“إذا كانت أعمال المقاومة ضد المحتلّ لا بدّ منها عسكرياً، فإنّ هذه المقاومة، باختلاف الظّروف الخاصّة بكلّ واحدةٍ منها، يجب أيضاً أن تندرج في إطار من الفكر والثّقافة اللذين لا بدّ من تقويمهما وتطويرهما. فرفعُ راية الدّين في حدّ ذاته، ولو أنّه يثير حماسة النّاس، فهو كما تشهده السّاحة يؤدي أيضاً، عندما تكون الراية الوحيدة والحصرية المرفوعة، إلى تنامي احتمال انفجار الفتنة الداخليّة، إضافةً إلى كونه يُستخدم أيضاً من قبل الإعلام الغربيّ والصّهيونيّ كمادّة إعلامية مضادّة للموقف العربيّ”
(الدكتور جورج قرم).
على مدى عقود من الزّمن، تركّزت في الذّهنية العربيّة ثنائية موصوفة، ظلّت تغذّي استقطاباً سياسياً حاداً؛ فمن جهة، ثمّة دعاة ورعاة التقليد الذين يجمعون بين الأهداف التّحريرية والمنطق التقليدي، ويقولون بضرورة تلازمهما، ومن جهة ثانية، ثمّة دعاة الانفتاح والفكر الحديث الذين يتبنّون المنطق الحديث، لكنّ من يتصدّر المشهد منهم إمّا أنهم لم يحسنوا استخدام الأدوات اللازمة أو الانتظام في تيّاراتٍ واضحة وفاعلة عمليّاً، وإمّا أنهم انتظموا في تيّارات سياسيّة هي في العمق تخدم الامبرياليّة، إن لم تكن تجاهر في الظاهر بالسّعي إلى خدمتها.
هذا التيّار الأخير، على الرغم من أنّه يستقطب أو يضمّ مثقّفين ومفكّرين بل ومنظّرين لمقوّمات الفكر الحديث، لكنّه وبشكلٍ مباشر ساهم في تكريس البُنى التقليديّة، ونفّرها من الحداثة وإنجازاتها، وجمّد عندها الرّغبة حتّى في التّعرّف إليها لجملة من الأسباب؛ أبرزها أنّ التّقليديّين، وهم الغالبيّة في مجتمعاتنا، لم يلمسوا من الحداثة عمليّاً سوى النّسخة المعدّلة منها إن جاز التّعبير، والتي تتمظهر عبر أيديولوجيا نيوليبراليّة تسخّر الأنظمة البرلمانيّة في الدّول المتخلّفة لصالحها، وتزوّر الانتخابات وتستغلّ الحريّة الاقتصاديّة لتركيز الاستثمارات الرّأسماليّة. فيما لم يسعَ أصحاب “التّيّار الحداثيّ” إلى إظهار التّمايز ما بين اللّيبرالية الكلاسيكيّة كنظام فكري متكامل أتى كثمرة نضال للطّبقة الوسطى في أوروبا ضد الإقطاع السّائد آنذاك وضدّ البنى التّقليديّة السّائدة، والتي كانت العقلانيّة إحدى أبرز منجزاتها، وما بين هذه النّسخة المعدّلة منها والتي سار بها الغرب منذ أواسط القرن التّاسع عشر باتجاهٍ معاكسٍ لروح المذهب اللّيبرالي، حتّى تمظهرت الليبرالية وكأنها القاعدة التي تتأصّل فيها السياسة الامبرياليّة!
كان للتّوسّع الاستعماريّ دوره المهمّ في بلورة صورة هذا الاتّجاه العكسيّ الذي لمّا يزل يتلقّفه الإنسان في الشّرق على شكل إهاناتٍ أُكره عليها بسبب “حداثة” قمعيّة لجوهره الدينيّ التّقليديّ كما يعتقد. فضلاً عن أنّ الأنظمة الدكتاتوريّة التي أطلقت على نفسها صفتي القوميّة والعلمانيّة لعبت الدّور المكمّل في زعزعة الثّقة بمنجزات الحداثة، وبالمفاهيم والنّظم الجديدة التي جاءت بها هذه الأخيرة.
وفي حين انكبّ مفكّرون في الغرب على شرح الخيانة الّتي حصلت لقيم الحداثة الأصيلة، شهد العالم العربيّ ما يشبه عمليّة الطّمس الفكريّ الممنهج للأعمال المثيلة أو الرّديفة عربيّاً للعديد من المحلّلين والباحثين والمفكّرين العرب، والتي برزت منذ أواسط القرن التّاسع عشر محاولةً التّصدّي للكثير من التْحديّات التاريخيّة التي نشأت عن غزو “الحداثة” الغربيّة وعن تعقيدات الماضي، ومحاولةً تفكيك وشرح أسبابها. وقد خدم هذا الطّمس طروحات صراع الحضارات، كما عزّز من التّوجّهات اليمينيّة الطّابع، والسّلفيّة منها، وهيّأ لها مناخاً مضخّماً من المظلوميّة حتّى تنتفخ من خلاله وتتضخّم تضخّماً مرضياً.
