لكنّ الأرهب منه، أن تدعونا السلطة اللبنانيّة إلى لعبة دمٍ حقيقيّة لا كارتونيّة! يرتعب المرء عندما يسمع مسؤولاً أمنيّاً رفيعاً (سابقاً) يتحدّث عن “إقترابنا من لعبة الدم مثل أيّام زمان”. حُكّامنا يجرّون الناس جرّاً إلى لعبة الدم، كما يؤكّد هذا المسؤول، معتبراً أنّ التوطئة لتلك اللعبة، تتمّ عبر “بروفا” قطع الطرقات المناطقيّة والطوائفيّة. ولكن، ما الذي يؤشّر إلى توقّعه؟
إشارات كثيرة. ربّما أهمّها، ما تشهده شوارع لبنان. عنف، لا يمتّ بأيّ صلة، إلى ما سمّيناه ذات تشرين “الثورة الحلم”. عنف، تمثّل باحتلال السلطة خندق الثوّار. عنف، استغلّ الانتفاضة واستثمر في المنتفضين. عنف، فرّخ شوارع طائفيّة، لوظيفةٍ محدَّدة. وظيفة، رسمت معادلة تقوم على تعزيز الحسابات والأوزان والغنائم عبر قطْع الطرقات وافتعال الاحتجاجات. والهدف هو هندسة المواقع والمواضع والمناصب، للمستقبل. فماذا لو، في “ساعةٍ سمّاعة”، دُعي “القادة” إلى التفاوض؟ أو إلى مؤتمرٍ دولي يعيد تشكيل السلطة والنظام؟
إذاً، إفتحوا الجبهات على مصراعيْها! أوعز الرعيان لقطعانهم. ففتحوها، يمنة ويسرة. في أروقة الحُكم. في المؤسّسات. في الشوارع. وأمام المحافل الدوليّة (على ندرتها). وبعد؟ تبادلنا الأدوار. بتنا، نحن، الممتعضين والرافضين لـ”قُطّاع الطرق”! يا لبؤسنا وسوء قدرنا وتدبيرنا! تركنا أولادَ الحرام وأصحاب الوجوه الكالحة، في هذا الحزب أو تلك الحركة أو ذاك التيّار، يصرخون بنا شامتين “وينيّي الثوررررة”؟!. نعم. هزمتنا السلطة. هزمت اللبنانيّين المعادين لها. هكذا حصل ويحصل وسيحصل، على الدوام. طالما بإمكان كلّ فرد من مجموعة الـ6 أن يقرع جرس Paflov، فيهرول جمهوره عائداً إلى الحظيرة. يقبّل الأيدي ويطلب السماح عن “مراودته عن نفسه” أمام حلم التغيير. سيبقى يحصل، طالما “مُنظِّرو” التنظيمات والمجموعات المدنيّة المتناسلة، لا يزالون منهمكين بصياغة المسوّدات لمشروعهم السياسي الرهيب للتغيير! لكن، ماذا عن لعبة الدم؟
ثلاثيّتهم أصبحت “عجز- إنكار- مكابرة”. عجزهم وإنكارهم ومكابرتهم ستفضي، حتماً، إلى “عنف- دم- فوضى”. لماذا؟ لأنّه التطوّر البديهي للأمور
لا يصعب على أيّ مراقبٍ يتمتّع بذاكرةٍ جيّدة وبقليلٍ من الفطنة، أن يكتشف خيوط الجريمة التي ترتكبها السلطة اللبنانيّة في هذه الأيّام! جريمة إفقار اللبنانيّين وتجويعهم وتيئيسهم، بعدما فقدت القدرة على تأمين الإنتظام العامّ. يتصرّف حُكّامنا مع الناس، وكأنّهم بهائم. أقصى ما يهمّها، السير إلى حيث يوجد “المَعْلف”! كيف لا، ومهمّة “الطاغية”، كما يقول كارل ماركس، هو أن يجعلك فقيراً. لأنّ الفقر لا يصنع الثورات. الفقر يفضي، فقط، إلى انفجارٍ اجتماعي يسهل لجمه. يُقمَع، بتأمين “العَلَف” وفرض القبول به، وإلاّ كان التلويح بسفك الدماء. سفكه، حصراً، في ما بين الفقراء. وإسم سفك الدماء الفنّي عندنا في لبنان هو الحرب الأهليّة. وماذا بعدئذٍ؟
