روسيا اللغز: ليست إمبراطورية.. وبوتين ليس إيفان الرهيب

في مقالة خاصة بـ''مجلة الدراسات الفلسطينية''، بعنوان: “Russia, The Enigma: No more an Empire, Always Imperial”، ترجمها إلى العربية الزميل أنيس محسن، يحاول الصحافي والكاتب التركي جنكيز تشاندار تفكيك ما يسميه "اللغز الروسي" أو "لغز روسيا".

هل استعادت روسيا مكانة الاتحاد السوفياتي الدولية؟ سؤال بات يُطرح كثيراً منذ أن بدأت موسكو في عهد فلاديمير بوتين تتوسع في مناطق كانت متحالفة مع هذه الدولة الشيوعية الكبرى في زمن الحرب الباردة، وفي أُخرى كانت تقع تحت تأثيرها، بل إن موسكو تسعى حتى للتوسع في مناطق حليفة للغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، مع بوادر انسحاب أميركي من تعقيدات الشرق الأوسط. لكن هل يمكن لدولة باتت تفتقر إلى كثير من المقومات، أن تستعيد مكانتها كإمبراطورية جديدة متوالدة من إمبراطورية آفلة؟

***

إن التفكير في روسيا باعتبارها لغزاً، وفتح باب النقاش على مثل هذا الوصف، هما محاولة محفوفة بالمخاطر تجذب ملاحظات ساخرة من الخبراء الذين يهتمون بالشأن الروسي، وبين هؤلاء ليزلي تشامبرلين التي رأت أن اعتبار “روسيا لغزاً” هي عادة غربية كسولة، فقد كتبت في أسبوعية Times Literary Supplement (TLS) ما يلي:

“إن سؤال الغرب عمّا يدور في ذهن فلاديمير بوتين، ليس سوى عادة غربية كسولة تتحدث عن روسيا كأنها “أحجية مغلفة بغموض، في داخل لغز.” إلّا إن الطموح الروسي الحالي يبدو أنه ينبع من إمبريالية محافظة عميقة، لا تتسم بفردية الزعيم الذي يتولى القيادة، ولا بالغموض بصورة خاصة. فنحن نعلم أن القوة التي تحكم روسيا هي التقاليد، وقد تجلّى ذلك في ثلاثة اضطرابات كبيرة على مدى القرنين والربع الماضيين: الأول كان الثورة الفرنسية التي لا تزال تثير الخوف في سانت بطرسبرغ بعد خمسين عاماً؛ الثاني هو الإطاحة بالقيصر في سنة 1917؛ الثالث هو انهيار الاتحاد السوفياتي في سنة 1991. وفي كل حالة، أدى وضع ثوري أو تهديد، في نهاية المطاف، إلى ردة فعل قومية”[1]

 ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يتعلق بالغربيين وحدهم، بل بأي شخص في العالم حريص على متابعة التطورات في السياسة الدولية، ويرى أن نشاط روسيا يذكّر بما كان عليه شأن الاتحاد السوفياتي حين وجد نفسه في وضع أنه مضطر إلى تحرّي مسألة روسيا باعتبارها لغزاً. فالباحثون الروس أنفسهم قدّموا مواد كافية نسبياً عن مسألة “روسيا اللغز” أو “روسيا الغامضة”، كأنهم يبررون جهود أولئك الذين يحاولون فهم آليات وديناميات روسيا المعاصرة.

وربما أفضل توضيح لماهية “روسيا اللغز” أو “روسيا الغامضة”، هو التفسير الذي قدمه ديميتري ترينين، الباحث الروسي المحترم، في كتابه “روسيا” (Russia)، والذي جاء على النحو التالي: “كما يقولون في روسيا، كل شيء يتغير في 20 عاماً، ولا شيء في 200 عام.”[2] وترينين في الكتاب نفسه، يعبّر عن هذا الأمر باللغة الفرنسية أيضاً، فيقول: “من المفارقات، أنه ‘كلما تغيرت الأشياء، بقيت على حالها’ (plus ça change, plus c’est la même chose)”. إنه وصف يعبّر عن روسيا في الماضي وفي الحاضر، وإلى الأبد.

