فلسطين المقاومة.. تعددت الطرق والهدف واحد

شاءت الأقدار أن يكون العلم الفلسطينى بلون قطعة البطيخ دون إزالة قشرتها: أخضر وأحمر وأسود وأبيض.

فى مواضع مختلفة، صار البطيخ رمزا لفلسطين إلى جانب الحَطة أو الكوفية التقليدية، منذ الانتفاضة الأولى (1987ــ1993)، خاصة فى البلدان التى لم يكن مسموحا فيها رفع أعلام فلسطين أو يشكل ذلك خطورة على المتظاهرين. القشرة خضراء يليها جزء أبيض، ثم القلب أحمر وبه بذور سوداء صغيرة.

***

الأبيض تلقائيا يشغل مساحة محدودة فى البطيخ وفى حياة شعب اقترن اسم بلاده بوصف «المحتلة» منذ قرابة القرن، فهو يشكل طبقة رفيعة تحت الجلد أو تحت القشرة مباشرة، أما الألوان الثلاثة الأخرى فقد امتزجت بها أيامهم.

***

أسود. قبل فترة قليلة اتشحت النساء بالسواد وخرج الآلاف فى مظاهرات لتشييع المعارض الفلسطينى نزار بنات والتنديد بموته مُحملين السلطة المسئولية، إذ ألقت القبض عليه قوات الأمن الوقائى فجر يوم 24 حزيران/يونيو الماضى فى جنوب الضفة الغربية بمحافظة الخليل، وأوسعته ضربا، وأفاد المعهد الطبى الفلسطينى بأن عملية التشريح أظهرت أن الوفاة غير طبيعية وجاءت بعد تعرضه لعنف شديد. ومع تزايد الاتهامات والغضب، أوعز رئيس الوزراء محمد اشتيه بتشكيل لجنة تحقيق فورية ومحايدة بخصوص الوفاة. فوجئ الناس خارج فلسطين بمظاهر الاحتجاج والاستنكار وبشعبية الناشط والمعارض الذى كان عضوا سابقا فى حركة فتح ثم صار من معارضيها، فأغلبنا لم يكن يعرف عنه الكثير. ورغم عدم اتفاق البعض مع مواقفه وأطروحاته وطريقته، إذ كان مثلا ضد الثورة السورية ومن المدافعين عن نظام الأسد، لكن موته بهذه الطريقة أضاف اسمه إلى قائمة الضحايا والشهداء ووضع السلطة الفلسطينية ورئيسها فى ورطة، خاصة وأن المعارض الأربعينى كان ينوى خوض الانتخابات البرلمانية قبل تأجيلها فى وقت سابق من هذا العام وكان من المتوقع فوزه، فقد كان ناشطا بشكل كبير على شبكات التواصل الاجتماعى وله العديد من الفيديوهات التى تفضح الفساد الداخلى، ما أسفر عن القبض عليه عدة مرات بتهمة الإساءة للمؤسسات العامة. ملابسات الموقف جعلت حتى من لا يعرف الشخص ولا مآثره يمشى فى الجنازة خلف النعش، مطأطئ الرأس احتراما مثله مثل غيره.

الأمر يختلف عن الانتفاضتين السابقتين، فقد تعددت طرق المقاومة واستيقظ الصحفى النائم بداخل كل شاب وصار بمقدوره أن يوصل رسالته بأدواته ويفضح ما لا يحب

خرجنا من ثنائية السلطة وحماس التى استمرت منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وظهر معارضون آخرون وأطراف مختلفة ترفض الوضع الحالى دون أن تنتمى لجماعة أو حزب تقليدى. تابعنا ذلك عن كثب مع أحداث الشيخ جراح، ورأينا كيف يوجد جيل كامل من الشباب لم يعد يقبل بحدود الـ67 ولا بأسس التفاوض القديمة وله أدواته الخاصة التى تجعل صوته يصل إلى العالم. شيء كهذا من المفترض أن يمرن الذاكرة والبصيرة، دون الغرق فى مقولات مأثورة على شاكلة «شعب لم يتوقف عن ممارسة الأمل»، حتى لو بالفعل كان ذلك يحمل بارقة أمل، ويعد بلون أخضر يلوح فى الأفق.

