يعتقد البعض أن الولايات المتحدة هى أرض الدُنيا بما لديها من ثروات مادية، وبما توفره لمن يسكن فيها من ظروف اقتصادية وترتيبات رأسمالية تسمح بفرص النجاح للمجتهد والمجتهدة والقوى والقوية أكثر من غيرها من الدول. نصيب الفرد من الناتج القومى الإجمالى بلغ العام الماضى 68 ألف دولار، وهو من أعلى المعدلات فى العالم. ويعد هذا الرقم ضخما بالنظر لعدد سكانها البالغ 334 مليون نسمة. ولا يمثل عدد سكان أمريكا إلا أقل من 5% من سكان العالم، إلا أنهم يستهلكون 25% من موارد العالم المختلفة، وهى نسبة تمثل خمسة أضعاف نسبة سكانها.
من ناحية أخرى تعد أمريكا الوجهة الأولى المستقبلة للاستثمارات الخارجية FDI فى العالم، وصلت عام 2019 إلى 351 مليار دولار. لهذه الأسباب والكثير غيرها، يعد البعض أمريكا أرض الدُنيا بسبب أوضاعها المادية.
إلا أن أمريكا تُعد أيضا أرض الدين، وللدين تعريف خاص فى الولايات المتحدة، فعلى الرغم من علمانية الدولة على المستوى الدستورى، إلا أن المجتمع الأمريكى يعد أكثر المجتمعات الغربية تدينا. ويعتبر الدستور الأمريكى وثيقة علمانية واضحة تبدأ بعبارة «نحن الشعب» ولا تحتوى الوثيقة على أى ذكر لكلمة الرب أو المسيحية، بل إن الإشارة إلى كلمة دين فى الدستور استخدمت على نحو معاكس تماما للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين والمواطنات على أساس عقائدهم. وتنص الفقرة السادسة من الدستور على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار دينى لأى شخص يرغب فى شغل أى وظيفة حكومية. كما نص أول تعديل أدخل على الدستور على أن الكونجرس لن يقوم بأى حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس دينى.
***
وتمثل تجربة أمريكا نقيضا للحالة الأوروبية فى الفصل التام بين الدولة والكنيسة، ويبدو ذلك واضحا فى الفارق بينهما في ما يخص بعض السياسات الخارجية. ولم يكن جورج بوش هو أول من أدخل الدين إلى السياسة الأمريكية ولم يأت باراك أوباما لكى يخرجه منها، واستغل الرئيس دونالد ترامب الدين لمصلحته على الرغم من عدم تدينه، فى حين يُعد الرئيس جو بايدن متدينا كاثوليكيا يحرص على الصلاة صباح كل يوم أحد فى كنيسته المفضلة فى منطقة جورجتاون.
وإذا كان الرئيس السابق جورج بوش أحد أكثر الرؤساء استشهادا بالنصوص الدينية لتبرير الكثير من مواقفه، فإن الرئيس أوباما، والمعروف بأنه غير متدين على الإطلاق، هو أول من أسس مجلسا استشاريا لشئون الأديان فى البيت الأبيض.
على الرغم من علمانية الدولة يظل المجتمع الأمريكى واحدا من أكثر المجتمعات العلمانية محافظة وتدينا، والأهم أكثرهم انقساما. ويفسر هذا حالة الاستقطاب المستمر حول قضايا قديمة يعاد تجديد الصراع حولها مع نهاية كل عام ميلادى أو حلول مواسم الانتخابات
ولا يعد التدين فى أمريكا متعارضا مع رأسمالية المجتمع، ويخضع التدين كغيره من الظواهر لآليات السوق ومعادلة العرض والطلب. من هنا يأتى الاختلاف بين التدين الأمريكى والتدين فى بقية العالم بسبب ظاهرة الهجرة. وتستقبل أمريكا أكثر من مليون مهاجر ومهاجرة سنويا، يجىء على رأسهم مهاجرون ومهاجرات من الدول النامية التى يلعب الدين دورا رئيسيا فى حياة أبنائها وبناتها. وعلى العكس من الكنائس الأوروبية، تتنافس الكنائس الأمريكية المختلفة لجذب ومساعدة المهاجرات والمهاجرين الجدد. وتمثل الكنيسة مركزا مهما فى حياتهم بالولايات المتحدة، فبالإضافة لما تقدمه من طقوس وممارسات روحية، تقوم الكثير من الكنائس بإنشاء فصول لتعليم المهاجرات والمهاجرين الجدد اللغة الإنجليزية، وتوفير حياة اجتماعية للمهاجر ولعائلته، وهنا يأتى نفوذ الكنيسة فى صنع السياسات فى بلد قام على المهاجرات والمهاجرين، حيث إن معظمهم جاءوا عن طريق الكنيسة فى موجات الهجرة الأوروبية الأولى.
***
وعلى الرغم من استمرار ظاهرة صعود العلمانية فى مختلف أقاليم العالم باستثناء أوروبا الغربية، يعد المجتمع الأمريكى أكثر المجتمعات المتقدمة المتجه بسرعة نحو المزيد من التدين الواضح، رغم علمانية النظام السياسى. وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكى «مازال متدينا»، إلا أن هناك اختلافا فى طبيعة مفهوم الدين فى الوقت الحاضر، فالدين الذى تحدث عنه الأنبياء والرسل، والذى يدعو إلى رفض الظلم وخلق المجتمع الفاضل، لم يعد موجودا. أما الموجود الآن، فهو مفهوم دين جديد يتمثل فى تأسيس علاقة فردية بين الإنسان والمعانى الدينية، فالفرد المتدين ليس له مؤسسة أو مرجعية تحتكر الدين وتفرضه عليه. بل يختار هو ما يريد من المعروض من الأديان، مثلها مثل أى بضاعة استهلاكية. ودخول البعد الاستهلاكى للدين يزيد من عدد من يذهبون للكنائس، فالفرد يختار الدين الذى يعجبه والذى يتناسب مع وضعه الاجتماعى والاقتصادى والسياسى ويحقق له التوازن النفسى والروحى، وهو دين فى صورة حديثة يتناسب مع ما وصلت إليه المجتمعات الإنسانية من حداثة وتقدم.
على الرغم من علمانية الدولة يظل المجتمع الأمريكى واحدا من أكثر المجتمعات العلمانية محافظة وتدينا، والأهم أكثرهم انقساما. ويفسر هذا حالة الاستقطاب المستمر حول قضايا قديمة يعاد تجديد الصراع حولها مع نهاية كل عام ميلادى أو حلول مواسم الانتخابات.
وتعتبر قضايا مثل قضية استخدام الرموز الدينية فى احتفالات أعياد الميلاد (الكريسماس) والإجهاض، وإقامة الصلاة فى المدارس العامة، وزواج المثليين، والصراع ما بين الدين ونظرية النشوء والارتقاء لداروين، وإجراء البحوث العلمية ذات الأبعاد الأخلاقية، من أكثر القضايا التى تثير انقساما على المستوى السياسى والثقافى فى المجتمع الأمريكى خلال السنوات الأخيرة.
الجدل والانقسام والاختلاف فى المشهد الثقافى والاجتماعى يؤكد أن الانقسام داخل المجتمع الأمريكى أعمق من كونه سياسيا برغم كل الصخب فى قاعات الكونجرس وعلى صفحات الجرائد وشاشات التليفزيونات بين الجانب الجمهورى والجانب الديموقراطى.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“