إن “لغز روسيا” هذا ينغرس في أذهان الناس في جميع أنحاء العالم، ولدى المتأثرين بالنشاط الروسي في الأراضي الشاسعة التي تغطي تقريباً القارة الأوراسية كافة. وبالموازاة، فإن الروس أنفسهم يشككون في مثل هذا الأمر:

لدى الروس موقف متناقض تجاه مكانة البلد في العالم وبين الشعوب الأُخرى: هل روسيا جزء من أوروبا أم إنها منفصلة عنها؟ وإذا كانت أوراسية، فماذا يعني هذا بالضبط؟ وهل هي قوة كبيرة على قدم المساواة مع القوى الأكبر في العالم، أم إنها ببساطة بلد كبير ومتخلف إلى حد ما، لكن لديه طموحات غريبة؟ المشكلة هي أنه لا توجد إجابة محددة وواضحة على أي من تلك الأسئلة. فروسيا أوروبية، لكنها ليست جزءاً من أوروبا، وبغضّ النظر، فإنها جزء من العالم.

إن جغرافيا روسيا وحجمها الهائل (11 منطقة زمنية) هما نعمة ولعنة، الأمر الذي يجعل التمييز بين “أوروبا” و”آسيا” فيها غير واضح. وبالتالي، فإن تحديد ديغول الشهير لأوروبا على أنها تمتد “من الأطلسي إلى الأورال”، لم يكن منطقياً قط في روسيا التي، ومن أجل البقاء في لعبة القوة، كان لزاماً عليها أن تتفوق دائماً على وزنها الحقيقي. وروايتها الاستثنائية تشير إلى ذلك: فمن روما الأرثوذكسية الثالثة، إلى الأممية الشيوعية الثالثة، كانت العقيدة الدينية، أو ما يعادلها علمانياً، محوريتَين بالنسبة إليها”.[3]

وبصورة أساسية، ربما يشرح تاريخ البلد وجغرافيته “لغز روسيا”، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي فقدت وضعها الإمبراطوري مرتين في غضون قرن واحد. ففي القرن العشرين، انهارت الإمبراطورية القيصرية في عهد آل رومانوف بفعل الثورة البلشفية في سنة 1917، لكن حلّت مكانها إمبراطورية أُخرى هي الاتحاد السوفياتي التي كانت روسيا في قلبها. ومجدداً في سنة 1991، تفكك الاتحاد السوفياتي، ثم اجتمعت 14 دولة مستقلة مع روسيا (الاتحادية التي تضم 15 جمهورية)، لتولد مجموعة تخرج من رحم الاتحاد السوفياتي، وتُعرف باسم رابطة الدول المستقلة: 5 دول في آسيا الوسطى (كازاخستان؛ قرقيزستان؛ طاجيكستان؛ أوزباكستان؛ تركمانستان)، و3 دول في جنوب القوقاز (أذربيجان؛ أرمينيا؛ جورجيا)، و3 في الغرب وجنوب موسكو (أوكرانيا؛ بيلاروسيا؛ مولدافيا)، و3 في البلطيق (إستونيا؛ لاتفيا؛ ليتوانيا).

بتفكك الاتحاد السوفياتي، والذي وصفه زعيم روسيا غير المتنازع عليه فلاديمير بوتين بأنه “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، فقدت موسكو مليونَي ميل مربع من الأرضي السيادية. إنها مساحة أكبر من مساحة الاتحاد الأوروبي كله، والتي تبلغ 1,7 مليون ميل مربع، أو الهند – ثاني أكبر دولة في عدد السكان – التي تبلغ مساحتها 1,3 مليون ميل مربع، والتي توازي تقريباً كامل مساحة شبه القارة الآسيوية.

