سنة على فشل “لازار”.. ونجاح خطة إفقار اللبنانيين!

سنة مرت على اعلان لبنان توقفه عن سداد مستحقات سندات "اليوروبوندز". استحال خلالها اقرار خطة لهيكلة الديون وتوزيع الخسائر، كما تعثر التفاوض الإنقاذي مع صندوق النقد الدولي. سنة أخرى تضيع ولبنان يتدحرج الى قاع الفقر المدقع والانقسام السياسي المُهدَّد بفوضى عارمة.

وقع ما كان بالحسبان وبالتفصيل الممل. حوربت الخطة التي وضعتها حكومة حسان دياب بمساعدة شركة “لازار” الاستشارية الدولية، فسقطت وسقطت معها حكومة دياب عملياً منذ ما قبل استقالتها بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020.

كان واضحاً جداً منذ نيل حكومة دياب الثقة في شباط/ فبراير 2020 ان هناك تصفية حساب أرادها البعض انتقامية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

استبعد مصرف لبنان بداية عن المشاركة في اعداد الخطة، وتجلى فوراً تحميله مسؤوليات جسام بشكل فج، فطلب دياب صراحةً إقالة سلامة من موقعه، فانبرت كل القوى السياسية النافذة  لحمايته.. ونجحت!

يأخذ مراقبون على من أعد الخطة الاستخفاف بقوة حاكم مصرف لبنان. قوة مرسخة سياسياً بالدرجة الأولى بدليل التجديد له في 2017 بموافقة كل أقطاب الطوائف، وأولهم رئيس الجمهورية، وأي تنصل الآن لا قيمة له عملياً، كي لا يعتمد المتبرئون  الجدد على ذاكرة الناس القصيرة. فذاكرة التاريخ أكبر منهم جميعاً مهما تبرؤوا من دم الصديق اليوم.

قيل الكثير عن طموحات شخصية مدفوعة بـ”أحقاد” لازاحة حاكم المصرف المركزي سريعاً، واستبداله بشخص من أولئك المستشارين الذين عملوا على الخطة والمدعومين رئاسياً. ومن المآخذ على فريق المستشارين عدم التسلح بالواقعية “الذكية” التي كانت تفترض في المرحلة الأولى، برأي أرباب المناورة على الطريقة اللبنانية، جذب رياض سلامة الى جانب الحكومة ووضعه هو بمواجهة المصارف والدائنين، وبالتالي الاستمرار بدفع السندات (شراء الوقت) مع فتح باب التفاوض مع صندوق النقد وصولاً الى خطة متفق عليها، أو تأجيل التعثر عبر دفع جزء من مستحقات “اليوروبوندز” والتفاوض لتأجيل سندات أخرى، في انتظار حكومة غير حكومة حسان دياب التي لم تحظ بقبول دولي كامل بفعل بروباغندا ممنهجة محلياً وخارجياً راجت بقوة لتوصيفها بأنها “حكومة حزب الله”!

جرى التصويب على الخطة أيضاً من باب تضخيمها للخسائر، وتحميل ثقل الأعباء للبنك المركزي والمصارف وكبار المودعين من دون الدولة، وعدم التفاتها الى الموجودات السيادية الهائلة في مقابل الالتزامات والمطلوبات والخسائر المحدودة. وذهب متضررون الى القول علناً: إنها خطة لافلاس القطاع المصرفي اللبناني ووضع اليد عليه، و”هذه مؤامرة من الصهيونية العالمية لتدمير لبنان من خلال بنيته المصرفية والمالية”!

أصبحت الخطة يتيمة، بعدما ضربت الحكومة من بيت أبيها، وتركت وحيدة تتخبط في معركة غير متكافئة مع حاكم المصرف المركزي المتسلح بالاستقلالية القانونية، والمحمي من أركان السلطة، والماسك بمعظم الملفات المالية والمصرفية  الحساسة، وبالأرقام “السرية”

في المقابل، يدافع المنحازون للخطة عنها بوصفها “المحاولة الجدية الوحيدة، حتى يومنا هذا، لاخراج البلاد من أزمتها الخانقة حد الانفجار”. ميزتها الصادمة، “الاقرار بخسائر الحد الاقصى، وتوزيعها (دفترياً) بعدالة نسبية تحمّل قسطاً وافراً من أعباء الافلاس للبنك المركزي الذي أمعن في سياسات نقدية خاطئة زادت ثروات كبار المودعين ومساهمي المصارف الجشعين الناهشين من لحم الدولة بالفوائد المرتفعة، إضافة الى محاباة المتمولين والمحتكرين وأصحاب الامتيازات المالية الفاقعة”.

