نخضع لما نستخدم ولما نستهلك بحكم الضرورة. للضرورة أحكام، وهي ليست استثنائية في حياتنا اليومية، وغير اليومية، بل وجودنا الحر هو الإستثنائي. لا تستطيع أن تغادر مكانك في بيتك إلى أقرب مكان داخله أو خارجه إذا لم تصطحب الخلوي معك. ولا تستطيع أن تتحمّل أن يغيب عنك أحد من الأحبة إلا بعد أن تتأكد أنه/ أنها في هاتفك الخلوي. وفي الشارع، أو أي مكان عام، ترى الناس، ومعظمهم يلبسون الجينز والتي شيرت، والجيوب ضيقة أو غير موجودة، وكل منهم يضطر أن يحمل الخلوي في إحدى يديه؛ فهذه (اليد) هي بحكم الضرورة معطلة أو مستنفدة في غير ما خصصها التطور البيولوجي له. السياق البيولوجي لليد واستخداماتها على مدى آلاف بل مئات الآف السنين، ينقطع. اليد حاملة الهاتف لم تعد جزءاً من الجسد بل ملحقة بالهاتف الذي كُرست له. الأفدح هو أن كيان الواحد منا، البشري، صار ملحقاً بهذه الآلة الذكية، وذلك بحكم الضرورة المستحدثة.
هذه الآلة تنقل المعلومات بين الواحد منا وبين الآخرين. لكنها في الوقت عينه تنقل المعلومات منا وعنا إلى منصة مركزية؛ وهذه تتجمع لديها المعلومات التي يصار إلى معالجتها بواسطة الخوارزميات (نسبة إلى الخوارزمي) لتكوين “بروفيل” عن كل واحد منا، ثم يصار إلى تصدير ما يناسبنا من معلومات إلينا. ألا تساهم هذه المعلومات-المعرفة في تكوين شخصية المتلقي؟
مهما كان المتلقي، وعلى أي درجة كان من العلم أو الجهل، هو ما (من) يتشكل وعيه، بالأحرى معالم شخصيته بفعل ما يتلقى من “العلم” والمعرفة التي في أساسها معلومات منا وإلينا.
إن تبعية حامل الهاتف لهاتفه هي تبعية بشكل أو بآخر للمنصة المعلوماتية خاصة في النواحي الثقافية، ولا بدّ أن يمتد ذلك بشكل غير مباشر للنواحي السياسية
ولا بدّ من التذكير أنه في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية قبل الأخيرة، باعت شركة معلوماتية لإحدى الحملات الانتخابية معلومات عن عشرات ملايين الأشخاص لقاء مبلغ كبير من المال. وفي كل مكتب انتخابي في كل بلد حول العالم هناك قسم معلوماتي.
طبعاً، في كل هاتف خلوي صفحات كثيرة. بخط صغير لا يكاد يُقرأ، عن سياسة الخصوصية الشخصية وحمايتها. فليحاول أي منا قراءتها، إذا كان له الصبر الكافي، وفكفكة معانيها التي هي أشبه بالألغاز. ما يتعلق بالخصوصية الشخصية (PRIVACY) كله شيفرة لا يفهمها إلا المختصون.
هل يعرف الواحد منا أن شخصيته هي صفحة بيضاء (أو أي لون) يكتب عليها آخرون؛ والأمر هنا لا يتعلّق بالعلم في الصغر كالنقش في الحجر، بل بالنفس في عمر متأخر حتى نهاية الحياة. المسألة هي أن سلطة هذه الكتابة كامنة في مركز أو مراكز من يمتلكون أو يخزنون المعلومات.
تسيطر المنصات الإعلامية (Facebook، Instagram ،Google، الخ..) على المجال الإعلامي وعلى المستهلكين في هذا المجال مهما كان البلد الذي يسكنوه، ومهما كانت مواقفهم السياسية وانحيازاتهم الثقافية. إن تبعية حامل الهاتف لهاتفه هي تبعية بشكل أو بآخر للمنصة المعلوماتية خاصة في النواحي الثقافية، ولا بدّ أن يمتد ذلك بشكل غير مباشر للنواحي السياسية.
لم تعد الامبريالية مجرد احتلال عسكري ولا سيطرة مالية، إذ أن شكلها الأكثر استدامة يتعلق بتشكيل الوعي الذي تساهم فيه تدفقات المعلوماتية من وإلى الفرد، من وإلى بضعة منصات في المركز، أو المراكز الامبريالية.
لقد تولدت حاجات جديدة يتم عبرها، بالأحرى عبر السيطرة عليها، النفاذ إلى نمط سلوك ومعيشة المتلقي الذي يشمل أعداداً كبيرة من البشر في مختلف بلدان العالم. أول ما تسأل عنه وافدة جديدة للخدمة المنزلية هو اشتراك الانترنت وكلمة سر الـ”واي فاي”. ربما ابتاعت هاتفاً خلوياً عتيقاً من أول راتب ضئيل تقبضه، والأرجح أنها لا تستخدم ذلك للإتصال بأهلها في بلدها بل لغير ذلك من التطبيقات، وهي كثيرة.
يرتبط العالم بعضه ببعض، وذلك بشكل غير مسبوق، والعلاقات الدولية هي بين الدول لكنها أيضاً شبكات نقل للمعلومات، ولتشكيل الوعي كذلك، وهذه الشبكات ربما لها أثر يفوق ما تقرره الحكومات في ما بينها على صعيد تشكيل السياسة والتجارة؛ وتمارس الامبراطورية العظمى دورها في الهيمنة ليس عبر القوة العسكرية وسيطرة الدولار وحسب، ولا حتى عبر علاقات الأجهزة الحكومية الرسمية بل أيضاً عبر منصات المعلوماتية التي تبدو وكأنها مجرد شركات يملكها من هم مستقلون عن الدولة الأم. والحديث عن القطاع العام والقطاع الخاص، وما يفصل بينهما يبدو كلاماً دعائياً. فالقطاع الخاص لا بد له من حماية دولته، والدولة عموماً يسيطر عليها القطاع الخاص. والسؤال هو هل يمكن أن تكون شبكة المعلوماتية في تدفقاتها، تدفقات الوعي، بنية تحتية لما يُسمى العلاقات الدولية كبنية فوقية؟ ربما لم يكن هذا التعبير موفقاً أو مناسباً، لكن توارد الأفكار والتشبيهات لا بد منه.