إستهل وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف جولته لدول الخليج العربية، فى 9 آذار/ مارس الماضى بالإمارات العربية ثم الرياض فالدوحة، التى كان قد سبقه إليها وزير خارجية تركيا، الذى اجتمع به لافروف هناك وصدر بيان مشترك عن وزراء خارجية الدول الثلاث روسيا قطر وتركيا تعلق أساسا بالأزمة السورية والتعاون فيما بين هذه الدول لتعزيز تسوية سياسية دائمة لها.
وفى كل من أبو ظبى والرياض استُقبل لافروف من قبل ولى العهد فى البلدين، وتناولت مباحثاته أجندة واسعة من قضايا التعاون السياسى والاقتصادى ومتابعة ما تم الاتفاق عليه خلال زيارة الرئيس بوتين لأبو ظبى فى يونيو 2018 وللرياض فى أكتوبر 2019، خاصة فيما يتعلق بأمن الخليج ارتباطا بمبادرة روسية فى هذا الشأن طرحت عام 2018 وملفات سوريا وليبيا واليمن والملف الإسرائيلى/ الفلسطينى. وبعيد جولة لافروف أجرى «وانج يى» وزير الخارجية الصينى جولة شملت ست دول فى المنطقة استغرقت أسبوعا (24 ــ 30 مارس الماضى) شملت، على التوالى، السعودية وتركيا وإيران والبحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. وقد وقع الوزير الصينى خلال توقفه فى طهران اتفاقا استراتيجيا لمدة 25 عاما وفق صيغة تبلورت خلال زيارة الرئيس الصينى لإيران عام 2016، بهدف مضاعفة حجم التجارة بين البلدين بنحو عشرة أضعاف، بحيث تصل إلى 600 مليار دولار خلال عشر سنوات.
ويعطى الاتفاق الأفضلية للصين للاستثمار فى إيران فى مجالات البنية التحتية والمصارف وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما نوقشت مسألة إجراء تدريبات عسكرية وتعاون مشترك فى مجال الصناعات العسكرية، وستزود إيران الصين بموجب الاتفاق بكميات كبيرة من النفط والغاز بأسعار مخفضة وبانتظام. ووفقا لتصريحاته فى ختام الجولة، ذكر الوزير أنه توصل إلى توافق واسع حول قضايا عديدة مع قادة الدول الست التى رحبت جميعها بقيام الصين بدور أكبر فى شئون الشرق الأوسط، كما اتفقت الصين وهذه الدول على ضرورة احترام الاستقلال والسيادة والكرامة الوطنية لجميع الدول، وتعزيز سبل التنمية المستقلة والمتنوعة.
إن هذا الظهور الروسى والصينى فى المنطقة، وفى هذا التوقيت بالذات، يمثل أهمية استراتيجية قصوى للبلدين، حيث يسعيان من خلال هذه التحركات إلى ترسيخ وضعيتهما كقوتين كبيرتين فى أذهان شعوب دول المنطقة فى وقت تركز فيه إدارة بايدن على مشاكل الداخل
وكشف وانج خلال زيارته للرياض عن مبادرة من خمس نقاط لتحقيق الأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط، تدعو إلى الاحترام المتبادل، ودعم العدالة والانصاف، ومنع الانتشار النووى، وتعزيز الأمن الجماعى المشترك، وتسريع التعاون الإنمائى. وبجانب التأكيد على الدعم الكامل لحل الدولتين، أشار الوزير إلى عقد منتدى التعاون العربى الصينى خلال عام 2021 بدعوة من الأمين العام لجامعة الدول العربية، والتزام الصين بالتعاون مع دول الشرق الأوسط لمكافحة وباء كوفيدــ19 وإتاحة اللقاحات الخاصة به للجميع.
وأعرب وانج عن تقديره لقيام العديد من الدول النامية، بما فيها 21 دولة عربية، بالتعبير عن تضامنها مع الصين خلال الدورة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف، مؤكدا أن الدول الست التى زارها تعلق أملا كبيرا على التعاون العملى المستقبلى مع الصين وتبادل الخبرات معها حول الحوكمة، موضحا أن جميع هذه الدول أعربت عن رغبتها القوية فى ربط استراتيجياتها التنموية بمبادرة الحزام والطريق الصينية للاستفادة من الفرص التى تتيحها جهود الصين لخلق نموذج للتنمية وابتكار نماذج استثمارية وتوسيع نطاق المبادلات التجارية بالعملات الثنائية.