وعلى الرغم من تلك الخسائر الهائلة التي لحقت بالأراضي، والانكماش الذي يمكن بسهولة إدراك أنه يضع حداً للوضع الإمبراطوري الفعلي، فإن روسيا لا تزال تُعتبر أكبر بلد في العالم. وفي الواقع، فإن وضع روسيا كدولة إمبريالية لن يتغير أبداً، أياً تكن التغيرات الإقليمية التي قد تحدث. لقد سُئل مرة ثيودور شانين، عالم الاجتماع المشهور والخبير المختص بالشأن الروسي، إلى كم من الوقت تحتاج عملية “تفكك الاستعمار” الروسي، كي تصبح روسيا أمّة طبيعية؟، فأجاب: “الحقيقة هي أنه عندما تندثر إمبراطورية ما، ربما يكون من الأفضل أن تحل مكانها واحدة جديدة.” واقتباساً من شانين، وصف المؤرخ اللامع إيغور تورباكوف واقع روسيا استناداً إلى جغرافيتها الخاصة، على النحو التالي:

“إن ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ودورها في إثارة الحرب في المقاطعات الشرقية الأوكرانية، ومشاركتها العسكرية في الصراع السوري أمور كلها تدفع المرء إلى التفكير في طبيعة سلوك روسيا الأخير، وفي روسيا ذاتها.

أين تبدأ روسيا كدولة وأمّة، وأين تنتهي؟

إن العديد من دارسي الماضي يتفقون على أن الإمبراطورية كدولة إنما تتسم بحدود غير مستقرة ومنقولة – وهي السمة المستمدة من النظرة الإمبراطورية المثالية إلى العالمية. بل إن بعض الباحثين قد يزعم أن الإمبراطوريات الفتية النشطة لم ترسم حدودها بوضوح قط؛ إذ عندما يتم تثبيتها بشكل صحيح، فإنها إشارة إلى أن تلك الإمبراطورية تكون في أعوامها الأخيرة. لقد كانت روسيا في مظاهرها التاريخية كلها إمبراطورية إلى ما يقرب من نصف ألفية [500 عام]. و”حقيقة أن الإمبراطورية (قبل سنة 1917) كانت كتلة أرضية واحدة من دون حدود دستورية أو إقليمية واضحة بين الشعوب، جعلت صعباً بشكل كبير تحديد مَن هم الروس، أو ماذا يعني كونهم روسيين”[4]

تقييم تورباكوف هذا يمكن اعتماده كوصف للسمات اللغزية لروسيا. واستطراداً على ملاحظته المثيرة تلك، يستشهد تورباكوف بعالم الاجتماع الروسي الرائد فيليبوف فيما يتعلق بالطابع الإمبراطوري المستمر للاتحاد الروسي الحالي الذي ورث الاتحاد السوفياتي البائد، فيقول:

من الطبيعي أن يجادل عالم الاجتماع الرائد في روسيا ألكسندر فيليبوف، بأن الاتحاد الروسي “باعتباره الجزء الأكبر من الإمبراطورية السوفياتية التي انهارت قبل أقل من ربع قرن، قد ورث واحدة من أهم سمات التنظيم الإمبراطوري للحيّز: الطبيعة غير المؤكدة، ودينامية الحدود.”[5]

وبذلك، يكون تورباكوف قد صاغ مفهوم “مجال الهوية” في روسيا من خلال الإشارة إلى روسيا ليس فقط كأكبر دولة في العالم، بل لكونها “على حدود عدة دول أكثر من أي دولة أُخرى في العالم.” وفي هذا السياق كتب:

 أغلبية هذه الدول المجاورة [لروسيا] هي أراضٍ حدودية إمبراطورية سابقة، ومعظم الحدود هو حدود إدارية داخلية سابقة تعود إلى الحقبة السوفياتية، والتي لم يتم تعيينها وترسيمها بشكل جيد. وبناء عليه، ليس من المفاجأة بمكان أن يميز مخططو الكرملين الاستراتيجيون بين حدود الدولة الرسمية للاتحاد الروسي وبين ما يعتبرونه حدوداً استراتيجية لروسيا، والتي تحددها إلى حد كبير المصالح الأمنية والاقتصادية. فهذه الأخيرة أكثر توسعاً من الأولى بكثير، وتميل إلى أن تتوازى مع حدود الاتحاد السوفياتي السابق. ويتجلى هذا التمييز في وجود الحدود الجمركية والأمنية لروسيا التي، بحكم القانون، لا تمتد فقط على طول حدود روسيا. ثم هناك مسألة أكثر صعوبة تتعلق بكيفية ارتباط حدود الدولة الروسية الرسمية بما يمكن أن يطلَق عليه اسم “مجال هوية روسيا”.[6]

إن “مجال هوية روسيا”، هو أداة مفهومية يمكن أن تُستخدم كأداة لتفسير “لغز روسيا” الذي تحدث عنه أيضاً مؤرخ لامع آخر من أصل روسي، هو ستيفان كوتكين، كالتالي: “كان لدى الروس دائماً إحساس راسخ بالعيش في بلد حضاري يتمتع بمهمة خاصة، وهو رأي يعود في جذوره إلى بيزنطة التي تزعم روسيا أنها وريثة لها.”

ويشرح كوتكين، في مقالة في مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في أيار/مايو 2016، بعنوان “روسيا والجغرافيا السياسية الدائمة”، الاستثنائية التي تعتمدها القوى العظمى، ويقول:

الحقيقة هي أن أغلبية القوى العظمى أظهرت مشاعر مماثلة. فقد زعمت كل من الصين والولايات المتحدة وجود استثناءات ذات ولاية سامية، مثلما فعلت إنجلترا وفرنسا طوال أعوام كثيرة من تاريخهما. وكان لألمانيا واليابان انفجار للاستثنائية لديهما. أمّا روسيا فتتمتع بمرونة ملحوظة جرى التعبير عنها بشكل مختلف بمرور الوقت: روما الثالثة، والمملكة السلافية، والمقر العالمي لمنظمة الشيوعيين الدولية.[7]

يتطرق كوتكين في المقالة نفسها إلى الطبيعة الخاصة للجغرافيا الروسية التي كثيراً ما كان لها أثر حاسم في سياستها الخارجية، ويقول:

ومن العوامل الأُخرى التي شكلت دور روسيا في العالم، الجغرافيا الفريدة التي تتمتع بها. فهي لا حدود طبيعية لها، باستثناء المحيط الهادىء والمحيط المتجمد الشمالي (الذي أصبح الآن حيزاً متنازعاً عليه أيضاً). لقد شعرت روسيا طوال تاريخها، خلال التطورات المضطربة في كثير من الأحيان في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، بأنها عرضة للخطر على نحو دائم، وكثيراً ما أظهرت نوعاً من العدوانية الدفاعية. ومهما تكن الأسباب الأصلية وراء التوسع الروسي المبكر – والذي كان قسم كبير منه غير مخطط له – فإن العديد من الطبقة السياسية في البلد أصبح يعتقد بمرور الوقت، أن مزيداً من التوسع فقط قادر على تأمين عمليات الاحتياز [من حيّز] التي كانت تتم سابقاً. وهكذا، كان الأمن الروسي يعتمد بشكل تقليدي على الانتقال إلى الخارج، بذريعة الهجوم الخارجي المسبق..[8]

إن تاريخ روسيا الذي شكلته الجغرافيا الواسعة والممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادىء، يوفر أدوات جدل كافية لفهم سبب النَّفَس الإمبراطوري في رؤيتها إلى الأمن القومي وتحديد سياستها الخارجية، والذي كان لديها وسيبقى لديها دائماً. فعلاوة على الجغرافيا السياسية الفريدة، فإن مفهوم امتلاك مهمة خاصة، لا يجعلها تشعر بأنها فقط دولة قومية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، بل إنها ستؤكد نفسها دائما كقوة عالمية في السياسة الدولية أيضاً. وهذا المنطق يضيف مزيداً إلى كونها لغزاً، لأنه فضلاً عن فقدان الأراضي، ومع أنها لا تزال أكبر بلد في العالم، فإنها اختبرت انخفاضاً في الدينامية الاقتصادية ورأس المال البشري، وهما أمران أساسيان لتحوز مركز قوة عظمى.