يصل الجيل الجديد إلى ما وصل إليه جيل أهلهم. أولئك الذين صرخوا بالأمس: “كفى بربّكم! سنقبل بأيّ شيء، لكن أوقفوا شلاّلات الدم والدمار”. ويأمل “أمراء الحرب والسلم” في السلطة، أن يصيح أبناؤهم اليوم مثلهم: “كفى بربّكم! سنقبل بأيّ شيء، لكن إقطعوا الطريق على شلاّلات الدم والدمار”. يا إلهي! من أين ورثنا هذا البؤس؟ كيف سلّطناه على أنفسنا بأنفسنا؟ ثمّ نمنا داخل السعادات الكاذبة قريري العيون؟
تقول المنظِّرة السياسيّة الألمانيّة حنّة آرنت، إنّه “عندما يكذب كلّ الناس عليكم طوال الوقت، لا تكون النتيجة أنّكم ستصدّقون كلّ هذا الكذب! بل، أنّكم لن تصدّقوا بعد الآن شيئاً. إذْ عندما تنتفي لدى شعبٍ ما، بالمطلق، القدرة على التصديق، يمسي عاجزاً عن تكوين رأي وموقف. سيصبح حينئذٍ، مُجرَّداً، ليس من قدرته على الفعل فحسب، إنّما من قدرته على التفكير والحُكم والمقاضاة. ومع هكذا شعب، تستطيع أن تفعل ما تشاء”. لماذا تلوّح السلطة بالدم والحديد والنار؟
لأنّ أركانها حاقدون وناقمون، علينا وعلى بعضهم البعض. وعليه، استبدلوا قواعد اللعبة. وضعوا “ثلاثيّة ذهبيّة” جديدة للمرحلة. ثلاثيّتهم أصبحت “عجز – إنكار – مكابرة”. عجزهم وإنكارهم ومكابرتهم ستفضي، حتماً، إلى “عنف – دم – فوضى”. لماذا؟ لأنّه التطوّر البديهي للأمور. عجزهم عن القيام بأيّ شيء، يدفعهم لإنكار عجزهم. والإنكار يوصل، منطقيّاً، إلى المكابرة على ذلك العجز. والمكابرة هي المدخل المباشر إلى العنف والدم والفوضى. وطبعاً، يمكن تبديل وترتيب العناصر الثلاثة غبّ الطلب. لا يهمّ، فكلّ الطرق توصل إلى الطاحونة.
في السنوات الأخيرة، شكّلت ثلاثيّة “عنف – دم – فوضى” أبرز سمات السينما الأميركيّة. وحُكّامنا، كما تعرفون، يعشقون كلّ ما هو أميركي. وأكثر. يحاولون التشبّه به. فتراهم يستوحون، من سلسلة أفلام The Purge، الفكرة القائلة بغياب دولة القانون (لليلةٍ واحدة) لارتكاب كلّ صنوف القتل والعنف ونشر الدم والفوضى. هكذا، من دون أسباب. وحُكّامنا، للإشارة، طوّروا النسخة الأصليّة لتلك الأفلام. بحيث باتت كلّ الليالي متاحة ومباحة “للتخلّص من الفقراء والمساكين. فهؤلاء أناسٌ لا يستحقّون الحياة، كونهم يشكّلون عبئاً على ميزانيّة الدولة”، كما يعبّر أحد الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة الأميركيّة.
