هنا بيت القصيد، العماد عون (2)، أي قائد الجيش جوزيف عون، هو المقصود بالنداء (حاول بيان من القصر تبديد هذا الانطباع). أمّا خلفيّة “الإنذار”، فهو الغضب الساطع الذي “شرقط” في قصر بعبدا، خلال الاجتماع الذي إلتأم عشيّة “إثنين الغضب”. وقبل محاولة فكّ رموز جملة رئيس البلاد، سؤالٌ يُطرَح: لماذا قال ما قاله؟
بحسب “الزوّار”، فإنّ رئيس الجمهوريّة إمتعض جدّاً من “خطبة الجهاد” التي أطلقها قائد الجيش في اليرزة، قبل قدومه إلى اجتماع بعبدا. لماذا؟ لأنّه عكس فيها نيّةً بـ”عدم الطاعة”، وتمرّداً على القرارات الصادرة عن الرئيس، والآمرة بقمع المحتجّين تحت شعار “تطبيق القانون”. لكن، لم يفعلها جوزيف عون. بل، تساهل جنوده مع قاطعي الطرقات من مناصري بعض أحزاب السلطة. أي، أولئك الذين أقاموا الحواجز، وقادوا الحملات في الشارع ضدّ رئيس الجمهوريّة! وصلنا، إذاً، إلى بيت القصيد الثاني. فإسقاط الرئيس، بات عنوان المرحلة المطلوب. هكذا تؤكّد الهتافات. أي، “إنّهم” المؤامرة الزاحفة إلى بعبدا. هكذا يجزم أنصار الرئيس. كيف؟
لا يوفّر العونيّون والتيّاريّون فرصة، إلاّ وينادون بالمظلوميّة. نعم. فاض كأسهم من الاستهداف الممنهَج والإساءة المتعمَّدة للعهد، من الجميع. كلّ لحظة، يلفتوننا، نحن اللبنانيّين، إلى أنّ هناك حملات مبرمَجة لتحميل الرئيس مسؤوليّة عرقلة التسويات. لمنعه من احترام الدستور المؤتمَن عليه. للتخريب على إنجازاته و.. باقي الحكاية تعرفونها. ليس هنا المجال، طبعاً، للقراءة في صحّة أو عدم صحّة هذه المرافعة الدفاعيّة لحاشية الرئيس. بل، للتساؤل عن دوافع رئيسنا لمعاودة تذكيرنا، بين الفينة والفينة، أنّه “قائد” عصيٌّ على الخضوع و.. المساومات؟
“الشطر الثاني من حياة الإنسان، هو عبارة عن تلك العادات والأشياء التي اعتاد على فِعْلها خلال الشطر الأوّل من حياته”، يستنتج الروائي والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي! والذي يرى أيضاً، أنّ “السلطة المطلقة لا حدود لها. فهي نوعٌ من المتعة، حتّى ولو كانت سلطة على ذبابة”. بعد أكثر من ثلاثين عاماً، لا ينفكّ الجنرال عون يقول ويكرِّر: “العالم يستطيع أن يسحقني، ولا يستطيع أن يأخذ توقيعي”. واليوم، عودٌ على بدء. لكن، مع مفردات جديدة. فرئاسة الجمهوريّة التي تقود حاليّاً (مع باقي فِرَق النظام) أكبر وأخطر عمليّة تفكيك وتخريب للبلد، ما زالت تصرّ على إطلاق صفة القوّة على عهدٍ أوصل لبنان إلى قعر أقعار الضعف. ما أجمل البديع والبيان في لغتنا العربيّة. العهد القوي في الدولة الضعيفة. إسترْ علينا أيّها الربّ! هل تذكرون جملةً شبيهة؟ الرئيس الأسود في البيت الأبيض (يا للسماجة التي تحمّلتْها آذاننا أيّام باراك أوباما). نعم. صارت التسمية بديلاً عن الواقع. ونعود إلى الأهمّ. ماذا يقصد رئيس البلاد بـ”لا أحد يجرِّبْني”؟ أو “رفضت التنازل في 1990 تحت ضغط المدفع ولن أتنازل اليوم تحت ضغط الدولار”؟