دلالة على ما سبق، يكفي النظر إلى حجم اقتصاد روسيا الذي يبلغ من حيث القيمة الدولارية 1,5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبالتالي يساوي 1 / 15 فقط من حجم اقتصاد الولايات المتحدة. كما أن الناتج المحلي الإجمالي في روسيا هو أكبر قليلاً من الناتج المحلي الإجمالي في أسبانيا (وهي الدولة التي يقلّ عدد سكانها عن ثلث عدد سكان روسيا)، وأصغر كثيراً منه في إيطاليا (التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة تقريباً، في حين يبلغ عدد سكان روسيا 145 مليون نسمة). والأهم من ذلك، أن ميزانية روسيا العسكرية أقل من عُشر ميزانية الولايات المتحدة، وخُمس ميزانية الصين، وأصغر من ميزانية اليابان.

إقرأ على موقع 180  الإستبداد والإحتلال والحروب.. بالهويات

وعلى الرغم من هذه الأرقام الملموسة، فإن هناك تقريباً إجماعاً في الآراء، وخصوصاً في العالم الغربي، على أن روسيا عادت لتكون قوة عظمى ذات قدرة عالمية. وفي أغلب الظن، نشأ هذا التصور الغربي المضلل – إن لم يكن المشوَّش – عن نجاح روسيا في حجز مكانة لها في مجال السياسة الخارجية، والذي ظهر جلياً في الشرق الأوسط، وفي المقام الأول عندما تدخلت روسيا في سوريا في سنة 2015، مانعة هزيمة نظام بشار الأسد، ومؤدية دوراً أساسياً في بقاء هذا النظام، على الرغم من تشرذم البلد. ويعبّر ترينين عن هذا الأمر بقوله: “لقد أنقذ هذا التدخل نظام الأسد، وقلل من احتكار الغرب الفعلي للعمل العسكري في المنطقة بعد الحرب الباردة، الأمر الذي يبعث على الأسى وخيبة الأمل من جانب الولايات المتحدة وأوروبا. لقد كان التدخل في سورية مؤشراً إلى عودة موسكو كقوة عظمى.”[9]

وفي المقابل هناك مَن يعتبر، وعن حق، أن الحديث عن نجاحات في السياسة الخارجية لروسيا، استناداً إلى دورها في سوريا، جرى تضخيمه، وخصوصاً أن نشاط روسيا في سوريا في سنة 2015 تزامن مع إحجام الرئيس الأميركي باراك أوباما عن التدخل، إذ إنه، وتحت ضغط مشاركة الإدارة الأميركية السابقة المُكْلفة في العراق المجاور، أظهر أوباما أقصى درجات الحكمة في الحرب في سوريا.

فضلاً عن ذلك، فإن الوجود الروسي الشامل في سوريا لا يعود فقط إلى استغلال فلاديمير بوتين لتهاون أوباما في التعامل مع سوريا، بل لأن الأول وضع أيضاً سياسة حكيمة أعطته اليد العليا في سوريا التي كانت فعلاً، الشريك الاستراتيجي لموسكو منذ سنة 1956. ففي أعقاب حرب السويس في تلك السنة، بدأت مبيعات الأسلحة من الكتلة السوفياتية إلى سوريا، وشُرع في تدريب الجنود والطيارين السوريين في بولندا ثم تشيكوسلوفاكيا، واعتباراً من سنة 1971 فصاعداً، بدأت السفن الحربية السوفياتية والغواصات تستخدم ميناء طرطوس، كما وقّع البلدان معاهدة للتعاون الاستراتيجي. وعلى هذا، لا ينبغي لنا أن ننظر إلى النشاط الروسي في سوريا في سنة 2015 باعتباره ظاهرة جديدة تدفع موسكو إلى “مركز القوة العظمى”، بل علينا أن ننظر إليه باعتباره استمراراً للالتزامات السوفياتية تجاه دمشق من جانب الدولة التي ورثت الاتحاد السوفياتي.

