نموذج أفغانستان.. هكذا يُوزع “العم سام” الأرباح والخسائر!

ليس من الصواب أن نقارب انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان على أنه فشل ذريع مُنيت به الإدارة الأميركية، وليس من الصواب أيضاً، أن ننظر للولايات المتحدة على أنها الدولة القادرة على فعل أي شيء، فثمة منزلة بين الإثنتين، وإن كانت الكفّة، طبعاً، تميل أكثر نحو الإخفاق.

القرار الأميركي القاضي بالانسحاب من أفغانستان مُتخذٌ عام 2010، أي في زمن الولاية الأولى للرئيس الأميركي الديموقراطي باراك أوباما، وباشر الأخير بتنفيذه جزئياً حيث كان مقرراً الانتهاء منه عام 2014، طبقاً لاتفاقية أبرمها مع الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي، لكن ظروفاً دولية وإقليمية حالت دون ذلك، إلى أن تولّى خلفه، الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، خوض مفاوضات مع حركة “طالبان”، برعاية قطرية، مهّدت للانسحاب النهائي دون الإبقاء على قواعد عسكرية للولايات المتحدة في أفغانستان كما كان مقرراً وفق اتفاقية أوباما – كرزاي، وصودف أن حصل الانسحاب في بداية عهد الرئيس الديمقراطي الجديد جو بايدن، وإلا فإن الانسحاب كان سيحصل حكماً مع الرئيس ترامب لو قُدر له الفوز بولاية ثانية، وربما بنفس الوتيرة والسرعة أيضاً.

يُستشفُ من ذلك، أن قرار الانسحاب من أفغانستان هو قرار الدولة العميقة في الولايات المتحدة، بمختلف مؤسساتها، وبتوافق الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) اللذين يتناوبان على حكم الولايات المتحدة. وكما كان غزو أميركا  لأفغانستان عام 2001 رداً على استهداف برجيْ مركز التجارة العالمي وأحد أجنحة مبنى وزارة الدفاع في واشنطن، مُجمع عليه أميركياً، بصرف النظر عن الإدارة المنفذة، كذلك بالنسبة إلى قرار الانسحاب. والخلاف في الحالتين فقط محصور بالكيفية والمواقيت والآليات.

ومن السذاجة الاعتقاد بأن الأميركيين قد أخطأوا في تقدير مدى قدرة القوات الأفغانية على الصمود بوجه حركة “طالبان”، ومن السذاجة أيضاً الاعتقاد بأن التقدير السياسي الأميركي لم يكن على دراية ومعرفة بأن الدولة التي عُمل على تأسيسها وأُنفق على مؤسساتها وتدريب وتجهيز قواها الأمنية والعسكرية تريليونات الدولارات في العشرين السنة الماضية، ليس بمقدورها الصمود بُعيد الانسحاب.

فالإدارة الأمريكية التي قررت سحب جنودها من أفغانستان عام 2010، وقبلها من العراق، كان الاتفاق على أن تبقى القواعد العسكرية الرئيسية قائمة لمساندة الدولة الأفغانية، لا سيما قاعدة باغرام الجوية المترامية الأطراف والواقعة شمال كابول، والتي تعد أحد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان، لكن بعد أن تعثّر الانسحاب الذي كان مقرراً الانتهاء منه عام 2014 كما أسلفنا، إنتقلت الإدارة الأميركية إلى الخطة “ب” والقاضية بتسليم البلد بأمه وأبيه إلى حركة “طالبان”، مقابل قدر كبير من البراغماتية يُميّز الأخيرة عن الحركات الإسلامية المتطرفة ولا سيما لجهة إبعاد ما يسمى “خطر الإرهاب” عن الولايات المتحدة والدول الغربية وحصر مخاطرها داخل أفغانستان ومحيطها، على قاعدة مقارعة “العدو القريب” والامتناع عن استهداف “العدو البعيد”، أي أن المطلوب من “طالبان” أن تكون شريكة في الحرب ضد المجموعات المتطرفة، مثل “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” ـ ولاية خراسان لا أن تجعل أفغانستان منطلقاً لإعادة إنفجار حالات إسلامية متطرفة، لا سيما في وسط أسيا.