***

أخضر. مثل حبات الزيتون التى تجمعها الفلاحات من على الأرض. مثل شباب لهم ملامح التوأمين منى ومحمد الكرد، اللذين دشنا حملة على الإنستجرام لإنقاذ حيهما «الشيخ جراح» ولهما أكثر من مليونى متابع على موقعهما. نجحا أن يكون لحملتهما صدىً دولياً، واجتذبا مشاهير من عالم الفن مثل مارك روفالو وفيولا ديفيس، والرياضة مثل لاعب كرة القدم رياض محرز، والموضة مثل عارضة الأزياء بيلا حديد. تم القبض عليهما لنشاطهما على الأرض وفى الفضاء الالكترونى من قبل الشرطة الإسرائيلية بتهمة تكدير السلم والأمن العام، لكن أفرج عنهما بعد ساعات. حوارات منى مع المستوطن اليهودى فى حديقة منزلها تفضح ما يحدث دون عنف، فالعالم يستمع إليه وهو يقول لها: «حتى لو رحلت أنا وتركته لكى، فلن ترجعى إليه، سيأتى آخر ويستولى عليه»، فمقارنة بعام 1990 وصل عدد المستوطنين إلى خمسة أضعافه ليقدر اليوم بحوالى 700,000.
الأمر يختلف عن الانتفاضتين السابقتين، فقد تعددت طرق المقاومة واستيقظ الصحفى النائم بداخل كل شاب وصار بمقدوره أن يوصل رسالته بأدواته ويفضح ما لا يحب. وحين كانت ستجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى مايو الماضى استعد لها 93% ممن لهم حق الانتخاب، 2,6 مليون شخص سجلوا أنفسهم للتصويت والخلاص من وضع لم يعد يرضيهم (من أصل 2,8 مليون ناخب فى الضفة وقطاع غزة)، نصف هؤلاء من المفترض أن يشهد انتخابات للمرة الأولى فى حياته. تم تأجيل الانتخابات البرلمانية لشهر تموز/يوليو الجارى، ولم يتضح إذا كانت الانتخابات الرئاسية ستمضى قدما. ورغم أن الجو ضبابى وليس واضحا تماما إن كان الوقت نهارا أم ليلا، لكن يظل هناك أمل بسبب وجود شباب يبحث عن بدائل، يرفض الاندماج فى المتاح، مستعينا بالخيال والحلم. لا يريد أن يموت من القهر والانتظار مثل جده، ولا من البؤس والظلم مثل أبيه.

إقرأ على موقع 180  التهديد العسكري التقليدي الأكبر لإسرائيل.. في "الجبهة الشمالية"! 

***

أحمر. هؤلاء يطلقون إشارات تحذير. ضوء أحمر متقطع، يليه صوت صفارات إنذار. أحمر بلون الدم الذى تمت إراقته على مر السنوات. أحمر داكن بلون توابل السماق اللاذعة التى تخلط بالزعتر أو تستخدم فى طهى الوصفات الفلسطينية التراثية مثل مسخن الدجاج الذى يشترك فى أكله وتحضيره فلسطينيو الداخل والخارج. يتبادلون الوصفات والمعلومات ويدشنون الحملات على الإنترنت للدفاع عن حقهم التاريخى فى أكلة أو فى بيت أو فى أرض، على تويتر، على تليجرام، على إنستجرام، على تيك توك.. تفاصيل كثيرة، صغرت أم كبرت، تشى بأننا فى نهاية مرحلة وبداية صيف حار.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
داليا شمس

كاتبة وصحافية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لو تكلّمت جدران بيروت!