تحتاج هذه القضية ـ وهي عاجلة ولا تحتمل التأجيل ـ مقاربة سياسية لبنانية جريئة سياسياً وديبلوماسياً وثقافياً وإقتصادياً وإجتماعياً من أجل رسم خارطة طريق يحدّد اللبنانيون من خلالها ما هو ممكن وما هو مستحيل. نبدأ من الأسئلة: ماذا إذا طَرق الإسرائيلي، بوقاحة المستعمر والمحتل، بابَ شركاتِ اللبنانيين وأعمالهم ومدارسهم؟ كيف سيتصرفون إذا طلبت منهم الشركات الإماراتية التي يعملون فيها التوجه إلى إسرائيل؟ وماذا عن الإسرائيليين الذين سيقيمون في الإمارات بدواعي الإستثمار والعمل والترفيه والتعليم؟ وهل هناك من دور معيّن للدولة اللبنانية، أو قل للدبلوماسيّة اللبنانية من خلال علاقتها بدولة الإمارات وما هو دور سفارة لبنان والقيمين على الجالية اللبنانية في هذا الموضوع؟
هذا موضوع جديدٌ، بمكانه وظروفه وأسئلته، ويحتاج إلى مقاربة جديدة، فهو يختلف عن المقاربات السابقة لمقاطعة العدو الإسرائيلي ومناهضة التطبيع، وإن كان هناك بعض التقاطع أحياناً.
ليست الإمارات أول دولة عربيّة توقّع إتفاق سلام مع إسرائيل لكن مسار التطبيع يبدو هذه المرة مختلفاً عن مساراته المصرية والأردنية (سلام بارد بلا تطبيع). “إتفاقات إبراهام” بين البحرين والإمارات من جهة وإسرائيل من جهة أخرى حملت وبصورة مفاجئة لإسرئيل أكثر مما كانت تنتظره أو تحلم به؛ فقد ألغتْ الإمارات تأشيرة دخول الإسرائيليين إلى الإمارات؛ وهذا المستوى من التطبيع غير موجود لغاية الآن حتى بين الولايات المتحدة وإسرائيل بالرغم ممّا يُعرَف عن علاقتهما الخاصة. إضافة إلى ذلك، سمحت الإمارات باستيراد النبيذ الآتي من هضبة الجولان السوري المحتل ليُباع في الأسواق الإماراتيّة، وهذه خطوة تحمل الكثير من الرمزيّة حول مدى إستعداد الإمارات للذهاب بتلك العلاقة؛ ووقَّعت شركة الطيران الإسرائيلية (العال) وشركة الاتحاد للطيران الإماراتية، مذكرة تفاهم لبدء رحلات مباشرة بين تل أبيب وأبو ظبي، في حين أن شركة فلاي دبي للطيران الاقتصادي بدات بالفعل خدماتها التجارية إلى مطار بن غوريون في تل أبيب؛ إضافة إلى مشاريع إستثمارات إماراتيّة في حقول الغاز الإسرائيلية وتزويد الإمارات بتكنولوجيا تحلية المياه الإسرائيلية وعشرات الإتفاقات الأخرى.. وأخيراً بدأ الحديث عن منح الجنسية الإماراتية لإسرائيليين؛ كما أعلنت دولة الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في إسرائيل.
وإذا كان توقيع معاهدة كامب ديفيد (1977) إستوجب قطع العلاقات الدبلوماسية للدول العربية مع مصر وإنتقال مقر جامعة الدول العربيّة إلى تونس، فإن “إتفاقات إبراهام” الأخيرة بين إسرائيل ودولتي الإمارات والبحرين (ثم المغرب والسودان) لم تُقابَل بأي إدانة عربية واضحة وصريحة، لا بل كانت أصوات الموافقة تنطق كثيراً أين كنّا وأين صرنا. لقد أصبح الآن الإشتباك مع إسرائيل على جميع الأرض العربيّة وليس فقط داخل فلسطين المحتلّة أو الأراضي العربيّة المحتلة. إسرائيل في الإمارات والبحرين والسودان والمغرب وربما لا بل من شبه المؤكّد، أنها في الطريق إلى بلدان عربيّة أخرى بالرغم من حرب غزة الأخيرة التي أضاءت على الهوّة بين الشعوب العربيّة الرافضة للتطبيع والدول المطبِّعة.