أحالت أميركا أفغانستان بانسحابها الكامل والسريع منها إلى قنبلة موقوتة، إذا ما انفجرت سوف تُشعل الداخل الأفغاني وتتشظى منه إلى دول الجوار كافة، وبالتالي تكون أميركا قد شغلت أعدائها في عقر دارهم بعد حملها عنهم كرة النار طيلة عقدين من الزمن.. إنها الدولة الأعظم التي تربح وحدها ويستحيل أن تخسر دون أن تجعل لخسارتها شركاء

بمعنى آخر، أن تكون حركة “طالبان” محكومة بادارة السلطة في أفغانستان والتعاطي مع دول الجوار بأنها دول لها سيادتها بخلاف قاعدة الإمارة الإسلامية أو الولاية كما كان الحال في دولة “طالبان” الأولى (1996-2001)، على أن يجري الاعتراف بها من مختلف دول العالم وفي مقدمهم الولايات المتحدة ودول الغرب، بخلاف ما كان عليه الحال في دولة “طالبان” الأولى التي اقتصر الاعتراف بها آنذاك على ثلاث دول؛ السعودية، الإمارات وباكستان.

 وبطبيعة الحال، إذا كانت إيران (عدو أميركا اللدود) قد حيّدت نفسها عن الصدام مع حركة “طالبان” وحبكت معها اتفاقات أو ما يُشبه “ربط النزاع”، إلا أن إحتمالات أن لا تكون بمنأى عن خطر “داعش” و”القاعدة” وحتى “طالبان” إذا نكثت بعهودها لجهة عدم التعرض لدول الجوار ومن ضمنهم إيران، هي إحتمالات قائمة، برغم التقديرات الإيرانية المتفائلة القائلة إن التعاون بين كابول وطهران ضرورة حتمية محكومة بعوامل التاريخ والجغرافيا والأعراق والقبائل والأديان إلخ.. ولا تتوقف إيجابيات علاقة حسن الجوار والتنسيق بين البلدين عليهما وحسب، بل ثمة مصلحة أوروبية في ضبط الحدود الأفغانية الإيرانية التي تشكل إحدى أبرز بوابات عبور المخدرات واللاجئين الأفغان إلى البلدان الأوروبية.

ماذا عن روسيا والصين؟

الأولى، صاحبة نفوذ في أسيا الوسطى، سوف تواجه خطراً مُضاعفاً، سواء من الجماعات المتطرفة التي قد تنقل الإرهاب إلى مناطق نفوذها، أو من دولة “طالبان” التي سوف تشكل “نموذجاً” يحتذى به لإسلاميي أسيا الوسطى، فضلا عن تداخل مطالب الأقليات هنا والأكثريات هناك (نموذج طاجكستان وأوزبكستان)، وهذا ما يُفسر تعزيز روسيا قواعدها العسكرية في البلدين المذكورين وتنفيذ مناورات عسكرية بمحاذاة الحدود الأفغانية، ورفض رئيسها فلاديمير بوتين طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن في القمة التي جمعتهما في حزيران/ يونيو الماضي في جنيف، لناحية نشر قوات أميركية في أسيا الوسطى للتصدي لأي “تهديدات إرهابية” محتملة في المنطقة بعد الانسحاب من أفغانستان.

إقرأ على موقع 180  تحديات أوروبا الخارجية.. إخفاقات بالجملة (1)

أما الثانية، أي الصين، التي تشترك مع أفغانستان بحدود جبلية نائية يصل طولها إلى 76 كلم، فتسعى لترتيب علاقتها مع “طالبان” ببعدها الاقتصادي أولاً، كما حال علاقات الصين مع دول العالم كافة، لكنها لن تكون بمأمن من تداعيات الانسحاب الأميركي، لا سيما إذا قرر نظام “طالبان” دعم الجماعات المتطرفة من الإيغور في إقليم شينجيانغ، شمال غربي الصين.

في المحصلة، أحالت أميركا أفغانستان بانسحابها الكامل والسريع منها إلى قنبلة موقوتة، إذا ما انفجرت سوف تُشعل الداخل الأفغاني وتتشظى منه إلى دول الجوار كافة، وبالتالي تكون أميركا قد شغلت أعدائها في عقر دارهم بعد حملها عنهم كرة النار طيلة عقدين من الزمن.. إنها الدولة الأعظم التي تربح وحدها ويستحيل أن تخسر دون أن تجعل لخسارتها شركاء.. والنموذج الأفغاني خير دليل.

لقد أعادتنا صور تعلق الأفغان الهاربين بعجلات طائرات الإجلاء في مطار كابول، بالذاكرة 37 سنة إلى الوراء، إلى مطار سايغون في فيتنام. وبرغم الدماء الأميركية التي سقطت جرّاء هجوم “داعش” على مطار كابول نفسه، والتي أعادتنا بدورها إلى بيروت 1983 عندما سقط 241 جندياً من المارينز.. يبقى بمقدور العم السام تقريش شيء من الربح برغم فداحة الخسارة.

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الدونباس.. خط الدفاع الأول عن بوتين؟