لبنان الحلم الكبير أو الرحيل الكبير!

لكلّ منّا أحلامه. أحلامٌ ربما تكون صغيرة بعين البعض ولكنّها كبيرة جدًا بعين صاحبها. بيت أو شهادة جامعية عليا، أو حتى فرصة عمل تؤمن حياة كريمة. هل نريد أكثر من ذلك؟

نحن الذين قرّرنا أن ننشىء عائلات ونستقر ونعمل في هذا الوطن بعد مشقة طريق أوصلتنا إلى مناصب علميّة أو عمليّة هنا وهناك. نحن الأمهات والآباء صارت تمرّ علينا أيام نتمنى فيها لو أننا لم ننجب أطفالًا في هذه البقعة الملعونة من العالم. الكثيرون منّا قرّروا الرحيل عن هذه البلاد التي لا تنفك كلّ قرن من الزمن تخرج من أرضها أقل بقليل من نصف سكّانها ليبقى النصف الآخر فيعيد إنتاج نفس المجتمع.

لا يختلف اثنان على أنّ ما وصلنا إليه اليوم في لبنان، وما ينتظرنا في الأيام القادمة صعبٌ، وثقيلٌ جدًا، يُشعرك وكأنّ حملًا كبيرًا ليس على ظهرك بل على صدرك، لا تعرف ماذا يجب أن تفعل. هل تتظاهر؟ هل تُقفل شارعًا، هل تصرخ في الطرقات، هل تكسّر واجهة مصرف، هل تحرق إطاراً. هل تحمل سلاحًا؟ تنعدم السّبل يومًا بعد آخر من دون أفق أو بريق ضوء يلوح في نهاية هذا النفق الأسود.

كلّ يوم هناك ما يهدّدك لا في كمالية يمكنك الاستغناء عنها، بل في أساسيات عيشك الكريم. في الكهرباء لتحفظ طعامك، ووقود انتقالك اليومي إلى العمل، أن كنت تعمل، وحتى طعام أو حليب أطفالك لا تستطيع شراءه أو إن إستطعت فلن يكون متواجدًا في الأسواق. تريد تعليم تلامذتك عبر الأونلاين. لا كهرباء ولا مولد ولا إنترنت. تنقطع بك السبل فتجلس وسط دوامة تبدأ ولا تنتهي.

طبعًا انت تسكت عن سرقة وديعتك ولو كانت ألف دولار، أو تشكر المصرف إذا أعطاك الدولارات باللبناني بربع قيمتهم مقارنة بأسعار السوق. أنت تسكت على غياب الرقابة على كل شيء. على إنفلات يشي بأننا لا نعيش في دولة بل في غابة. عصابة حكمتنا وتريد أن تحكمنا إلى الأبد.

برغم كلّ ما مرّ علينا وما يمكن أن يمُر، وسيكون أشد قساوة حتمًا، أريد اليوم التفكير بطريقة مغايرة. قد لا يناسب كلامي الكثيرين من منطلق أنّ أمني وأماني الشخصي فوق كلّ اعتبار، ولا نقاش في هذه الحاجة الانسانية الأساسية، ولكن بلدنا يعاني اليوم، وفوق كلّ ما يعانيه، من نزف غير مسبوق في شبابه المتعلّم، وأعني بمتعلّم كلّ من يجيد حرفة أو صنعة أو مهنة أو حامل شهادة جامعية يعمل بظلّها، لا تهمّ مليارات الدولارات الآن أمام هذه الخسارة، فهؤلاء سيستغرق تعويضهم ربما 100 سنة أخرى، الخبرات المتراكمة عند جيل من الأطباء أو الصيادلة أو الحرفيين لا تُقدر بثمن، وفي لبنان، عادة ما تصبح المهنة أمرًا عائليًا (وراثة)، وهذا ما يضخّم عملية نقل الخبرة بطريقة غير معهودة في بقية دول العالم.