يواجه رافضو التطبيع خيارين: إما القول “بأنّ الخليج راح وأصبح في محور آخر”، وما علينا سوى الرحيل (إلى أين؟)، وهذا الخيار غير واقعي وهم بأغلبيتهم لن يقدموا على ذلك؛ وإما الإصرار على الحضور الفاعل في جميع الحقول لأنّ كل فراغ هو فرصة لإسرائيل حتى تملأه؛ وهذا الخيار هو الأكثر واقعية
سأبدأ بفرضيّة تلامِس الحقيقة مفادها أنّ كل خسارة للبنان هي ربحٌ صافٍ لإسرائيل. إن صحّ ذلك في عالم السياحة والتجارة ـ وهو صحيح ـ يصحّ أيضاً في مجالات أخرى سأعرضها على الشكل الآتي:
أولاً؛ الدور التجاري الإقليمي الذي قام به لبنان لعقود من خلال مرفأ بيروت، مرشّحٌ أن ينتقلَ إن لم يكن فعلاً قد إنتقل إلى مرفأ حيفا بعد أن تمّ تدمير مرفأ بيروت؛ وقناعتي أن الأيادي الإسرائيليّة ليست بعيدة عن تفجير الرابع من آب/أغسطس 2020.
ثانياً؛ الدور المصرفي اللبناني الذي تميز إقليمياً نتيجة التقلّبات والتطورات السياسيّة العربيّة منذ الإستقلال حتى الأمس القريب.. وعالمياً من خلال ربط اللبنانيين المنتشرين في العالم بوطنهم الأم؛ هذا الدور وإن يكن ثمة حاجة لإعادة النظر في طبيعته ووظيفته المستقبلية بفعل متغيّرات بنيوية كثيرة، إلا أننا نشهد ملامح تدميره خطوة خطوة لمصلحة إسرائيل وقطاعها المالي ـ المصرفي.
ثالثاً؛ الدور السياسي الثقافي الإعلامي التنويري الذي مثّله لبنان وتحديداً بيروت، يجري تدميره بشكل ممنهج، عبر تدمير النسيج الإجتماعي ومن ثم أبرز البنى التحتية السياحية والتجاريّة والخدماتية والإقتصادية؛ وهذا كله أدى ويؤدي إلى هجرات جماعيّة وبالأخصّ لنخب لبنان وشبابه وشاباته؛ وفي هذا أيضاً ربحٌ صافٍ لإسرائيل. إذاً كنّا وما نزال أمام تاريخٍ حافلٍ من التدمير الممنهج لكل مقومات الدولة اللبنانية، وما تعنيه من مؤسَّسات دستورية وعسكرية وقضائية وتربويّة وصحيّة، وهذا التدمير حصل بأيدٍ لبنانيّة وعربيّة وإقليمية وإسرائيلية ودوليّة.
وحتى لا نستفيض أكثر، نعود إلى موضوعنا الأصلي، وهو كيفيّة تعاطي اللبنانيين في دول الخليج وخاصة الإمارات مع قضية التطبيع البالغة الحساسية والخطورة، لا سيما وأن هذه الدول الثلاث تستضيف وجوداً لبنانياً يُقدّر بعشرات وربما مئات الآلاف؛ وهو وجود يلعب دوراً حيوياً في حياة لبنان، حاضراً ومستقبلاً، لناحية تدعيم صمود عائلات لبنانية في أرضها والحدّ من الهجرات البعيدة نحو كندا وأميركا وإستراليا حيث لا عودة ولا من يحزنون.
لنتصارح أولاً بأنّ ليس كل اللبنانيين العاملين في الإمارات محصنون بثقافة رفض التطبيع وإن كانوا بأكثريتهم كذلك. يواجه اللبنانيّون هناك وخاصة الذين يرفضون التطبيع خيارين: إما القول “بأنّ الخليج راح وأصبح في محور آخر”، وما علينا سوى الرحيل (إلى أين؟)، وهذا الخيار غير واقعي وهم بأغلبيتهم لن يقدموا على ذلك؛ وإما الإصرار على متابعة الحضور الفاعل في جميع الحقول لأنّ كل فراغ هو فرصة لإسرائيل حتى تملأه؛ وهذا الخيار هو الأكثر واقعية.
الإنسحاب يعني أن تملأ إسرائيل الفراغ في معظم المؤسسات؛ من إقتصادية وتربوية وفنيّة وثقافية ورياضيّة وإعلاميّة..إلخ. نحن نتكلّم عن دول عربيّة ساهم اللبناني كما الفلسطيني والمصري والسوري في عمرانها وبناء نهضتها، ونسج علاقات مع أهلها لم تكن تجاريّة وإقتصادية وخدماتيّة بل علاقات مجتمعية، بسلبها وإيجابها.