في الواقع، طوال هذه السنين لم يتّضح ما يعنيه الرئيس عون بـ”رفض التوقيع أو التنازل”! فمَن عاصر تلك الحقبة وأحداثها، يعرف حقّ المعرفة أنّه لم يكن هناك من تسوية معروضة على “جنرال بعبدا” (كما كان يُسمّى). لم يطلب منه أيُّ قادرٍ أن يتنازل. اللهمّ إلاّ مغادرة القصر الجمهوري سلميّاً! فالنظام السوري، كان قد فتح بازار المزاد مع الأميركيّين. وجاءت مكافأته بإطلاق يده في لبنان. فدشّن عهد وصايته، بعمليّةٍ خاطفة على بعبدا (في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1990)، أنهت ولاية الحكومة العسكريّة برئاسة العماد عون. حكومة، كان أُنيط بها (في أيلول/ سبتمبر 1988) التحضير لانتخاب رئيسٍ للبلاد خلال فترةٍ محدودة. لكن، خالف الجنرال ما تمّ الاتفاق عليه. وبدأ يُعِّد العُدّة ليكون “هو” الرئيس أو لا أحد. وقبل ذلك بشهر تقريباً، كان تعاون مع خصمه اللدود سمير جعجع لتعطيل نصاب جلسة انتخاب، كان مُقدَّراً لها أن تأتي، مجدَّداً، بالرئيس الراحل سليمان فرنجيّة رئيساً للبنان. ماذا بعد؟
عبثاً تحاولون. لم يقلها، صحيح. لكن قد يقولها قريباً: “جبران رئيساً أو الفوضى”. نعم. هذه هي الحقيقة. الكلّ يعرفها. ما ينقُص، فقط، هو توثيقها. على كلٍّ، بدأت معالم الفوضى اللبنانيّة تظهر. فما ترونه وتسمعونه وتشعرون به، أليس الفوضى بعينها؟
أعِدّت لائحة من خمسة أسماء لمرشّحين، أُسقِط منها إسم العماد ميشال عون. وتلك اللائحة الرئاسيّة، سلّمها البطريرك الراحل نصر الله صفير إلى مساعد وزير الخارجيّة الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ريتشارد مورفي. ويومذاك، أطلق مورفي جملته الشهيرة “مخايل الضاهر أو الفوضى”. والسيّد مخايل الضاهر، لمَن يجهله، كان المرشّح الدائم للرئاسة. والماروني “المُبارَك”، على الدوام، ببخّور الإدارة الأميركيّة. أمّا الجملة، التي أدخلته تاريخ لبنان، فباتت سيفاً يُسحَب من غمده عند نهاية كلّ عهد. إمّا للتهديد أو التهويل أو التحذير “الإيجابي”. ماذا عن جملة رئيس العهد القوي؟
عندما يهدِّد رئيس الجمهوريّة (ضمناً) بعدم الرضوخ، لأيّ شيء أو لأيٍّ كان، يتوجّس اللبنانيّون كثيراً. فللجنرال، صولات وجولات مع مَن لا يلبّي رغباته. أو يتصدّى لطلباته. أو يتمرّد على قراراته! والإفلاس والإنهيار الاقتصادي والخراب الاجتماعي التي اختصرها الرئيس بتهديد “الدولار” لعهده، لن تجعله يُقدِم على أيّ تنازل، بخصوص الحكومة وغير الحكومة. عبثاً تحاولون. لم يقلها، صحيح. لكن قد يقولها قريباً: “جبران رئيساً أو الفوضى”. نعم. هذه هي الحقيقة. الكلّ يعرفها. ما ينقُص، فقط، هو توثيقها. على كلٍّ، بدأت معالم الفوضى اللبنانيّة تظهر. فما ترونه وتسمعونه وتشعرون به، أليس الفوضى بعينها؟
هذا الانسداد السياسي غير المسبوق. هذا الانفصام عن واقع الحال. هذا الإنكار السلطوي. هذا الاستسلام الشعبي. هذا العهر في محاولة رشوة العسكر. هذا السقوط الأخلاقي المدوّي. كلّ ذلك، برأيكم، لا يستحقّ توصيفه بـ”الفوضى”؟ بلى. الفوضى في بلادنا، يا أصدقاء، مذهب سياسي. نظريّة، لها أصولها ومنظِّروها. نهج، يدمِّر دولتنا ومجتمعنا وأرواحنا. والأخطر أنّها، ليست عبثيّة. بل مدروسة ومُخطَّط لها. وتتشارك فيها جهاتٌ عدّة. داخليّة وإقليميّة ودوليّة. لكلٍّ منها، غاياته الخاصّة، الآنيّة والمستقبليّة. كيف تتبدّى هذه الفوضى المنظَّمة في وطننا؟
أوّلاً، عبر الفوضى السياسيّة التي تسحق الدولة والمؤسّسات والشعب تعطيلاً وإفساداً ونهباً. فلا أحد يدرك مَن يقرّر في لبنان وللبنان ومَن يقوده. دولة بأمّها وأبيها أمست كـ”حارة كل مين إيدو إلو”. والأسوأ، أنّ أحداً من الممسكين بقرارها وخناقها لا يعرف إلى أين نحن ذاهبون بالبلد وسيادته وناسه.