تمسك المدافعون بترحيب صندوق النقد بالخطة مبدئياً لفتح مفاوضات معه على أساسها، والانتقال الى نقاش بنود الاصلاحات المالية والاقتصادية المؤجلة منذ 20 سنة على الأقل.

منذ الجولات الأولى لتلك المفاوضات، انطلقت حملة مضادة بقيادة حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف وعدد من النواب ممثلي الأحزاب والتيارات السياسية النافذة، لوأد تلك المحاولة في مهدها قبل إستفحال خطرها وتهديدها جملة مصالح معقدة ومتشابكة، سياسياً ومالياً ومصرفياً.

شنوا حملة على قرار التوقف عن السداد، متجاهلين أن الاستمرار في دفع مليارات تلو أخرى للدائنين “يشكل نزيفاً اضافياً من شرايين الدولة المفلسة”.

يذكر أن قيمة سندات اليوروبوندز الإجمالية مع فوائدها المستحقة كانت نحو 34 مليار دولار بينها 2.5 تستحق خلال العام 2020 بالإضافة إلى الفائدة البالغة 1.882 مليون دولار ليصل الإجمالي المستحق في العام 2020 الى 4.382 مليون دولار).

انصب جام الغضب على المستشارين المعتمدين لاعداد الخطة وقيادة التفاوض وفقها، ووصفوهم باقذع الأوصاف. اشتغل التضليل بكل ادواته مع اغفال متعمد لحقيقة ان المستشار لا يقرر، بل القرار حكومي بتغطية سياسية. وهنا تبين بجلاء ان ظهر حكومة حسان دياب مكشوف على شتى الطعنات، وتبدى تباعاً دور وزراء تكنوقراط ليسوا إلا ممثلين لمصالح مرجعياتهم الطائفية والسياسية.

أصبحت الخطة يتيمة، بعدما ضُربت الحكومة من بيت أبيها، وتركت وحيدة تتخبط في معركة غير متكافئة مع رياض سلامة المتسلح بالاستقلالية القانونية، والمحمي من أركان السلطة، والماسك بمعظم الملفات المالية والمصرفية  الحساسة، وبالأرقام “السرية” المحورية التي يعرف كيف يكيّفها بهذا الاتجاه او ذاك وحده دون سواه، فضلاً عن الحماية الغربية ولا سيما الأميركية له.

لم يعترف سلامة في بداية الأمر بخسائر البنك المركزي المخفية تحت بند “موجودات أخرى” (بقيمة بلغت الآن 55 مليار دولار). واستمر في انكار اخطاء هندسات مالية أجراها في 2016 كبّدت المال العام ستة مليارات دولار. وشجع المصارف على انكار مسؤوليتها عن ركوب مخاطر اقراض الدولة المفلسة، فتنصلت البنوك من أبسط أبجديات العمل الائتماني ومعايير بازل 3 والمعيار المحاسبي الدولي الرقم 9، التي تفرض عليها تحمل الخسائر القائمة والممكنة الوقوع بمؤونات فورية وأخرى تدريجية، والاسراع الى رسملة البنوك بشكل كامل (20 مليار دولار) بأموال طازجة من دون مواربة وهندسات ملتوية لا طائل منها كالمعتمدة حالياً لزيادة الرساميل 20 في المائة على سعر كذبة 1500 ليرة للدولار. كذبة متمادية على أكثر من صعيد هدفها الأول تخفيف خسائر البنوك الى الحد الادنى الممكن.. لكن هيهات!

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": حرب أخرى خاسرة.. يجب وقفها الآن!

