في السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام ٢٠٢٣، استفقتُ على أجمل مشهد حلمت به عيناي، وأجمل خبر سمعت به أذناي. كانت تلك مشاعر تلقائية، عفوية، وأنا أرى محتلّين مغتصبين متكبرين مثيري الفتن والتفرقة كثيري الصّلافة والعجرفة يهربون خوفاً ممّن امتلكوا الحقّ في الأرض، والجرأة في الإقدام، والقدرة على الانتقام.
كان مشهداً من مشاهد التّحرير التي بَقَيْت، من حينه، أراه أمامي، بكلّ تفاصيله، عند كلّ أنّة ووجع حصل بعده. مشهدٌ من المستقبل، جبّ في روحي وعقلي كلّ ما قبله من اصطفافات وثنائيّات، ليس لأن العاطفة غلبت واستحكمت برغم حجم فورانها، بل لأنّ جرأة “الطّوفان”، وتوقّع ما سيؤول إليه العدوّ من رد فعلٍ يرقى إلى حجم أن يبقيه موجوداً، بل يُعزّز وجوده الأرعن، حتّمت عليّ في اللحظة العاطفيّة والإدراكية معاً، أن أرى أمامي أننا أمام مستقبلٍ لا يشبه أي شيء عشناه، وأننا، ونحن نتّخذ موقفنا، إمّا أن نكون، في صلب هذه الحرب، داعمين للمقاومين مهما اختلفنا معهم في قبليّاتنا وبعديّاتنا، وإما أن نكون حتى في اختلافنا المنطقيّ، داعمين لمستعمرٍ يحكم العالم، ويريد أن يزيد هذه المرّة، تحت ذريعة “طوفان الأقصى”.
كلّ ما حدث بعد ذلك من إبادة وإجرام، بالنسبة لي شخصيّاً، كان متوقّعاً بعض الشيء. عدوٌّ يحكم العالم، ويجيد خلق الذّرائع، وتحوير السّرديّات، لن يتوانى عن القفز فوق كلّ قوانين العالم، ليغسل “عار الطوفان”، ويُمدّد عار وجوده واحتلاله.
كُتب الكثير بعدها عن “مغامرة السنوار”، وعن تهوّره. جُلدت الضّحية مرّاتٍ ومرّات في كلّ مرّة تفنّن المحتلّون بالإبادة. الضحيّة التي خطّطت لأن تأسر جنوداً وتبادل بهم، فتفاجأت ذات ليلة بأنّ عدوّهم “خسع”.. وكان ما كان. الضّحية التي نظّمت قبل ذلك سلميّاً ما عُرف بـ”مسيرات العودة”، وقوبل السلم بالدّم. الضحيّة التي حوصرت، ورأت في كلّ يوم كيف يتمدّد العدوّ في الضفة الغربية، وكيف يقضمها ويُقسّمها، وكيف يجيد التفرقة بين أبناء الأرض، وكيف ينجح في إقامة علاقات تطبيعية مع بلاد عربية بثمن بخسٍ بخسٍ بخس.. وكيف يستفيد حتى من كلّ الفلسفات و”التنويرات” لمصلحته. تماماً لمصلحته.
ملامة يحيى السنوار كانت تزيد وتزيد. فظاعة مشهد الإبادة كانت لتهدّ قلوباً بحيلها وتجعلها تتمنّى لو أنّ شيئاً لم يكن. لا سيّما، وأننا أمام عالم يتفرّج، ومصالح وسياسات تعرف كيف تقتنص الفرص على وقع المجازر والدّماء. لقد قدّم السنوار ذريعةً، نعم.. لقد كانت قراءته للمشهد قاصرة. أيضاً نعم. حصل هذا.. لكنّه لا يُلام. كان هذا موقفي الثابت، طيلة أحداث هذه السنة. ولا يحقّ من وجهة نظري لأحدٍ أن يزايد. أبناء غزّة أنفسهم ظلّوا ينطقون بهذا حتى وهُم في قلب الجحيم. صعبٌ جداً أن تعيش الذّلّ، وأن ترى استنزافك وذبحك على مهل أمام عينيك، ولا تحرّك ساكناً. صعبٌ جداً أن تحاول وتحاول، وفي كلّ مرة تحاول فيها يزيد عدوّك تعنّتاً وبغيا، وجارك العربيّ غدراً وتقهقراً. كان لا بدّ للمشهد أن يبلغ الذّروة. أمّا وقد بلغه، سيصبح الموقف مسؤولية كبيرة جداً، ويجب أن يتحمّل كلّ فردٍ حينها مسؤوليته أمام التاريخ. تاريخه الشّخصيّ، والتاريخ بشكل عام..
هكذا، خاض العدوّ منذ اللّحظة الأولى حرب وجوده من جهة، كما و”وجود” نتنياهو من جهة أخرى. ومن يعرف معنى حرب الوجود، يدرك أنها سعيٌ متتابع وبقرار ثابت لإزالة كل الأخطار المحيطة، وبقوّة ضاربة حدّ الجنون، مستعينة بشتى الأدوات الدينية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية. قالها نتنياهو من البداية، إنها حرب طويلة، سيقضي في نهايتها على “الدواعش”، وعلى “محور الشّر”، وسيُغيّر من خلالها الشرق الأوسط.
