يأتي وزير خارجية فرنسا إلى لبنان، في ظل تقديرات بأن سياسة العصا والجزرة الفرنسية لن تكون قادرة على كسر ستاتيكو الأزمة الحكومية اللبنانية المفتوحة على مصراعيها منذ تسعة أشهر تقريبًا.
وبرغم مرور حوالي الأسبوعين على زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي دايفيد هيل الى بيروت، التي التقى فيها عمليًا معظم الأطياف اللبنانية (بإستثناء حزب الله)، وتتبع خلالها اخبار الرئيس السوري بشار الأسد عبر عدد من حلفائه الذين تجمعهم صداقة قديمة بهيل، فإنها ما زالت تخضع للتقييم والتمحيص. فقد استطاع الرجل، المفوض من وزير الخارجية أنتوني بلينكن ان يحرز تقدمًا في ملف الترسيم البحري الذي يحتل أولوية لدى الإدارة الأميركية لتداخله مع جيوبوليتيك المنطقة كلها. كان هيل واضحًا جدًا في ترتيب اولويات ادارة جو بايدن: معالجات تداعيات وباء كورونا في الداخل الأميركي، محاولة تحفيز وتفعيل الإقتصاد الأميركي المنهك، تحدي العلاقة مع الصين، ترتيب اوضاع الناتو والحلفاء عبر محيطات الهندي والهادئ والأطلسي، والإتفاق النووي مع ايران.
لبنان يأتي في آخر مندرجات الإتفاق النووي، غير ان اتفاقًا كهذا، يحتاج لاقناع حلفاء اميركا في المنطقة الذين ساهموا في عرقلة تنفيذه وصولًا الى الغائه من قبل ادارة دونالد ترامب عام ٢٠١٨، وهم على التوالي: اسرائيل ودول الخليج العربي وفي مقدمهم السعودية ثم الإمارات.
من هنا، سعى الأميركي إلى فتح قنوات متعددة، بمساهمة روسية، كما حصل في سوريا من خلال فتح قنوات خلفية سورية ـ اسرائيلية، ومن خلال فتح قناة بغداد للحوار بين السعودية وإيران بحضور خليجي متعدد أحيانًا ما حدا بولي العهد محمد بن سلمان للقول خلال مقابلة تلفزيونية، الثلاثاء الماضي، إن “إيران دولة جارة وكل ما نطمح له أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها، لا نريد وضع إيران أن يكون صعباً بالعكس”. وأضاف: “لدينا مصلحة في استقرار إيران، ولكن الإشكال في التصرفات السلبية لطهران في برنامجها النووي، وبرنامج صواريخها البالستية، ودعمها لمليشيات خارجية”. وتابع: “نعمل لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات، وأن تكون العلاقة طيبة وقوية وفيها منفعة للجميع”.
كان جلياً لكل من التقى هيل ان تأليف الحكومة ليس بمتناول اليد وليس قريباً وهو ليس حتى على الطاولة، لكنه، وبعد لقائه رئيس الجمهورية أعطى انطباعاً بالراحة لقدرته على إقناع عون بعدم فائدة توقيع مرسوم الحدود البحرية
الرد الإيراني لم يحتج اكثر من ٤٨ ساعة اذ صرح المتحدث بإسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده بالقول: “ترحب إيران بتغيير لهجة المملكة العربية السعودية تجاه إيران الإسلامية، وكانت إيران رائدة في مسار التعاون الإقليمي من خلال تقديم مقترحات وخطط للحوار والتعاون في منطقة الخليج الفارسي، بما في ذلك “مبادرة هرمز للسلام”. واضاف “من خلال وجهات النظر البناءة والنهج القائم على الحوار، يمكن لهاتين الدولتين المهمتين في المنطقة والعالم الإسلامي الدخول في فصل جديد من التعاون والحوار لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية الإقليمية من خلال التغلب على الخلافات”.
اما على المسار الإسرائيلي، فقد التقى مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، الثلاثاء أيضًا، نظيره الإسرائيلي، مئير بن شبات، في مقر السفارة الإسرائيلية في واشنطن، واتفق الطرفان على “تحييد الخلافات بشأن العودة الأميركية المرتقبة إلى الاتفاق النووي مع إيران، بحسب ما ذكر تقرير إسرائيلي، مساء الأربعاء، والتركيز على المسائل التوافقية بين الجانبين؛ وذلك في ظل قناعة إسرائيلية بأن العودة الأميركية إلى الاتفاق الموقع عام 2015، “باتت مسألة وقت لا أكثر”، بحسب ما نقل المراسل السياسي لموقع “واللا”، باراك رافيد، عن مسؤولين إسرائيليين.
وأوردت “رويترز” ليل الخميس الجمعة الماضي ان اجتماعًا عقد في واشنطن بين وزير خارجية اميركا توني بلينكن وفريقه مع مدير “الموساد” يوسي كوهين والسفير الإسرائيلي جلعاد اردان، عبر فيه الوفد الإسرائيلي عن عميق قلقه من العودة للإتفاق النووي مع ايران دون ان تورد الوكالة رد الوزير الأميركي او تعليقه.
اذن، محاولات لفتح قنوات بين دمشق وتل أبيب، وقناة في بغداد للتفاوض الخليجي الإيراني ومحادثات اسرائيلية اميركية في واشنطن وعودة لبنانية وإسرائيلية إلى مفاوضات ترسيح الحدود البحرية في الناقورة خلال أيام قليلة.