الخوف الجدّي، هو أن تطول المواجهات التي يخوضها رجال مافيا الحُكم في لبنان الذي بات “بفضلهم” بقايا دولة وفُتات وطن. “يمكنك الذهاب إلى مدى بعيد بابتسامة، ويمكنك الذهاب إلى مدى أبعد بكثير بابتسامة ومسدّس..”، يقول آل كابوني أحدُ أشهر رجال العصابات في القرن العشرين
ومن واقع هوليوود إلى واقعنا في لبنان. ها هي رؤية أفلام The Purge تتحقّق، بجعل اللبنانيّين يقتلون بعضهم بعضاً. ومن دون أدنى تدخّل، من الآباء المؤسّسين للحروب اللبنانيّة. هم يعنِّفون ويقتلون بالواسطة. يتركون ناسهم يُفدونهم بالروح والدم، عبر سحل “الآخرين” وقلع عيونهم، إذا أمكن. و”الآخرون”، هم نحن. أعداؤهم. قلناها أكثر من مرّة ولا بأس من التكرار لاستخلاص النتائج. في دولةٍ مثل لبنان “تقوم السلطة على حالة من التنافس الفوضوي لتحصيل الجاه والارتقاء الاجتماعي. لكنّ المغامرة والتسيّب اللّاأخلاقي، هما الشرطان اللذان لا مناص منهما للنجاح. بمعنى، أنّ السلطة هنا تمثّل، نوعاً ما، تقسيماً ضمنيّاً غير مُعلَن لقطاعات النفوذ والأعمال، بغية حماية مصالح الطبقة الحاكمة وتأمينها”. أتعرفون لمَن هذا الاقتباس؟
للمفكّر الإيطالي بينو أرلاكاتشي في تعريفه للنظام المافياوي. في لبنان، يا أصدقاء، نحن محكومون من المافيا. وإذا كان للمافيات “العريقة” منظومة خاصّة تعمل وفق أصول وقواعد وشروط، فإنّ المافيا اللبنانيّة محكومة، تحديداً، بقوانين النهب والسلب. لكنّها تلعب، كغيرها، لعبة الابتزاز والصفقات والتشبيح والتهريب (على أنواعه) وتبييض الأموال وتجارة الممنوعات (على أنواعها). هذه هي طبيعة “نشاطها” في العمل السياسي. لذا، نجد المحلّلين الصحفيّين والسياسيّين وبعض المسؤولين الأوروبيّين، يستصعبون فهْم وتفسير آليّات اشتغال السلطة عندنا. نراهم يحتارون (ولا سيّما الفرنسيّون المساكين) في توصيف سلوك حُكّامنا الذين لا يتقنون إلاّ افتعال الأزمات. هذه موهبة من الربّ، لا بدّ من الإقرار.
ومن مستلزمات السيناريوهات التي يضعونها لإخراج الأزمات، ارتجال الزجليّات. خلاف واختلاف وسجالات و.. جولات من تقاتل أغنامهم في المراعي. حاجزٌ، فحرْقُ دواليب، فصبُّ شتائم تُصحِّي الموتى منذ مئات السنين، فإطلاقُ رشقاتٍ ناريّة، فبياناتٌ، فبياناتٌ مضادّة، فاجتماعٌ طارئ، فاستدعاءٌ لاجتماع على الهواء مباشرةً، فسلامٌ، فكلامٌ، فمصالحةٌ.. ففراق. وهكذا دواليك. عروضٌ مسرحيّة، تدرّ المكاسب الوفيرة في شبابيك التذاكر. والكلّ بات يعرف قواعد ومسارات اشتباكهم، على مطلبٍ من هنا أو “حقٍّ” من هناك. هي ذات القواعد ومسارات الاشتباك التي تحصل بين رجال المافيا، على صفقة كوكايين من هنا أو تهريبة سلاح من هناك. تماماً واللهِ! سلوكٌ مافياوي، يتنزّه بين “المؤسّسات الربحيّة” و”سلك الجريمة” و”الجمعيّات الخيريّة”. لكن للأمانة، مافيا السلطة عندنا ليست نموذجاً مافياويّاً كلاسيكيّاً. كيف؟
تتمايز المافيا اللبنانيّة عن غيرها من المافيات، بأربعة فوارق: الأوّل، السيطرة على الحكم. بحيث لم يسبق لأيّ مافيا أن استولت على مقاليد السلطة في أيّ بلدٍ في العالم؛ الثاني، الجشع اللّامحدود. إذْ إنّ المافيات العريقة، تكتفي، عادةً، بحصّةٍ معيّنة من السلطة، أمّا عندنا فلا اكتفاء أبداً؛ الثالث، إذا كان الصمت هو سمة رجال المافيا، فإنّ الثرثرة هي إحدى سمات المافيا اللبنانيّة؛ الرابع، نقص مريع في الكاريزما لدى عناصرها. فصحيحٌ، أنّ رجال المافيا قتلة ومجرمون، لكنّهم، في الوقت عينه، ساحرون وغامضون. وجاذبيّتهم، جعلت من الأفلام التي تقصّ حكاياهم الأكثر نجاحاً في تاريخ السينما.
كلمة أخيرة. الخوف الجدّي، هو أن تطول المواجهات التي يخوضها رجال مافيا الحُكم في لبنان الذي بات “بفضلهم” بقايا دولة وفُتات وطن. “يمكنك الذهاب إلى مدى بعيد بابتسامة، ويمكنك الذهاب إلى مدى أبعد بكثير بابتسامة ومسدّس..”، يقول آل كابوني أحدُ أشهر رجال العصابات في القرن العشرين. إقتضى اقتلاع العصابات الكابونيّة اللبنانيّة من جذورها، بكلّ الوسائل المشروعة (وغير المشروعة؟).