بوتين في الكرملين، لينين في الضريح.. لا أحد يُزعج الآخر!

مرّة تلو الأخرى، يحتل الجدل حول جثمان فلاديمير لينين حيّزاً في الخطاب السياسي الروسي. قبل أشهر قليلة على موعد الانتخابات التشريعية المقررة في أيلول/ سبتمبر المقبل، يتجدد الجدل حول قضايا لم يتم إيجاد حل لها منذ عقود عديدة، بينها إعادة دفن قائد الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي.

وجهات نظر الشخصيات ذات الوزن الثقيل في السياسة الروسية في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تجاه مصير جثمان لينين المسجى داخل ضريحه في الساحة الحمراء، باتت معروفة منذ فترة طويلة: زعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي يقترح حرق جثة فلاديمير إيليتش ودفن الرماد في قبر والديه؛ رئيس الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف يلوّح بالعصا لكل من تسوّل له نفسه المس بقدس أقداس البروليتاريا في العالم؛ أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فلسان حاله تلك العبارة التي قالها يوماً الكسندر فولوشين، رئيس ادارة الكرملين في عهد بوريس يلتسين “لا يبعد الجثمان عني أكثر من 15 متراً كخط مستقيم.. هو يرقد هناك وأنا أعمل هنا. ولا يزعج أحدنا الآخر”.
ولكن كيف يقارب السياسيون الروس، الذين نشأوا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، قضية جثمان لينين وضريحه؟
في تقرير نشرته قبل أيام، حاولت صحيفة “فزغلياد” الروسية رصد آراء “القادة الجدد” إزاء هذه الإشكالية المزمنة.
تشير “فزغلياد” إلى مبادرة مثيرة للجدل أطلقها نائب مجلس دوما مدينة يوجنو ساخالينسك، ألكسندر أنيستراتوف، اقترح من خلالها دفن زعيم الثورة الروسية في جزيرة ايتوروب، قائلاً إن من شأن ذلك أن يضع حداً للخلاف مع اليابان حول جزر الكوريل، وكذلك من أجل جذب السياح إلى هذه الجزيرة التابعة، شأن شقيقاتها الثلاث، إلى محافظة سخالين الروسية.
ومع ذلك، سرعان ما تم حذف منشور النائب من حسابه على موقع “انستاغرام” بعدما تسبب بجدل حاد ليس في روسيا وحسب، بل في اليابان كذلك.
عضو الغرفة العامة لروسيا ماريا بوتينا البالغة من العمر 32 عاماً، التي سبق ان احتجزت في الولايات المتحدة وفازت مؤخراً في الانتخابات التمهيدية لحزب “روسيا المتحدة” لانتخابات الدوما، تعتقد أن وجود جثمان لينين كرمز في وسط موسكو بالنسبة إلى كثير من الناس هو اعتراف بأهمية الدور التاريخي للاتحاد السوفياتي، وهي ترى أن “أية محاولة لإزالة جثمان لينين ستشبه (الليلة البرونزية) في تالين عام 2007، حين أرادت السلطات الإستونية بطريقة وحشية نقل نصب تذكاري للجنود السوفيات المحررين”.
وتقرّ بوتينا إنه “من وجهة نظر دينية، يجب أن يدفن لينين في الأرض، وأنا أتفهم هذا الموقف أيضاً.. لكننا لسنا في حاجة إلى جمع الناس معًا الآن”.
تشير بوتينا إلى أنها طالبت في الماضي القريب بجني الأرباح من إقامة لينين في قبر مفتوح.
في العام 2013، قارنت بوتينا، في منشور عبر مدونتها، جثة الزعيم البلشفي بمومياوات الفراعنة المصريين التي “تسافر الآن حول العالم وتعرض في المتاحف، فيما قبورهم تجتذب ملايين السياح إلى مصر”.
وكتبت بوتينا أن “مومياء لينين هي كنز وطني يمكن للأمة أن تحصل منه على أرباح بملايين الدولارات – سيكون هذا على الأقل بعض التعويض عن الضرر الذي تسبب به خلال حياته”.
وبعد ثماني سنوات، تميل بوتينا إلى الاعتقاد بأن “لا ينبغي تغيير الوضع.. يجب تركه كما هو”.
لكن قيادة “مولودايا غفارديا” (“الحرس الشاب”) في حزب “روسيا الموحدة” لديها رأي مختلف قليلاً: لا ينبغي ترك هذه القضية تراوح مكانها، بل يجب طرحها للنقاش العام.