***
من حيث التوقيت جاءت الجولتان بعد نحو شهرين من بدء ولاية بايدن ومساعيه الحثيثة لحشد دعم الحلفاء والشركاء فى تنافسه مع البلدين، والتصعيد الكلامى الذى جرى بين بايدن وبوتين، وقبل ذلك بدء إدارة بايدن خطواتها الأولى باستئناف فرض عقوبات على 7 شخصيات من الأمن الروسى ارتباطا بتسميم المعارض ناڤالنى. أما بالنسبة للصين، فقد جاءت جولة «وانج» فى أعقاب اجتماع متوتر مع وفد برئاسة نظيرة الأمريكى بلينكن ومعه جاك سوليفان مستشار الأمن القومى الأمريكى فى الاسكا، بدت فيه الإدارة متمسكة بالمسار المتشدد الذى انتهجته واشنطن منذ الإدارة السابقة، والنظر إلى الصين باعتبارها الخصم الاستراتيجى الرئيسى الذى يجب احتواء طموحاته ونفوذه الدولى. وكانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وكندا وبريطانيا قد فرضت جزاءات أخيرا ضد الصين بسبب انتهاكات مدعى بارتكابها ضد أقلية اليوجور، وهو ما دعا بكين إلى فرض عقوبات مماثلة ضد مسئولى الاتحاد الأوروبى.
وتعكس جولة الوزيرين، وخاصة الوزير الصينى وما أثاره من قضايا وما تحدث بشأنه من تفاهمات مع الدول التى زارها، أن القيادة الصينية لم تعد تكترث بالانتقادات الغربية لسلوكها على خلاف ما كان عليه الحال فى الماضى، وأنها ماضية بثبات نحو تحقيق هدفها المتمثل فى التكافؤ فى القوة وفى القيادة مع الولايات المتحدة.
***
الواقع أن اهتمام روسيا والصين بالشرق الأوسط تحكمه اعتبارات جيوسياسية واقتصادية تتشابه بشأنها محددات السياسة الخارجية للدولتين تجاه المنطقة سواء كانت مكافحة الإرهاب والتطرف الدينى أو الفرص الاقتصادية والتجارية الواسعة التى توفرها المنطقة للبلدين (الصين اليوم هى الشريك التجارى الأكبر للعرب)، لا سيما فيما يتعلق باهتمامها الخاص بتطوير وترسيخ مبادرتها العالمية المعروفة بالحزام والطريق.
إن هذا الظهور الروسى والصينى فى المنطقة، وفى هذا التوقيت بالذات، يمثل أهمية استراتيجية قصوى للبلدين، حيث يسعيان من خلال هذه التحركات إلى ترسيخ وضعيتهما كقوتين كبيرتين فى أذهان شعوب دول المنطقة فى وقت تركز فيه إدارة بايدن على مشاكل الداخل وحالة الاستقطاب التى خلفتها سنوات حكم ترامب، وتبدو الإدارة فى حيرة من أمرها إزاء هذا التحدى الكبير الذى تمثله الصين والمتمثل فى كيفية إعادة صياغة العلاقات المتدهورة معها، بحيث يمكن تعزيز المصالح الأمريكية مع ثانى أكبر اقتصاد والقوة التجارية الأولى عالميا، دون أن يتحول الأمر إلى صدام مباشر بين البلدين.
بالنسبة للصين، تظل منطقة آسيا والمحيط الهادى ساحة التنافس الرئيسية مع واشنطن، ومن غير المنتظر أن تشهد سياستها الخارجية فى منطقتنا تحولات تذكر، خارج إطار أولوياتها الاقتصادية والتجارية، رغم مبادراتها السياسية من حين لأخر
من ناحية أخرى، من الواضح أن الرئيس بايدن، مثل سابقيه أوباما وترامب، يعتزم المضى قدما فى تخفيف الأعباء المالية والبشرية التى تتكبدها الولايات المتحدة بسبب انخراطها فى الشرق الأوسط التى تراجعت أهميتها الاستراتيجية فى سياق عملية إعادة التقييم التى جرت على الاستراتيجية العالمية الشاملة للولايات المتحدة، خاصة مع هذا الصعود الصينى. وفى هذا الصدد، ووفقا لتقديرات عديدة، أمريكية وغيرها، لم يحدد بايدن بعد استراتيجية متماسكة إزاء المنطقة وبدلا من ذلك آثرت الإدارة تناول بعض الملفات السهلة وغير المكلفة مثل وقف الدعم الأمريكى للحرب فى اليمن والكشف عن تقرير المخابرات المركزية حول المسئولية عن مقتل خاشقجى. أما بالنسبة لقضايا ملحة تمس أمن واستقرار الإقليم، مثل الملف النووى الإيرانى أو الدور التركى التخريبى فى شرق المتوسط ونشاطها الخارجى والعسكرى فى جوارها الأوسع فى كل من سوريا وليبيا والعراق، بجانب منظومة الدفاع الصاروخى Sــ400، فقد تركت إدارة بايدن هذه الملفات لحلفائها الأوروبيين المنقسمين على أنفسهم أصلا، مكتفية بالإعراب عن قلقها أحيانا والتلويح بالعقوبات أحيانا أخرى.
