الحد الأدنى للأجور في لبنان حالياً هو 650.000 ليرة لبنانية، أي ما يعادل 65$ حسب سعر صرف الليرة اللبنانية 10.000 (ل.ل) كمعدل وسطي في السوق السوداء. عليه، إذا أخذنا أصغر عائلة في لبنان مثالاً، وهي مكونة عادة من ثلاثة اشخاص، وقسّمنا عدد الأفراد الثلاثة على الدخل الشهري الأدنى 65$، يُصبح دخل الفرد 21.6$ شهرياً، و0.72$ يومياً، أي يعيش الفقراء، في هذا البلد بأقل من دولار واحد يومياً (يزيد عدد الفقراء حالياً عن نسبة 60%، علما أن الإسكوا قدّرتهم بحوالي 55% في شهر آب/ أغسطس الماضي).
هذه الأرقام صادمة، لا بل مخيفة لشعب يتميز بنسبة تحصيل علمي عالية. ففي أقل من سنة ونصف السنة، تراجع الحد الأدنى للأجور بشكل خطير. إنعدمت القدرة الشرائية. إرتفعت البطالة. تحوّل الدعم الدولي من إنمائي إلى إنساني. إنتقل الإقتصاد خلال سنة ونصف من حالة المنتج نسبياً (بمعزل عن التفاوت الإنتاجي بين القطاعات) الى حالة الركود.
مع كل هذا التحول الجذري، لم يتغير شيء، لا سياسياً ولا شعبياً. لن أغوص في الشق السياسي الحكومي بسبب عبثيته وقناعتي ان لا النظام ولا الطبقة السياسية الحالية قادران على إنتاج الحلول. نحن في مأزق وجودي حقيقي قد يصل في سورياليته الى حد يفوق القدرة على التخيل.
على الصعيد الشعبي، وبرغم نزول مئات المواطنين إلى الشوارع، قبل أيام قليلة، يزداد المشهد قتامة وتزداد معدلات الفقر والعوز والبطالة والجوع. بالمقابل، لا طبيعة التحركات تغيرت، ولا أطر التعبير إختلفت، ولا الخطابات تبدلت نبرتها. بالعكس، ثمة أساليب لا تمت بصلة إلى الناس بل تزيد وجعهم بدل أن توجع أهل السلطة أنفسهم.
للأسف – ومن المعيب ان اكتبها – لقد “تعودنا”. لعل قساوة حياة اللبنانيين والضغط النفسي الهائل الذي يتعرضون له يجعلهم حائرين ومترددين ويبحثون عن أمانهم الفردي. صار صراعهم محكوماً بأولوية النجاة الفردية. ربما بسبب غياب شبكات الأمان، والخطر المستدام من اندلاع الحروب والخشية من قلاقل أمنية. كل هذا ولّد لدى اللبنانيين نمطية عدم الاكتراث التي قد تصل أحياناً الى حد نكران واقعهم الصعب، لا بل الكارثي. عندما تختفي مسؤولية الفرد في المجتمع، تنتفي المسؤولية الإجتماعية. المسؤولية الإجتماعية تتصل عادة بالمصلحة العامة المشتركة. هذا يؤدي إلى تراجع المشتركات وتغليب الفرديات. يزداد منسوب القلق. نفتقد للتماسك الإجتماعي أكثر فأكثر.
الكل مسؤول هنا. السلطة بمستوياتها كافة، الاحزاب، المرجعيات الطائفية، المؤسسات، ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق “الشعوب اللبنانية” (بالإذن من زياد الرحباني). أين أنتم؟ ماذا تنتظرون؟ “ماذا أنتم فاعلون” (بالإذن من قائد الجيش اللبناني)؟ حساباتكم المصرفية فارغة. براداتكم فارغة. جيوبكم فارغة. قدراتكم الشرائية معدومة. التعليم الخاص ممنوع عليكم. النقل العام غير موجود. الاستشفاء العادل للجميع غير متوفر. الى متى الرضوخ؟ ما هذه الانهزامية التي لا مثيل لها حتى في أكثر شعوب الأرض قمعاً وفقراً وتخلفاً.