في الموازاة، تشكل حلف ضمني تمخض عن لجنة تقصي حقائق برلمانية على رأسها رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان وفي عضويتها ممثلون لسلطة ائتلاف الطوائف برمتها تقريباً. وتوصلت بسحر ساحر الى تخفيض الخسائر(نظرياً)  بنسبة 55 الى 65 في المائة. وأبقت نسبياً عبء الدين العام كما هو تقريباً مع بند سري يحمل الدولة دون غيرها العبء الأكبر من الخسائر، بحيث لا يتحمل مصرف لبنان والمصارف الا الجزء اليسير من تلك الخسائر التي قدّرتها خطة الحكومة بنحو 241 الف مليار ليرة قبل أكثر من سنة بسعر صرف 3500 ليرة للدولار.

سيقول صندوق النقد، وفقاً لمصادر موثوقة، ان البرنامج المبدئي السابق المبني على خطة “لازار” صالح كأرضية للتفاوض، بأرقام كانت الأقرب الى الحقيقة الساطعة في تقارير الصندوق منذ زمن، والقابلة للتعديل قليلاً اليوم أو غداً

بعد سقوط الخطة بالضربة السياسية والمصرفية القاضية، تولى مصرف لبنان دفة توزيع الخسائر على طريقته المحابية لمصالح الطبقة الحاكمة (في السلطة والمعارضة على السواء) إلى جانب حماية مصالح مساهمي المصارف.

ففي مقابل دعم بعض السلع والمواد الأساسية، ترك سلامة سعر صرف الليرة يتدهور في هوة سحيقة حتى فقدت من قيمتها 90 في المائة منذ انطلاق حراك خريف 2019 الى آذار/ مارس الحالي. ومنع المودعين بالدولار من سحب مدخراتهم إلا بالليرة على سعر 3900 ليرة مقابل الدولار وتحميلهم خسارة بين 70 و80 في المائة من القيمة الأصلية للمدخرات.

على هذا النحو، يمعن رياض سلامة بالتعاون مع المصارف وبحماية سياسيين تحويل الخسائر الى صغار الكسبة بالليرة أولاً وصغار المودعين بالدولار ثانياً. اما مصالح “الكبار” فقد حميت نسبياً بعدم إقرار قانون لضبط التحويلات إلى الخارج (كابيتال كونترول) والمماطلة في اجراء تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان والدولة، بالاضافة الى وعد تعويض “الكبار” لاحقاً على حساب أصول الدولة وموجوداتها!

في الاثناء، استمر تهريب الأموال بتغطية نافذين ولمصلحتهم على حساب عموم المودعين الآخرين ما فاقم جزئياً عجز ميزان المدفوعات ليبلغ اكثر منن 10.5 مليارات دولار في 2020 والحبل على الجرار في 2021. وكوفئ تجار ومحتكرون (بحماية سياسية) بنصيب وافر من 8 مليارات دولار صرفت على الدعم حتى تاريخه.

الى جانب تلك الخطة الجهنمية البديلة، يطول الفراغ السياسي ويتجذر إحتدام خلافات أقطاب السلطة. وقد لا يطول الزمن كثيراً حتى يبدأ الدائنون الدوليون بتهديد اطلاق دعاوى قانونية ضد لبنان، وسينتظر الصندوق عند المفترق للقول للبنان: اين برنامجك؟ لا بل سيقول، وفقاً لمصادر موثوقة، ان البرنامج المبدئي السابق المبني على خطة “لازار” صالح كأرضية للتفاوض، بأرقام كانت الأقرب الى الحقيقة الساطعة في تقارير الصندوق منذ زمن، والقابلة للتعديل قليلاً اليوم أو غداً.

خلاف ذلك، فاللبنانيون أمام مفترق خطير: إما يفتقروا صاغرين سنوات وسنوات، أو يثوروا بعشوائية وغوغاء ويتحملوا وزر ثورة مزعومة  قد تنقلب حرباً أهلية في بلد سبق وعاش الحروب والمجاعات والأزمات ولم يتخل شعبه يوماً عن عصبيته المذهبية والطائفية، وقلما تخلى عن زعمائه مهما طغوا وتجبروا!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "نيويورك تايمز": نتنياهو أهمل تحذيرات أمنية قبل 7 أكتوبر