ومن الجدير بالذكر، أن الإنجاز الروسي المزعوم في مساعدة بشار الأسد على البقاء ما كان له أن يتحقق من دون الدعم العملي الذي تقدمه إيران وحزب الله اللبناني للنظام السوري، إذ لا يكفي الدعم الجوي الذي تقدمه روسيا إلى النظام في استعادة المناطق التي خسرها، من دون الدعم الأرضي الذي تقدمه إيران والحزب.

ويحاجج راجان مينون، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة مدينة نيويورك، في مقالة مثيرة للجدل عن السياسة الخارجية، تقييم ديميتري ترينين بشأن دور روسيا في سوريا، ويقول في المقالة المؤرخة في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2019، وتحمل عنوان “روسيا تخسر في الشرق الأوسط وحول العالم”:

روسيا لم تفز في سوريا. وفي جميع الأحوال، لا توجد جائزة كبيرة، فإعادة الإعمار في البلد الذي بات جزء كبير منه مجرد أنقاض، قُدرت تكلفتها بمبلغ 250 مليار دولار أميركي – أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السوري في سنة 2010، وفقاً للبنك الدولي، وهو مبلغ يتجاوز ما تستطيع روسيا تحمّله. أمّا بالنسبة إلى مبيعات الأسلحة الروسية المربحة في المستقبل إلى سوريا، فهناك سؤال بسيط هو: كيف سيدفع الأسد ثمنها؟[10]

وإلى جانب سوريا حيث تتجلى صورة موسكو كقوة عظمى في الشرق الأوسط، فإن نشاط السياسة الخارجية الروسية كان دائماً ضخماً في الأجزاء الأُخرى من المنطقة، ولم تشهده حتى فترة الاتحاد السوفياتي. فروسيا موجودة في ليبيا ومصر والخليج والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، غير أن المكاسب التي تزعم روسيا أنها حققتها في بقية دول الشرق الأوسط كانت مضخمة أيضاً. ففي ليبيا، كان دعمها لخليفة حفتر، العسكري القوي، من خلال منظمة القوات شبه العسكرية الروسية المعروفة بمجموعة فاغنر، وعبر اللاعبين الإقليميين مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، لكن هذه الدول، إلى جانب المملكة العربية السعودية، كانت هي صاحبة النفوذ الأكثر والحصة الأكبر في ليبيا.

على موسكو أن تُقنع بسياساتها مصر ودول الخليج، أصدقاء الولايات المتحدة والغرب، أخذاً في الاعتبار التحول السريع في العالم من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب في عصر ما بعد الحرب الباردة. إن روسيا تمثّل قيمة لدول الشرق الأوسط من ناحية تحقيق مصالح تلك الدول على النحو الأمثل، وليس لتكون بديلاً من الولايات المتحدة. وفي هذا السياق أكد مينون، في مقالته عن السياسة الخارجية، أن:

بالتأكيد لعب بوتين أوراقه بشكل جيد، لكن عندما يحين وقت الحسم، فإن هذه الدول كلها ستظل تعتمد على الولايات المتحدة وترتبط بها ارتباطاً أوثق. ولا أحد يستطيع أن يقايض الصلة الأميركية، على الرغم من عيوبها، بالخيار الروسي.[11]