الأزمة بطبيعتها راديكالية ويجب أن تواكبها راديكالية في التعبير والأساليب والحلول. الراديكالية تتمثل بتوجيه الإحتجاجات ضد قلة حاكمة. هذه القلة بيوتها معروفة. وزاراتها ومقارها الرسمية معروفة.. والساحات أيضاً معروفة. ليكن عصيان مدني وتمرد حتى لو كلّف الأمر أكبر التضحيات
قد يقول البعض ان تحميل المسؤولية الكبرى للشعب هو خطأ تاريخي. فالشعب نزل الى الشوارع في 17 تشرين/ أكتوبر 2019 وقبله عدة مرات ولأسباب مختلفة. هذا الشعب نزل إلى الشوارع عقب انفجار عاصمته في صيف 2020. ولكن هل هذه التحركات كافية مقارنة بحجم الازمات الإقتصادية والمالية والسياسية وحتى الامنية المتمثلة بانفجار 4 آب/ أغسطس، حيث ما يزال التحقيق مبهماً حتى الآن.
قد يقول البعض ان الشعب هو من إنتخب الطبقة السياسية عينها مراراً وتكراراً، وهذا يعني في علم المنطق أنه يصوّت ضد التغيير ويدافع عن النظام الفاسد. ولكن هل هذا صحيح؟ نعم. الطبقة السياسية فصّلت القوانين الانتخابية على مقاسها. دمّرت الحياة السياسية. قُمعت كل حركة اعتراضية بالأمن الرسمي أو الميليشيوي. لذلك، أصبحنا امام خيارين لا ثالث لهما: الفوضى أو الذل. الحرب الأهلية أو تقديم الطاعة للطبقة السياسية.
وما يزيد الطين بلة أن صمت المجتمع الغربي إزاء انتهاكات أدنى حقوق الانسان هو مثال عن تخاذل المنظومة الدولية لا بل شراكتها الكاملة مع المنظومة الميليشيوية الحاكمة، وذلك لأسباب معروفة. انها المصالح ولعبة الامم التي لا تكترث لا للمعايير ولا للقوانين ولا للقيم.
أنا لست في موقع المدافع عن السعودية ولكن هل يمكن لإدارة جو بايدن ووكالة الاستخبارات الاميركية التي نشرت تقريرها عن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ان تنشر تقريرها السري عن انفجار 4 آب/ أغسطس في مرفأ بيروت؟ هذا الإنفجار دمّر مدينة وقتل اكثر من مائتي مدني وجرح الآلاف وشرد مئات عشرات الآلاف ويشكل بطبيعته جريمة ضد الانسانية. هل يمكن ان ينشروا تقاريرهم عن سارقي المال العام في لبنان وحتماً كل دولة غربية تملك ملفاً عن واحد وأكثر من هؤلاء الفاسدين؟.
مما لا شك فيه ان ادبيات الثورات وطريقة انتاجها تختلف من مجتمع الى آخر، ولكن ان تكون هذه الأدبيات معدومة لبنانياً برغم كارثتنا الوطنية، ولا سيما الإنسانية بعد انفجار مرفأ العاصمة، فهذا أمر مخيف ويطرح علامات استفهام عن طبيعة النظام والثقافة الطائفية التي وضعت قيمة الطائفة قبل قيمة الانسان وكرامته ومكتسباته الفطرية المتمثلة بالحق في الحياة والعيش الكريم الى حدود الاحلام الكبرى.
في السابق كنت من المعتقدين – وربما أخطأت – أن اللبنانيين سوف ينتفضون بالزخم نفسه الذي حصل في العام 2005، بمجرد المس بمكتسباتهم الإجتماعية ومدخراتهم المصرفية او قدرتهم الشرائية او حتى كرامتهم الانسانية المُهانة على ابواب المدارس والجامعات والمستشفيات والأفران.. ولكن لم يحصل شيء، فما هو الحافز الذي يُمكن أن يُفجّر فينا ثورة غير الحافز الطائفي أو المذهبي؟ إلى متى يستمر هذا الهدوء اللبناني الكبير؟ الى متى يستمر نكران الواقع؟ الى متى تنعدم المسؤولية المجتمعية؟
اسئلة تراودني ولا اجد لنفسي جواباً على أي منها.
في ظل هذه الأزمة الوجودية، لا مفر من الراديكالية. نعم، الأزمة بطبيعتها راديكالية ويجب ان تواكبها راديكالية في التعبير والأساليب والحلول. الراديكالية تتمثل بتوجيه الإحتجاجات ضد قلة حاكمة. هذه القلة بيوتها معروفة. وزاراتها ومقارها الرسمية معروفة.. والساحات أيضاً معروفة. ليكن عصيان مدني وتمرد حتى لو كلّف الأمر أكبر التضحيات. صدقوني الموت المحتم يزحف نحونا، جوعاً أو على أبواب المستشفيات. ما عدا ذلك، يعني أننا “تعودنا”.. وبالتالي نستحق كل ما يرسمون لنا من “عادات”، وأولها عادة الإذلال. لماذا وصلنا إلى هنا وهل نستحق ذلك؟.