وقع اليوم (الإثنين) الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على قانون تنسحب روسيا بموجبه رسمياً من “معاهدة السماوات المفتوحة” للحد من التسلح، والتي تسمح برحلات استطلاع غير مسلحة في أجواء الدول الأعضاء فيها.
جاء القرار الروسي بعدما إتخذت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في الشهر الفائت، قرارها بعدم العودة للمعاهدة التي انسحب منها الرئيس السابق دونالد ترامب في العام الماضي، برغم أن موسكو كانت تأمل في أن يبحث بوتين وبايدن المعاهدة عندما يلتقيان في السادس عشر من هذا الشهر في جنيف.
وقال الكرملين إن القرار الأميركي بالانسحاب “قوّض بشكل كبير توازن المصالح” بين الدول الأعضاء وأجبر روسيا على الانسحاب. وأضاف أن القرار الأميركي “أضر بصورة خطيرة باحترام المعاهدة وبأهميتها في بناء الثقة والشفافية، الأمر الذي تسبب في تهديد للأمن القومي الروسي”.
واسف مسؤولون روس لقرار الولايات المتحدة الانسحاب من هذه الاتفاقية الدفاعية الرئيسية بعد الحرب الباردة، ووصفوه بأنه “خطأ سياسي”، وحذروا من أن هذه الخطوة لن تخلق مناخاً مؤاتياً لمناقشات الحد من التسلح خلال قمة جنيف.
تعود فكرة الاتفاقية إلى الرئيس الاميركي الراحل دوايت أيزنهاور الذي اقترح، في تموز/ يوليو 1955، في ذروة الحرب الباردة أن تسمح الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق برحلات استطلاع جوية فوق أراضي بعضهما البعض.
في البداية، رفضت موسكو الفكرة، لكن الرئيس جورج بوش أعاد إحياءها، في أيار/ مايو 1989، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ، في كانون الثاني/ يناير 2002.
وأجريت أكثر من 1500 رحلة طيران بموجب المعاهدة تهدف إلى تعزيز الشفافية بشأن النشاط العسكري ومراقبة السيطرة على الأسلحة واتفاقيات أخرى. وتمنح الاتفاقية الدول الأعضاء تحذيراً مسبقاً من أي هجمات عسكرية مفاجئة.
وتسمح اتفاقية “الأجواء المفتوحة” بين روسيا والولايات المتحدة و32 دولة أخرى وقعت على المعاهدة، معظمها منضوية في حلف الأطلسي، لجيش بلد عضو فيها بتنفيذ عدد محدد من الرحلات الاستطلاعية فوق بلد عضو آخر بعد وقت قصير من إبلاغه بالأمر. ويمكن للطائرة مسح الأراضي تحتها، وجمع المعلومات والصور للمنشآت والأنشطة العسكرية. وتكمن الفكرة في أنه كلما عرف الجيشان المتنافسان معلومات أكثر عن بعضهما البعض، قلّ احتمال الصراع بينهما. لكن الجانبين يستخدمان الرحلات الجوية لفحص نقاط ضعف الخصم.
هذا الانسحاب إلى سياق الانسحابات السابقة من معاهدات أكثر أهمية، سيفضي إلى تفكّك نظام المعاهدات التي كانت تشكّل حداً أدنى من شبكة أمانٍ تعاقدية بين الافرقاء الدوليين، الأمر الذي سيزيد من تسارُع الانزلاق نحو عالمٍ بلا قيود، سيُسرّع بدوره في تحديد معالم النظام العالمي الجديد، أو قُل حال اللانظام
وتنص الاتفاقية على أن كل دولة في المعاهدة توافق على جعل كل أراضيها متاحة للطيران الاستطلاعي. وبينما لم تتحدث موسكو عن مشكلات تواجه طائراتها في الأجواء المفتوحة، فإن الوضع مختلف تماماً بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي شعرت بالامتعاض لأنّ موسكو لن تسمح برحلات جوية أميركية فوق المناطق التي تعتقد واشنطن أن موسكو تنشر فيها أسلحة نووية متوسطة المدى تهدد أوروبا، لا سيما جيب كالينينغراد الواقع على بحر البلطيق ومناطق محاذية من جورجيا.
وبدا أن هذه القضية هي من بين الأسباب التي دفعت ترامب للانسحاب من المعاهدة، حيث إتهم روسيا بإنتهاك الاتفاقية مراراً، لكن المسؤولين الروس أنكروا هذه الاتهامات. والارجح أن إدارة بايدن لم يكن لديها الرغبة بالعودة إلى الاتفاقية، لان عليها صياغة طلب جديد للانضمام إليها، وهو ما يتطلب موافقة الغالبية البسيطة في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين. وفي حال إقرار الكونغرس الذي يملك الديمقراطيون الغالبية بين أعضائه فإن بايدن سيحتاج أيضا لإقناع المجلسين بالموافقة على رصد الأموال لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، وهو ما قد لا يكون أولوية لدى واشنطن حالياً، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الإستفهام حول ما يمكن أن يصدر عن قمة جنيف التي باتت محكومة بجدول أعمال متوتر يجعل حظوظ الفشل تتقدم على حظوظ النجاح.
وأعرب حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن أسفهم لقرار الانسحاب من المعاهدة. واوضح الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية كورنتين برستلان أن نطاق المعاهدة سياسي أكثر مما هو عسكري. وقال إن “أجهزة الاستخبارات لا تحتاج الى أجواء مفتوحة”، مضيفاً أن الأجهزة الكبرى تعرف عن حلفائها وأعدائها أكثر مما تسمح به المعاهدة. لكنه أكد أن المعطيات التي يتم جمعها في إطار المعاهدة “قابلة للمشاركة” وتفيد الدول الأقل تجهيزاً في ما يخصّ الاستخبارات. وحذر من أن “النتائج السلبية الوحيدة للانسحاب ستكون على حلفاء الولايات المتحدة”.
وهذا الامر قد يزيد من الهوة الاخذة في الاتساع بين القوى الأوروبية الرئيسة وأميركا، خصوصاً وأن الجماعات اليمينية واليسارية في أوروبا تبدو في بحثٍ دائمٍ عن أسباب جديدة تستطيع من خلالها إقناع الرأي العام الأوروبي بضرورة بلورة شخصية أوروبية مستقلّة عن الأميركيين في مختلف الشؤون، بما فيها مسائل الأمن القومي.
وأبعد من ذلك، فإن إضافة هذا الانسحاب إلى سياق الانسحابات السابقة من معاهدات أكثر أهمية، سيفضي إلى تفكّك نظام المعاهدات التي كانت تشكّل حداً أدنى من شبكة أمانٍ تعاقدية بين الافرقاء الدوليين، الأمر الذي سيزيد من تسارُع الانزلاق نحو عالمٍ بلا قيود، سيُسرّع بدوره في تحديد معالم النظام العالمي الجديد، أو قُل حال اللانظام التي دخل العالم في طورها، قبل أن يكتمل رسم القواعد الجديدة.