وكلنا نعلم أن الإسرائيلي وقحٌ، وسيدفع بإتجاه تطفيش اللبنانيين والعرب (بمن فيهم من غير مناهضي التطبيع) من الإمارات وغيرها من الدول المطبّعة مع الدولة العبرية ليحلَّ محلهم. هكذا يحتلُّ الأساتذة الإسرائيليون أبرز المناصب التعليمية في الجامعات وما أدراك ما سيحلّ بمناهج التعليم ومقرّراتها؛ وهكذا أيضاً يحتلّ الأطباء الإسرائيليّون العيادات والمراكز الطبيّة؛ وهكذا يحتلُّ التجّار مراكز التجارة حيث البضائع الإسرائيليّة تحتلُّ الأسواق لتحلّ محل المنتوجات والبضائع اللبنانيّة والسورية والعراقية والأردنية وحتى المصرية؛ وهكذا أيضاً تحتلّ شركات الهندسة والبناء الإسرائيليّة السوق وتحلّ مكان المهندس اللبناني والعربي. لن يرضى الإسرائيلي فقط بالإنفتاح والعلاقات الديبلوماسية والتطبيع مع دول الخليج؛ بل هو يريد أن يحتكر الساحات العمرانية والإقتصادية والتجاريّة والطبية والفنيّة والإعلاميّة والثقافيّة وفصل شعوب تلك الدول عن تاريخها وثقافتها وعلاقاتها الأخويّة مع باقي الشعوب العربيّة.
التركيز على الثقافة ليس صدفة؛ فأهميتها تفوق أهميّة التجارة والإتفاقيات الأخرى، لأن الثقافة هي حامية هذه الإتفاقيات؛ فإن طُوّع الوعي فُتحت الطرقات أمام كل أنواع التعاون وإن صمدت الثقافة وتصدّت سقطتْ كل الإتفاقيات مهما بلغ حجمها ومداها
لقد كتب بيتر بيركويتز (المدير السابق لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية) عن الخطوات اللاحقة لتعزيز “إتفاقيات إبراهام” مع الإمارات والبحرين، ومن ثمّ التّوسّع لتشمل بلداناً عربية وغير عربيّة بما فيها قبرص. ومن بين إقتراحاته إقامة الحلقات الدراسيّة وتبادل الاساتذة بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى؛ حيث يأتي أساتذة إسرائيليون للتدريس في جامعات الإمارات وأساتذة إماراتيّون للتدريس في الجامعات الإسرائيلية. كما يطالب بيركويتز ـ وهو مقرب جداً من مراكز القرار الصهيوني ـ بحلقات ثقافية تدريسيّة وبحثيّة للطلاب والصحافيين ورجال الإعمال وموظفي الحكومة..إلخ ولكن الإقتراح الأبرز والمفخّخ هو عدم طرح المواضيع الخلافيّة والتركيز فقط على المواضيع المشتركة كدراسة التراث الفلسفي الإسلامي ـ اليهودي والفكر السياسي الذي يدخل في نطاق حريّة الأديان والدراسات المقارنة.
التركيزعلى الثقافة ليس صدفة؛ فأهميتها تفوق أهميّة التجارة والإتفاقيات الأخرى، لأن الثقافة هي حامية هذه الإتفاقيات؛ فإن طُوّع الوعي فُتحت الطرقات أمام كل أنواع التعاون وإن صمدت الثقافة وتصدّت سقطتْ كل الإتفاقيات مهما بلغ حجمها ومداها.
إذا كان الإسرائيلي سيدفع بإتجاه تطفيش الحضور اللبناني والعربي، فعلى اللبناني تحديداً، وبدور فاعل وحاضن للدولة اللبنانيّة، أن يعمل المستحيل ليبقى وأن يكون فاعلاً في جميع المجالات الإقتصادية والتجاريّة والثقافيّة والفنية. تكثيف اللقاءات مع الأدباء والكتّاب والأساتذة الإماراتيين وتبادل النشاطات الجامعيّة والأدبيّة والثقافيّة والفنيّة يجب أن تزداد برغم الظروف التي يمر بها لبنان.
نحن حقاً في مرحلة جديدة. المقاول اللبناني يجب أن ينافسَ الإسرائيلي وإذا فُرِض عليه أن يخوض مناقصة بوجهه فلتكن. فالإمارات والبحرين وقطر دول عربيّة شقيقة والعربي لا ينسحب ويخلي المكان للآخرين، بل على المستعمر الصهيوني أن يجري تطفيشه إن أمكن.
اللبنانيّون وكثيرٌ من العرب متواجدون في دول الخليج قبل بدء التطبيع بعقود. ساهموا في عملية بناء وإزدهار دول الخليج في شتى المجالات. رافقوا بدايات المسيرة العمرانيّة لهذه البلدان وعايشوها لعقود، وهذا ما يجب المحافظة عليه من خلال سياسة خارجيّة جديدة ذكيّة بعيدة النظر.