لقد كان جلياً لكل من التقى هيل ان تأليف الحكومة ليس بمتناول اليد وليس قريباً وهو ليس حتى على الطاولة، لكنه، وبعد لقائه رئيس الجمهورية أعطى انطباعاً بالراحة لقدرته على إقناع عون بعدم فائدة توقيع مرسوم الحدود البحرية. ولم يخفِ هيل قناعته ان إنقاذ الإقتصاد اللبناني يمر عبر الترسيم والبدء بأعمال التنقيب عن الثروة النفطية والغازية التي قد تكون الى جانب عناصر اخرى وسيلة انقاذ للبنان.
وكانت المفاوضات قد انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٠ عبر جولات أربع وتوقفت في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني غداة تقديم لبنان طرحًا جديدًا حول حدوده البحرية معتمدًا الخط ٢٩ بدل ٢٣ كخط وسط للمنطقة الإقتصادية الخالصة (اللبنانية)، وهو طرحٌ يتوافق بالتأكيد مع القانون الدولي، لأن الفريق العسكري المفاوض ووسام شباط والقانوني نجيب مسيحي، ادركوا انهم يقفون على ارض قانونية شديدة الصلابة “للتفاوض”، ما دفع الأميركيين لإرسال هيل لدعوة لبنان الى الإستفادة من الفرصة التي قد تطيح بخط فريدريك هوف وتزيد حصة لبنان لتتجاوز الخط ٢٣ ربما او تبلغه بالكامل، خاصة وأن الإسرائيلي، يرغب بإستثمار حقل كاريش بأسرع وقت؛ اما المطالبة اللبنانية بالخط ٢٩ فتطيح بعملية الإستخراج الى حين.
كل “عدة الشغل” التفاوضية في المنطقة باتت تسير بالتوازي، من فيينا الى بغداد مع ايران، فالتفاوض البحري مع لبنان والتفاوض مع سوريا
وليس عبثاً ان يكتب دايفيد إغناثيوس يوم الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل افتتاحية في الواشنطن بوست بعد ١٠٠ يوم من عهد بايدن جاء فيها ما حرفيته:”لمَ لا تبدأ (الإدارة الأميركية) بتفعيل سياستها الخارجية من لبنان عبر استثمار ضخم لإعادة بناء جيش قوي بما يمكّنه من تقليص نفوذ “حزب الله” أخيراً؟”، وأضاف “يُقال إنّ قطر أبدت استعدادها لإنقاذ النظام المالي اللبناني؛ ويمكن لحكومة جديدة، بإصرار الولايات المتحدة، أن تبدأ بمعالجة الفساد؛ ويمكن للجيش المموّل والمدرّب أميركياً أن يعيد بسط السيادة تدريجياً”.
وليس عبثًا ان يكتب السفير الأميركي السابق الى المغرب، ورئيس منظمة “تاسك فورس فور ليبانون” american task force for lebanon في صحيفة ذي هيل ادوارد غابريل في السابع والعشرين من نيسان/ أبريل مقالًا يطالب فيه ادارة بايدن بأمور ثلاثة:
الأول؛ أن تضع الولايات المتحدة بالتعاون مع فرنسا وغيرها، خطوطًا عريضة لخطة تعافي تطمئن اللبنانيين الى اهتمام العالم بهم واستعداده لمساعدتهم عبر صندوق النقد الدولي وكل الأدوات العالمية المتاحة لخطة تشكيل حكومة فعالة.
الثاني؛ العمل على اطلاق منصة تتولى المساعدات الإنسانية من صحية وطبية وغذائية ومالية للفئات الأكثر حاجة في لبنان من دون الإستعانة بالحكومة اللبنانية وكياناتها، اذا ليس من مصلحة اميركا وفرنسا وحلفائهم ان تفشل هذه الدولة في شرق المتوسط وأن تنهار لتسقط بالكامل بيد حزب الله الذي اطلق اليات لدعم الموالين لخطه حصرًا في الوقت الذي يترك فيه الموالون للغرب إلى مصائرهم.
الثالث، ضرورة دعم القوات المسلحة اللبنانية، المؤسسة الوحيدة الصامدة في لبنان، والتي تشكل حليفًا استراتيجيًا، بل احد افضل الشركاء، بحسب وصف وزارة الدفاع الأميركية، وفي الوقت الذي يسيطر فيه حزب الله على الحدود الجنوبية يصبح دعم الجيش ضرورة ليتمكن من الحضور على كل الحدود.
واعتبر ادوارد غابريل أخيرًا ان ليس هناك اي فرصة للتوصل الى حلول تضمن الشفافية والمساءلة والمحاسبة ووضع حد للفساد المستشري مع النخبة السياسية الحالية وان السبيل الوحيد للتغير هو عبر الإنتخابات النيابية المقبلة في ايار/مايو ٢٠٢٢ والتي على الولايات المتحدة ان تصر على اجرائها في موعدها.
كل “عدة الشغل” التفاوضية في المنطقة باتت تسير بالتوازي، من فيينا الى بغداد مع ايران، فالتفاوض البحري مع لبنان والتفاوض مع سوريا.
مائة يوم مضت من الولاية البايدنية وباتت تلوح بشكل واضح بقعة ضوء في آخر نفقنا اللبناني. قد يطول الإنتظار وقد يقصر، بحسب المسارات الأخرى والتوصل الى نتائج مرضية لكل الأطراف وعنوانها: العودة الى الإتفاق النووي المقر عام ٢٠١٥ بكل مندرجاته. بعدها نرى اي حكومة قد تتشكل واي اصلاح قد يحصل واي دعم دولي قد يخصص للبنان. وحتى ذلك الحين موسم التقهقر والتراجع والفقر والتحلل مستمر لكن مع ضوء في آخر النفق ربما.