ثانياً، عبر الفوضى الأمنيّة التي تنذِر بخطر فقدان السيطرة على الشارع الملتهب. وبمحاولة توجيه عَصْفه تبعاً لمقتضيات اللحظة الإقليميّة المتفجّرة. طغى الهمُّ الأمني على إمتداد جغرافيا الوطن. فعدا هاجسيْ تهديد الإرهاب الداعشي (النائم) وهشاشة أمن الحدود، يعيش اللبناني يوميّاً هواجس أمنيّة جمّة؛ سرقات وعصابات سطو وترويج مخدّرات، شبّك عناصرها “نشاطهم” مع بعض مسؤولي وأفراد الأجهزة الأمنيّة. ممّن يساعدون التجّار الكبار ويؤمِّنون الحماية لهم. أيضاً، نشهد عمليّات إطلاق نار على خلفيّاتٍ متعدّدة. وإغتيالات وجرائم تسعى، في جانبٍ منها، إلى زرع فتن، تسارع الطغمة الحاكمة إلى استغلالها بالأسلوب الذي تتقنه، أي التهديد بإشعال حربٍ أهليّة.
ثالثاً، عبر فوضى إقتصاديّة مركَّبة من فوضى مصرفيّة وماليّة وتجاريّة وصناعيّة وخدماتيّة و.. إلخ. ومع إنسحاق الليرة أمام الدولار الأميركي ومعه الواقع المعيشي للّبنانيّين، وصلت الحكومة إلى مرحلة لا يمكنها فيها دفع رواتب الموظّفين إلاّ بالإقتراض الداخلي والخارجي. أي، عبر رهن القرار اللبناني لإرادة صندوق النقد الدولي والدول المانحة أو المُقرِضة. لكن، حتّى هذا الارتهان، لم يعُد “بالمتناول”. مافيات الحُكم تكفَّلت بجعلنا “أيتاماً على موائد اللئام”.
رابعاً، الفوضى الإعلاميّة المُفضية إلى زرع القلاقل والقلق بين اللبنانيّين، ولا سيّما، ذلك الإعلام المموَّل من الطوائف وأحزاب السلطة والدول التي تتسوّل على أبوابها تلك الأحزاب. سموم قاتلة يُعبَّأ بها هواؤنا الملوَّث أصلاً. وعندما نتحدّث عن السموم لا داعي لشرح ما تتركه من آثار على الكائنات البشريّة.
ليس من المفيد، ربّما، تكرار “الندبيّات” على الفوضى العابرة للقطاعات. صارت الفوضى عنوان حياتنا وهويّتنا ومصيرنا وقدرنا. والإمعان المتوقَّع لهذه الفوضى، سيتأتّى عندما يتبدَّد الأمل بحصول السيّد جبران باسيل على صكّ “كرسي الفخامة”. فهذا هو المعنى المُضمَر في طيّات كلام رئيس البلاد. هكذا يحلِّل علم الخطاب دلالات “ما حدن يجرّبني”!
كلمة أخيرة. السلطة لا تغيّر الأشخاص. هي فقط تكشفهم على حقيقتهم. ويقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، “يشرّع البشر القوانين، لأنّهم لا يثقون بغرائزهم”. إقتضى التنويه.