يقول رئيس المجلس التنسيقي لـ”مولودايا غفارديا” وعضو هيئة الرئاسة في “روسيا الموحدة” دينيس دافيدوف: “على المستوى الشخصي، ليس لدي أي موقف عاطفي بشأن إزالة الضريح من الميدان الأحمر من عدمها، وأنا لم أدخله (الضريح) يوماً.. ولكن فكرة دفن رفات فلاديمير لينين يجب أن تنسق مع الناس”، مقترحاً إجراء تصويت حول هذه القضية ومن ثم اتخاذ القرار في ما يجب فعله.
أما في منظمة الشباب التابعة للحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية، والتي ما زالت تحمل اسمها التاريخي “اتحاد لينين للشباب الشيوعي”، فأنّ فكرة دفن جثمان لينين تقابل بشكل سلبي، ولكن الحجج تبدو غير منطقية بعض الشيء، فعلى سبيل المثال، يقول ياروسلاف ليستوف، سكرتير شؤون الإعلام والنشاط التحليلي في اللجنة المركزية لرابطة الشباب الشيوعي: “سبق أن قال بطريرك عموم روسيا أليكسي الثاني في العام 2001 إن قرار إزالة جسد لينين يجب أن يتخذه الشعب الروسي بأكمله”، مضيفاً “لسنا نحن من اتخذ قرار دفن فلاديمير إيليتش لينين في الساحة الحمراء وإنما أسلافنا، ولا تزال غالبية سكان روسيا ترى أن لينين يجب أن يستريح في الضريح”.

تظهر استطلاعات الرأي انقساماً حاداً في المجتمع الروسي عموماً بين من يؤيد دفن لينين ومن يعارض هذه الخطوة

مع ذلك، فإنّ استطلاعات الرأي لا تؤكد هذه الأطروحة، فبحسب دراسة مسحية قامت بها مؤسسة “ليفادا”، فإنّ 45 في المئة من سكان موسكو يؤيدون إزالة جثمان لينين، في مقابل 42 في المئة يقترحون ابقاءه في الضريح، في حين يجد 13 في المئة من المستجيبين صعوبة في الإجابة. نتائج هذا الاستطلاع تبدو مماثلة لاستطلاع آخر أجري في عموم روسيا في تشرين الأول/أكتوبر العام 2017، حيث انقسمت الأصوات بنسبة متعادلة بين 41 في المئة أيدوا فكرة إخراج جثمان لينين من الضريح وبين معارضيها.
أما فلاديمير يانينكو، نائب رئيس منظمة الشباب في “روستا” (النمو) وهو حزب ليبرالي محافظ يعبر عن مصالح رجال الأعمال، وبالرغم من إشادته بالزعيم البلشفي الذي “دخل التاريخ باعتباره رجلاً عظيماً – زعيم الدولة السوفياتية الفتية الضخمة”، إلا أنه يرى أن “الوقت قد حان للتوقف عن التمسك بالماضي والبدء في المضي قدماً.
يصادف عام 2024 الذكرى المئوية لوفاة زعيم البروليتاريا العالمية، وهذا التاريخ، بحسب ما يقول يانينكو، مناسب جداً لدفن جثمان لينين وتكريمه، من خلال “جنازة جديرة بشخص جدير”.
ويعتقد ممثل حزب “روستا” أن “الأموال المخصصة لصيانة الضريح، والتي تكلف الميزانية ملايين الروبلات، يمكن إنفاقها على المزيد من البرامج الاجتماعية الضرورية”.
ويعتقد يانينكو أنه من المناسب جداً دفن لينين في موطنه الصغير في سيمبيرسك – أوليانوفسك.
وعلى غرار ماريا بوتينا، يرى يانينكو أن مثل هذا القرار يمكن أن يجلب ربحاً لقطاع السياحة، حيث “سيتمكن المعجبون بلينين من القدوم إلى قبره، ووضع الزهور وإحياء ذكرى الثوري العظيم”.
في المقابل، لا يميل القادة الشباب في حزب “يابلوكو” (“التفاحة”) إلى جعل لينين وجهة سياحية، ويرون أنه ينبغي دفن لينين في مكان آخر غير الساحة الحمراء، أو حرق الجثمان ونثر رماده في مكان ما فوق المحيط.
وفي هذا الإطار، يقول القيادي في فرع “يابلوكو” في موسكو كيريل غونشاروف إن “الساحة الحمراء ليست مقبرة، وليست مكاناً لدفن مجرمي الحرب. لينين هو رمز مشرق وسلبي لماضينا في وقت واحد. هو يجسد الإرهاب الجماعي وقتل مواطنيه والحرب الأهلية والاستيلاء على السلطة. وإذا كانت روسيا تعتبر نفسها دولة أوروبية ديموقراطية، تُحترم فيها حقوق الإنسان والحريات، فلا بد إذن من إبعاد لينين عن وسط العاصمة”.