إن صلات روسيا بإسرائيل يجب أن يتم وضعها على الطاولة أيضاً. فالناطقون بالروسية في إسرائيل يمثلون الكتلة الشعبية الأكبر، إذ إن هناك نحو 1,500,000 إسرائيلي ناطق بالروسية من مجمل عدد سكان إسرائيل البالغ 8,700,000 نسمة، أو ما نسبته خُمس السكان تقريباً. وقد عكس ذلك نفسه في المجال السياسي عبر ارتباط روسيا بوتين بعلاقات جيدة نسبياً طوال أعوام من عمر سيطرة نتنياهو على الحياة السياسية في إسرائيل، خلافاً لطبيعة العلاقة التي كانت قائمة خلال العهد السوفياتي. لكن مثلما هي الحال بالنسبة إلى علاقات موسكو بالدول العربية، وعلى الرغم من النواحي الإيجابية، فإن علاقة إسرائيل بروسيا ليست بالقدر نفسه من أهمية علاقتها بأميركا، كما أن روسيا لن تحل محل الولايات المتحدة في علاقتها بالدولة اليهودية.

قبل بضعة أسابيع من مقالة مينون، نشر باحث أميركي آخر، وخبير بشؤون أوكرانيا وروسيا والاتحاد السوفياتي، هو ألكسندر موتيل، مقالة في “فورين بوليسي” (Foreign Policy) في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعنوان: “ربما يريد بوتين أن يكون إمبراطوراً، لكن روسيا ليست قوة إمبراطورية”، جاء فيها:

بالنسبة إلى مراقب في سنة 2019 ، قد يبدو الأمر كأن روسيا كانت دوماً – وسيكون لديها دوماً – مصلحة ثابتة في الحفاظ على السيطرة الاستبدادية في الداخل، والسيطرة الإمبراطورية في الخارج… ومثلما يعلم أي شخص يقدّر التاريخ الروسي، أو أي تاريخ آخر، فإن أي دولة لا تستطيع أن تحافظ على مصالح متطابقة على امتداد تاريخها، لأن الدول والمناطق المحيطة بها تتغير دوماً. فروسيا اليوم ليس موسكوفي [موسكو باللاتينية، وكانت تُدعى كذلك عندما كانت دوقية] كما كانت قبل 600 عام، والمغول ليسوا الغرب، كما أن بوتين، وعلى الرغم من بعض التشابه السطحي، ليس إيفان الرهيب. إن الثبات هو مجرد خرافة، بينما الجغرافيا والاستراتيجيا لهما الأهمية. وفي المحصلة، فإن السياسة الخارجية أصبحت تتشكل من الجغرافيا السياسية، والمصالح القومية والأيديولوجيات، وكذلك من نموذج النظام السياسي، وشخصية القائد، والتوقيت التاريخي، والسياق، وعناصر أُخرى كثيرة.

إن فهم السياسة الخارجية الروسية يتطلب دراسة تطورها التاريخي، وهو ما يعني، في المقام الأول، النظر إلى روسيا المعاصرة باعتبارها وريثة الإمبراطورية السوفياتية – الدولة ذات المركزية العالية، حيث حدد المركز الروسي السياسات الداخلية والخارجية للجمهوريات غير الروسية – ونتاج الانهيار المفاجىء لتلك الإمبراطورية.[12]

لم تتغير أساسيات ذلك الجدل في سنة 2021. فقد نشرت “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في إصدار أيار/مايو – حزيران/يونيو 2021، مقالة لافتة للنظر لتيموثي فراي، أستاذ السياسة الخارجية ما بعد الاتحاد السوفياتي في جامعة كولومبيا، يعكس عنوانها الإشكالي العنصر اللغزي لروسيا، وقائدها غير المتنازع عليه بوتين، وهو: “الرجل القوي الضعيف في روسيا: الصفقة الخطرة التي تُبقي بوتين في السلطة”، جاء فيها:

لقد انبهر بوتين بالطفرة الاقتصادية التي يغذيها النفط، والتي رفعت مستويات المعيشة بشكل حاد في العقد الأول من حكمه، وتسببت بموجة من المشاعر القومية في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في العقد الثاني. لكن مع بداية زوال الاهتمام بهذين الإنجازَين، أصبح بوتين في العقد الثالث من ولايته يعتمد بشكل متزايد على القمع لتحييد المعارضين الكبار والصغار على حد سواء. ومن المرجح أن يشتد هذا الاتجاه مع تصاعد مشكلات روسيا، الأمر الذي من شأنه أن يعجّل في حدوث دورة من العنف السياسي والضائقة الاقتصادية التي قد تؤدي إلى إحباط طموحات بوتين في أن تكون روسيا قوة عظمى…[13]

وجذبت هذه المقالة الانتباه إلى معضلة بوتين (وروسيا) فيما يتعلق بالسياسة الخارجية أيضاً، إذ يقول الكاتب في هذا السياق:

إن السياسات اللازمة لتوليد الدينامية الاقتصادية (فتح الاقتصاد أمام التجارة الخارجية، والحد من الفساد، وتعزيز سيادة القانون، وزيادة المنافسة، واجتذاب الاستثمار الأجنبي)،  يصعب أن تتلاءم مع سياسته الخارجية الحازمة التي استفادت منها الجهات المتشددة في وكالات الأمن والشركات المتنافسة على الاستيراد. صحيح أن سياسة الكرملين الخارجية الأكثر مواجهةً للغرب، نجحت في استعادة موسكو كقوة عالمية، وفي تأمين مكانة بوتين في التاريخ الروسي، لكنها أعاقت أيضاً الإصلاحات الاقتصادية الضرورية جداً، والتي من شأنها أن تعزز وضع البلد في الخارج على المدى الطويل، وترضي المواطنين الروس الذين هم في معظمهم، ووفقاً لاستطلاعات الرأي، يهتمون بمستويات معيشتهم أكثر من مركز القوة العظمى لبلدهم.[14]

يمكن اعتبار هذه الأسطر بمثابة خطاب عن “روسيا اللغز” أو “لغز روسيا”. فمع إصلاح العلاقة الأميركية – الأطلسية في أعقاب خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، وتركيز جوزيف بايدن على “عودة أميركا”، وإعطائه الأولوية لقضايا حقوق الإنسان على عكس سلفه، فإن صورة روسيا المستجدة ذات القوة العظمى قد تتأثر سلباً.

وفي المحصلة، قد لا نرى بعد الآن روسيا التي اعتدنا رؤيتها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبغضّ النظر عمّا قد يجلبه هذا المستقبل المحتمل، فإنه ربما لا يبدد “لغز روسيا”.

(*) نقلاً عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية

المصادر:

[1] Lesley Chamberlain, “New Eurasian: How Russians have Long Reacted to Revolution”, Times Literary Supplement (TLS), July 1, 1977, p. 14.

[2] Dmitri Trenin, Russia (Cambridge: Polity Press, 2019).

[3] Ibid.

[4] Igor Torbakov, “Russia and the EU: The Tale of Two Empires”, Eurasianet, November 10, 2015.

[5] Ibid.

[6] Ibid.

[7] Stephen Kotkin, “Russia’s Perpetual Geopolitics: Putin Returns to the Historical Pattern”, Foreign Affairs, May / June, 2016.

[8] Ibid.

[9] Trenin, op. cit., p. 174.

[10] Rajan Menon, “Russia Is Losing in the Middle East- and Around the World”, Foreign Policy, November 18, 2019.

[11] Ibid.

[12] Alexander J. Motyl, “Putin May Want to be an Emperor, but Russia isn’t an Imperial Power”, Foreign Policy, October 28, 2019.

[13] Timothy Frye, “Russia’s Weak Strongman: The Perilous Bargains That Keep Putin in Power”, Foreign Affairs, May/June 2021.

[14] Ibid.

Print Friendly, PDF & Email
جنكيز تشاندار

صحافي وكاتب تركي

Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "سونيا"، أشهر جاسوسة شيوعية.. ودوافعها عقائدية!