كلّ من يريد الرّحيل هو على حق ولا يمكن الطلب منه أن يبقى في بلد لا يؤمّن له حتى الخبز غدًا ربما ولكن إلى أين وحتى متى ترك هذا الوطن المرمي على قارعة الطريق، من سيعيده ويعيله، هل سيتحوّل في الأيام القادمة إلى مأوى عجزة لأهلنا الذين لا يستطيعون الرحيل، فنأتي كلّ فترة للاطمئنان عنهم او نكتفي بتفقدهم إفتراضيًا؟

لو افترضنا أنّ كلّ من يريد الرّحيل رحل.. لمن تبقى هذه البلاد؟ من يديرها؟ من أين نأتي بأساتذة أكفاء على سبيل المثال لتنشئة كلّ الأجيال القادمة؟ من يداوي جروح الناس ويبلسمها؟ عن أية نوعية إستشفاء وتعليم سنتحدث غدًا؟

أدرك تمامًا أن ما تتضمنه هذه السّطور ليس مقبولًا. أولادنا وإخوتنا يتسابقون على الهجرة وبعض الدول تتسابق على اختطاف أبنائنا وبناتنا الذين تعلّموا وعملوا في هذه البلاد قبل وصولها إلى ما هي عليه الآن.

إن هجرتنا وتركنا هذا الوطن، نعم الوطن، هو بمثابة توقيع على حكم الاعدام النهائي لهذا البلد. كلّ من يريد الرّحيل هو على حق ولا يمكن الطلب منه أن يبقى في بلد لا يؤمّن له حتى الخبز غدًا ربما ولكن إلى أين وحتى متى ترك هذا الوطن المرمي على قارعة الطريق، من سيعيده ويعيله، هل سيتحوّل في الأيام القادمة إلى مأوى عجزة لأهلنا الذين لا يستطيعون الرحيل، فنأتي كلّ فترة للاطمئنان عنهم او نكتفي بتفقدهم إفتراضيًا؟

إذا كّرسنا هذا المنطق، علينا أن نطوي صفحة لبنان. علينا أن نتقبل فكرة أن من هم في الخارج لم يعودوا لبنانيين. من يخرج من المكان دون أن يحاول لا يستحق شرف حمل الاسم والانتماء، كلام قاسٍ أدرك ذلك تمامًا ولكن كيف لي أن أخرج من هذا المكان الذي سميته وطني عند الانكسار، وإن رحلت إلى كندا وانكسرت لأيّ سببٍ من الأسباب.. هل سأرحل أيضًا إلى دولة ثالثة؟

إن كان الأمر كذلك، فهذا الوطن لا يستحق الحياة ولنرحل عنه جميعنا ولنترك هذه الكيلومترات إلى من بلغ بهم الجشع والفجع حد التغول.

إقرأ على موقع 180  ألبير مخيبر وزيراً.. الرجل يصنع الكرسي لا العكس (3)!

أزمتنا تتلخص ربما بأمر بسيط ومعقّد في آن: نحن لا نثق بخيارات بعضنا البعض السّياسية، فالطبقة الموجودة في الحكم اليوم هي صورتنا وصراعاتها صراعاتنا، ومتى تغيّرنا غيّرناها.

لبنان بأمس الحاجة لنا اليوم، النجار والطبيب والمحامي والمهندس والحدّاد والصيدلي والكندرجي والفلاح والأستاذ كلّنا من دون استثناء، فلا تتركوه، قاتلوا لأجله لا عليه، لمرّة واحدة فقط.

الأرض لمن يستحقها، لمن يزرعها وينتج من خلالها ويقيم عليها مصنعًا متواضعًا ويسنّ قانونًا يحمي صناعته، وقد يبني بيتًا أيضًا.

في هذا النصّ آلام إنسان يعمل كلّ يومٍ على شحن آخرين بالمعنويات والصبر ليتمكنوا فقط من إتمام واجباتهم المدرسية، يومًا تلو الآخر، وهذا الشخص نفسه يحاول تجميل أخبار الرحيل الكبير عن هذا الوطن فيخبرهم أنّهم سيعودون وهو يعلم تمامًا أنّ من معظم من خرج في الماضي لم يعد، ومن سيتركنا في الحاضر لن يعود في المستقبل، ومن يقول إلى اللقاء على بوابة المطار يكذب ومن يقول الوداع يصدق القول.

هذا النص تعبير عن آلام شخص. آلام حفّزته لكتابة نص أقرب إلى الخيال ولكنّ كلّ الأوطان عندما قامت كانت في مخيّلة أحدهم، وكذا لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
فؤاد إبراهيم بزي

كاتب متخصص في المواضيع العلمية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  فرنسا وإسرائيل.. لوبي التزوير الإعلامي و"مشيخات الصحف"!