرهم بأنّه قد حان وقت مغادرة هذه العلاقة.
قد يكون أغرب ما في واقعنا اللبناني المريع، ليس التسليم الكلّي للعصابات الحاكمة والطاقم السياسي كي يتلاعبوا بحياة الناس وقدرهم والضرب على الخواصر الرخوة لديهم. الغريب العجيب، هو هذا الإستسلام المطلق مع ألاعيبهم الجهنّميّة الشريرة. هم يتقنون هذه الألاعيب. يدفنون بواسطتها كلّ نزعة تغييرٍ جذريّة حقيقيّة. كلّ ما من شأنه دفن مسبّبات ويلات هذا الوطن وأهله، مرّةً لكلّ المرّات.
كلمة أخيرة. في زمن تفاعل الديانات الإبراهيميّة هذه الأيّام، مفيدٌ التذكير بقول بوذا: “لا يُعتبَر الكلب كلباً جيّداً بمجرّد أنّه يجيد النباح”. إقتضى الإصغاء لبوذا.. يا سادة.