إذا كان اللبناني يعمل في شركة وطُلِب منه الذهاب إلى إسرائيل فالجواب واضحٌ بإنّ الذهاب لإسرائيل مخالفٌ للقوانين اللبنانيّة عدا أنه مخالف لأبسط القواعد الأخلاقية تجاه دولة مستعمرة أذاقت اللبنانيين الأمرّين، وعلى اللبناني التمسّك بالخضوع للقوانين اللبنانية، وفي هذا المجال، تستطيع الدولة اللبنانية من خلال علاقتها بدولة الإمارات طرح هذه المواضيع للمعالجة على اساس قوانين المقاطعة التي يتمسّك بها لبنان دون أن تؤثّر على وضع العاملين في الشركات المطبِّعة؛ وهذا يحتاج إلى دبلوماسيّة حيوية وناشطة ومرنة في العلاقات بين الدولة اللبنانية وكل من دولة الإمارات ودولة البحرين. إنشاء شركات مع إسرائيليين في دول الخليج العربي هذا ايضاً مخالف للقوانين اللبنانية، أما العمل في شركات إماراتيّة أو مؤسّسات إماراتيّة تستقطب إسرائيليين كالجامعات والمستشفيّات ومؤسسات أخرى فهذا يتطلّب من اللبنانيين المقيمين السّعي للعمل في تلك المؤسّسات وليس الإبتعاد والإحجام عن طرق أبوابها، والإصرار على ملء الفراغ الذي يعمل الإسرائيلي وبوقاحة ليملأه.
على اللبنانيين ألّا يتركوا الساحة للإسرائيليين. يجب أن تزداد طلبات العمل والتعليم والتصدير إلى الإمارات وسائر دول الخليج، في إطار إستراتيجية ديبلوماسية لبنانية واضحة المعالم، بدل ترك الأمر للإرتجال
أما كيفية التعامل مع الإسرائيليين الزائرين إلى الإمارات والمقيمين لاحقاً فيها، فأظن أن الكثير من الإسرائيليين سيزورون الإمارات. في هذه الحالة ينطبق على اللبنانيين في الإمارات ما ينطبق على اللبنانيين المهاجرين في الديار الأوروبية والأميركية. في المؤسّسات كالجامعات مثلاً يتعامل الأساتذة اللبنانيون والفلسطينيون والعرب مع طلابهم الإسرائيليين كما يتعاملون مع باقي الطلّاب؛ ويتعامل الأطباء اللبنانيّون والعرب مع الأطباء الإسرائيليين في المراكز الطبيّة، جامعيّة كانت أم خاصة. وما يصحّ على الجامعات والمراكز الطبيّة يصحّ أيضا على المؤسّسات الكبرى. أما بالنسبة للمشاركة في المؤتمرات مع إسرائيليين، فهذه مسألة أخرى وكثيرون من العرب الأميركيين يرفضون ذلك ويتمسّكون بمبدأ المقاطعة وعلى اللبنانيين أن يقتدوا بهؤلاء. أما خارج المؤسّسات، فللعربي – الأميركي حريّة إختيار الطبيب والمهندس وكل أصحاب المهن والمحلّات التجاريّة التي يتسوّق منها وبالطبع مقاطعة البضائع والشركات الإسرائيلية وكل ما له صلة فيها.. هي أفضل الخيارات وأصدقها.
هذه المقاربة ينطبق عليها مبدأ “كل مواطن خفير”، على ما دعا إليه الأديب سعيد تقي الدين في غابر الزمن. فمقاطعة البضائع الإسرائيليّة في أسواق الإمارات من قبل المقيمين العاملين اللبنانيين هناك.. خيار فردي لا بل واجب من دون الإخلال بالقوانين الإماراتيّة التي تعرضّهم للترحيل أو لعدم تجديد إقاماتهم.
على الدولة اللبنانية ومن خلال الدبلوماسيّة الهادئة والهادفة ألاّ تفوّت الفرصة على آلاف اللبنانيين المنتشرين في دول الخليج من البحرين حتى السعودية مروراً بالإمارات على متابعة حياتهم المنتجة التي أصبحت ضرورة وجوديّة للبنان؛ ماديّة وديموغرافيّة كونها تحدّ من هجراتهم البعيدة، وعلى اللبنانيين ألّا يتركوا الساحة للإسرائيليين. يجب أن تزداد طلبات العمل والتعليم والتصدير إلى الإمارات وسائر دول الخليج، في إطار إستراتيجية ديبلوماسية لبنانية واضحة المعالم، بدل ترك الأمر للإرتجال أو .