***
تبدو الإدارة الأمريكية أسيرة لـ«كليشيه» حقوق الإنسان والديمقراطية دون أن تدرك عمق ما حدث من تغييرات إقليمية ودولية، وحقيقة أن العديد من الدول، وعلى رأسها مصر، تبنت منذ الولاية الثانية لأوباما سياسة تنويع الخيارات فى توجهاتها الخارجية لحماية مصالحها العليا وأمنها القومى بأبعاده المختلفة فى منطقة تتحمل فيها السياسة الخارجية الأمريكية منذ عقود – على الأقل جزئيا ــ مسئولية ما آلت إليه الأوضاع من فوضى وعدم استقرار. كذلك يظل الانحياز الأعمى لإسرائيل بعنصريتها البغيضة وسياساتها الاستعمارية المتواصلة وصمتها المطلق عن هذه السياسات والإصرار على تلقين الآخرين الدروس حول «القيم الأمريكية» وحقوق الإنسان، بمثابة نقطة ضعف خطيرة تتآكل معها أى مصداقية فى نوايا واشنطن تجاه شعوب المنطقة.
ومع ذلك من غير المرجح أن تكون التحركات الأخيرة فى المنطقة تستهدف ملأ فراغ ما تركه الأمريكيون. فالمنطقة ليست ساحة تنافس بين واشنطن وكل من موسكو وبكين، على الأقل فى الوقت الحالى. فالروس يتفادون الصدام مع الولايات المتحدة طالما لم يتعلق الأمر بجوارهم المباشر ويؤكدون دائما أنه لا بديل عن الجهود الجماعية لحل مشكلات الإقليم ويتبنون مقاربة عملية فى سياستهم الخارجية فى المنطقة دون تكلفة أو أعباء.
أما بالنسبة للصين، تظل منطقة آسيا والمحيط الهادى ساحة التنافس الرئيسية مع واشنطن، ومن غير المنتظر أن تشهد سياستها الخارجية فى منطقتنا تحولات تذكر، خارج إطار أولوياتها الاقتصادية والتجارية، رغم مبادراتها السياسية من حين لأخر. وقد تكون جولة الوزير الصينى فى المنطقة بمثابة رد على التحركات الأمريكية فى جوار الصين القريب لاسيما زيارة وزيرى الخارجية والدفاع لكل من اليابان وكوريا الجنوبية وهى أول رحلة خارجية لهما.
وكما هو الحال بالنسبة لروسيا، تتبنى الصين سياسة واقعية إزاء دول المنطقة والسعى للاحتفاظ بتوازن فى علاقاتها بكل من إيران والسعودية والعرب وإسرائيل، وذلك على أمل الفوز بالمكاسب الاقتصادية لعلاقاتها بالجميع. ومن الناحية السياسية تبدو الصين راضية بترك روسيا تلعب الدور الرائد فى أزمات الشرق الأوسط، داعمة الموقف الروسى مقابل دعم الروس لموقف الصين فى منطقة آسيا والمحيط الهادى.
وأخيرا ورغم ما قدمته من دعم للعديد من دول العالم لمعاونتها على مواجهة وباء كوفيدــ19، وإخفاق إدارة ترامب فى إدارة أزمة الوباء بالكفاءة المطلوبة وعزوفها عن ممارسة دور قيادى فى هذا الشأن، ولم تدع الصين فى أى وقت لنفسها دور زعيم العالم، حيث مازالت متمسكة بشدة بانتمائها للدول النامية، كما ترى أن النظام الدولى الحالى، فى مجمله، يحقق مصالحها بل ولا تنكر أنها مدينة بتقدمها الاقتصادى والتجارى الهائل للبيئة التى وفرها هذا النظام رغم تحفظاتها على بعض جوانبه.
(*) بالتزامن مع “الشروق“