مع ذلك، يقرّ غونشاروف بأن المزاج السائد في المجتمع قد يكون مغايراً لرأيه، ولهذا فهو يرى أن “الحل الأمثل يتمثل في إجراء استفتاء على الموضوع، بعد منح جميع الأطراف الفرصة لإجراء حملة كاملة، سواء مع (إزالة الضريح) أو ضد”.
وأمّا ممثلو الشباب في الحزب الليبرالي الديموقراطي فامتنعوا عن التعليق، مكتفين بالتذكير بتصريحات زعم الحزب فلاديمير جيرينوفسكي الذي أصر أكثر من مرة على أنه من الضروري، ومن دون تأخير، دفن جثمان لينين، لا بل تفكيك الضريح بالكامل.
في حزب “روسيا العادلة”، الرأي معاكس تماماً، فالقياديون الشباب يصرون على عدم التسرع، وترك المسألة للأجيال القادمة.
وتقول سكرتيرة رئاسة المجلس المركزي لحزب “روسيا العادلة” أناستازيا بافليوتشينكوفا إنه “لا داعي لإيذاء مشاعر الحنين للأشخاص في منتصف العمر وكبار السن”، مشيرة إلى أن “بعض هؤلاء الناس مرتبطون بلينين. لقد كانوا أكتوبريين ورواداً وأعضاء كومسومول (المنظمة الشبابية الشيوعية في الاتحاد السوفياتي)”، وهي ترى أنه “طالما أن أولئك الذين يستحضر لهم اسم لينين ذكريات شبابهم ما زالوا على قيد الحياة، فلا داعي للتطرق إلى هذا الموضوع”.
لعل هذه الآراء المتناقضة تدفع باتجاه تعزيز الرأي القائل بأنّ هذه المسألة الخلافية لا ينبغي اتخاذ قرار نهائي بشأنها الآن، وهو ما قاله فلاديمير بوتين صراحة في أكثر من مناسبة، آخرها خلال مؤتمره الصحافي السنوي الكبير في أواخر العام 2019، حين قال “في رأيي، لا حاجة إلى المسّ به، ما دام هناك الكثير من الأشخاص الذين يربطون حياتهم الخاصة، ومصيرهم، وبعض إنجازات السنوات السوفياتية السابقة به”.
في هذا الإطار، يقول مدير مركز التحليل السياسي بافل دانلين، إن الوقت لم يحن بعد لتغيير وضعية ضريح لينين ودفن جثمانه.
ويشير الخبير إلى أن “هذا السؤال سياسي بحت، فهو يقلق فقط ناخبي الحزب الشيوعي، وبدرجة أقل، المواطنين ذوي العقلية الاشتراكية. ومن ناحية أخرى، هذه أيضاً قضية سياسة خارجية، فنحن لدينا الآن علاقات جيدة مع جمهورية الصين الشعبية، وهناك فإنهم يحبون لينين ويحترمونه على مستوى الدولة، وإذا ما أجرينا أي تلاعب بجسده أو بالضريح، فمن غير المرجح أن يتفهموا الأمر، وعلى الأرجح قد يشعرون بالإهانة”.
ويقر دانلين بأنه في هذه الحالة، تتعارض التقاليد السوفياتية مع التقاليد الأرثوذكسية (على سبيل المثال تفرض الكنيسة الأرثوذكسية دفن الجثمان على عمق ثلاثة أمتار تحت الأرض وتحرّم عرضه)، ولكنه يرى أنه في الوقت الحالي من الأفضل تحمل هذا التعارض، موضحاً “ربما في المستقبل – في غضون عشرة إلى عشرين عاماً، عندما يكون هناك وضع اجتماعي مختلف في بلدنا، بحيث تتلاشى المواجهات الأيديولوجية الحادة وحاملوها، سيكون من الممكن التفكير في دفن لينين في بعض المناطق المركزية. وأما الضريح نفسه، في رأيي، لا يحتاج للمس. لقد أصبح بالفعل جزءاً تاريخياً لا يتجزأ من الساحة الحمراء”.
هكذا يتضح مجدداً أن الظروف الطبيعية التي تسمح بحل توافقي لمسألة ضريح لينين ليست متوافرة، ما يعني أن هذه القضية، وبرغم كل الضجة المثارة حولها، مؤجّل بتّها إلى أجل غير مسمّى.. وحتى ذلك الحين لا بأس في أن تكون مادة للترف الجدلي على أبواب الاستحقاقات الانتخابية، طالما أن بوتين يعمل في الكرملين، ولينين يرقد في الضريح، ولا أحد يزعج الآخر!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  هستيريا كورونا، الحرب، النووي.. ونهاية العقل!
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  بوتين وشي.. شراكة حتى اسقاط نظام القطب الواحد