لا بد من فرز وانتظام تيّار ثالث، واضح في الجمع بين الفكر الحديث ومسألة التحرير، وأن يكون المنتظمون فيه قادرين على الصّمود في وجه محاولات الإضعاف المعنويّة. وهو تيار بطبيعة الحال لا بدّ وأن يكون مبنياً على التّجربة والمخاطرة من جهة، كما وعقلانياً وجَسوراً من جهة أخرى
إذا سيطر الفكر التّقليديّ على مجتمعٍ ما، فإنّ الأزمات الاقتصاديّة والصراعات الاجتماعيّة تساهم في تركيزه، انطلاقاً من أنّ السّعي إلى تحقيق “المصلحة” يدفع إلى استخدام أدوات هذا الفكر ومنهجه أوفر إستخدام. عملياً، عندما تنتصر مراكز التّقليد بعد هذا الصراع، ينتصر فكرها، فيتعمّق التّقليد، وتضعف شيئاً فشيئاً فاعليّة كلّ الطروحات المتمايزة التي تناصر مبدأ التحرير من منطق مغايرٍ للمنطق التّقليديّ، ليصبح على إثر ذلك فعلُ السّعي إلى التحرير هو نفسه فعلُ السعي إلى التقليد، وليصبح هذا الصّراط هو وحده صراط “القوّة”، كون أنّ مراكز القوّة في العالم العربيّ تقليديّة، وتقليدها مُمأسس!
ولأنّ عنوان التحرر يبقى عنواناً جاذباً، ويمنح صفة النّضال لمن يعمل عليه، فقد وجد الكثير من المثقّفين غير التّقليديين أنفسهم يفضّلون الانخراط أو دعم المسارات التقليدية التحريريّة، ليخلّصوا أنفسهم من جهة مما قد يسمونه غربة اللاإنتماء، في ظلّ ضعف المثقّف حامل الثقافة العصرية أمام مجتمعه التّقليديّ، وفي ظلّ تقديم المثقّف للعنصر الذّاتي والرغبة أو المصلحة الذاتية على متطلّبات المجتمع. كما أنّهم دعموا هذه المسارات التقليدية على اعتبار أنها فرض واقع، فعملوا معها انطلاقاً من مشترك التحرير، وقد استعار بعضهم مصطلحات الفكر التّقليديّ، كما لو أنهم قد دُجّنوا تدجيناً في هذا الفكر، أو كما لو أنهم وضعوا أنفسهم في مصيدة فكريّة ارتضوا بها طالما أنّها تنادي بالعناوين العريضة التي يهدفون إليها، لا سيّما في وقتنا الحاضر، حيث يشهد الفضاء العالميّ جاذبيّة نحو الطّروحات اليمينيّة، فتنقسم الاتّجاهات الفكرية التي تعبّر عن نفسها سياسياً إلى اتجاهاتٍ ضدّيّة بالضّرورة. ولذلك، فإنّ البعض الآخر من المثقّفين الحداثويين سيتحمّسون ربّما إلى التخلّي عن مقولة التحرير نفسها، ليصبح شغلهم الأساسيّ والأوّليّ ضرب البنى التّقليديّة بغضّ النّظر عن مسألة التّحرير، وليمهّدوا بذلك الطّريق للأصوليّة من حيث ينتقدونها.
هكذا، سيصبح المشهد بالعموم كما لو أنّه انقسامٌ حادّ يفرز ازدواجيّة ثقافية تعيق نشر الذّهنية العلميّة وترسّخ الأيديولوجيات السّائدة. وهكذا، سيشترك كلا هذين الاتّجاهين في تسييد ثقافة غير ملائمة لمنظور المجتمع الحديث.
أمام هذا الواقع، يصبح السّؤال ملحّاً: ما العمل؟ هل حتميّة الصّراع بين هذين التّيارين هي التي ستدفع في نهاية المطاف، درءاً لمساوئ الصّراع، إلى تعزيز اتجاهٍ ثالثٍ يجمع عملياً، وفي الفعل السياسي، بين الفكر الحديث ومسألة التّحرير؟ وهل على المثّقف الخارج من دائرة الاصطفاف أعلاه أن يحيد جانباً، لينتظر تعمّق الصّراع، والذي قد يطول وقته جداً، ليترقّب وينتظر الظّرف التّاريخيّ المناسب الذّي تتهيّأ فيه الأرضيّة لفكره في أن يكون فاعلاً؟ أم أنّ عليه أن يغّرد وحده، مع قلّةٍ ممّن يشبهونه، ليبدو ككائنٍ غريب منظّرٍ بعيد عن الواقع، ما قد يعرّضه لحملات مضادة، والتي بطبيعة الحال قد تُضعف تأثير أفكاره أكثر وأكثر بفعل اتحاد العموم على محاربته، من هذا الاتّجاه أو ذاك، أم عليه أن يسعى لتوظيف فكره في العمل السياسي عبر تيار جديد يحاول مع الزّمن أن “يكبّره” شيئاً فشيئا، أم أنّ عليه أن يقتصر فقط على دوره الاجتماعي، وعلى فعل “الحرتقة” الفكرية، من دون أن يكون له دوره السياسي.. أم ماذا؟
هي أسئلة لا بدّ من إعادة تفعيل البحوث والدراسات حولها، لكن على العموم، يبدو من الضّروري اليوم، أن يصار إلى السّعي لفرز وانتظام تيّار ثالث، واضح في الجمع بين الفكر الحديث ومسألة التحرير، متمايزٍ عن الاتجاهين السّابقين، وأن يكون المنتظمون فيه قادرين على الصّمود في وجه محاولات الإضعاف المعنويّة. وهو تيار بطبيعة الحال لا بدّ وأن يكون مبنياً على التّجربة والمخاطرة من جهة، كما وعقلانياً وجَسوراً من جهة أخرى، قادراً على استقطاب الشباب المعاصر من أجل لحظةٍ مؤاتية، تبرز فيها فاعليّتهم وتتحتّم فيها قدرتهم على التّأثير.