لقد نُكبنا، لكننا بقينا. البقاء. البقاء كغريزة قبل أن تكون أيديولوجيا أو أي شيء آخر. البقاء كأبسط آلية دفاعية يمتلكها صاحب عنفوان، وإلا، ما أكثر المُستعبَدين. إنّهم كادوا كيدهم، وسيكيدون، وسعوا سعيهم، وسيسعون، وناصبوا جهدهم، وسيناصبون، لكنهم، إنما يفعلون كلّ ذلك لأنهم يعلمون ـ وهم خائفين ـ أنهم، غريزياً، حظوظهم بالبقاء قليلة، وحظوظنا بالبقاء أقوى
أبناء هذه الأرض، وجوارها، ممن يشكّلون في وجودهم نفسه خطراً على المحتلّ العنصريّ، يختلفون في أفكارهم ومعتقداتهم. لكنهم تقريباً لا يختلفون في عدائهم لاسرائيل. يختلفون في قراءة المشهد، وشحذ أدوات المواجهة، لكنّهم في العمق لا يصطفّون مع المستعمر. اختلفت الآراء. بعضهم في صلب الحرب والإبادة قدّم لعدوّه خدمة من حيث لا يحتسب، فالعدوّ يعرف تماماً كيف يستعين بكلام حقٍّ يريدُ به باطلاً. “الرأي قبل شجاعة الشجعان، هو أوّلٌ وهي المَحِلُّ الثّاني”. قالها المتنبّي يوماً وبالغ، ولو يعلم أهل الرأي والموقف – وهم يعلمون – أنهم يمتلكون سلاحاً في الحرب، لعرفوا أن كلّ موقفٍ هو سلاح، إما سيُصبّ لمصلحة العدوّ، أو العكس. وحين تضع الحرب أوزارها سيصبح لكلّ حادثٍ حديث، ولكل رأيٍ مجراه..
ذهب نتنياهو بعيداً في إجرامه” النوويّ” الصنف. ذهب وألحق معه أميركا وأتباعها من أهل الغرب، وضمن في حربه صمت العرب، بل دعمهم، وذهب كثيرون وسط كل ذاك الواقع، ليطلقوا من موقعهم “المقاوم” تنظيراتٍ وطوبى جميلة، من شأنها أن تنتقد الخلفية الدينية للمقاومين، وأن تطالبهم برؤية مكتملة للصراع لا تجعل من فعل المقاومة هباءً منثورا وعبثاً لا جدوى منه. ويا ليت جميل ما في الكتب سهل التطبيق، ويا ليت نوايا العدو تنتظر مراجعاتنا وتأبه بها، ويا ليت مراجعاتنا منسجمة مع عجلة الواقع. لم يترك الواقع حيزاً إلا للتفكير بالبقاء، البقاء الحقيقي لا الوهمي ابن الشعر والشعراء وكتاب السلاطين وكثيري الكلام السهل. ولأن واقع البقاء يرزح تحت معادلة “كدا كدا ميت”، أو “كدا كدا عبد”، سيصبح الاستبسال والعناد ورفض الضيم والظلم آخر الخيارات على الأرض. فما يسمى بمشاريع التنمية في العالم العربي ليست سوى مشاريع رضوخ وتهافت للتفاهة والاستحمار، وما يسمى بسيادة الدول ليس سوى شعارات، ولا تبني هويات مشتركة وأمن قومي مشترك.
سيبدو هذا الكلام بعضاً من كليشيهات المقاومة، أو البروباغندا التي يملّ منها المثقفون والمعارضون، والتي يراها البعض الآخر أنها لم تُورث إنجازاً ولم تُزهر تطوّراً ولم تؤتِ أكُلاً. لكن، إن كان لـ”الطوفان” من رأي، فهو أنّه غربل كلّ شيء، وأعاد للعيون نظّارات الواقع، أقول الواقع، ما هو كائن بالضرورة اليوم، لا ما يجب أن يكون.. وفي قاموس الواقع، يصح القول إن السنوار بفعلته، طوى صفحاتٍ عفنة بسرعة كبيرة من حيث كشف حجم العفن المتغلغل في مجتمعاتنا. وهذه تُحسب له، لا عليه.
هكذا، حكم الواقع على نفسه، وفقاً لموازينه.. ظهر أن إسرائيل، هذا الكيان الإرهابي الأنتي-دولتي والأنتي-أخلاقي، قد أعد العدة جيداً بانتظار الظرف التاريخي.. وحين حان هذا الأخير، نفّذ شغله، بإحكام، مُدعّماً بإبادة “نووية” لم يشهد لها العالم مثيلاً ما بعد اتفاقيات حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية.. وهنا صلب الموقف ومتنه. من هذه الزاوية يُقرأ المشهد، وينسحب على لبنان، إذ أيا يكن موقف المرء من فتح جبهة الإسناد لغزة، مخالفاً أو موافقاً، فإن إسرائيل هذه، قد أعدّت العدة مسبقاً بانتظار اللحظة التي تنقضّ فيها، لتزيل الأخطار المحيطة بها، كما عبر رئيس حكومة الكيان في بداية حربه على غزة. ومهما قيل في الفرص التي أعطيت للبنان من أجل فصل الجبهات وتجنب الحرب، فإنه مذ قَبِل السيد الشهيد حسن نصرالله بهدنة الـ ٢١ يوماً، كان الرد باغتياله. إنها إسرائيل التي لو لمست ضعفاً أو تنازلاً عند من يواجهها، تزيد من الصلافة والعجرفة والغدر.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تخاض حربٌ من أجل كلّ شيء، وليست عبثية البتّة.. هي ليست حرباً على غزة، ولا حرباً على لبنان، ولا حتى حرباً من أجل شرق أوسط جديد فقط. ليست تقاس بحروب الكيان السابقة، وليست تُقرأ من زاوية السياسة وحدها. لقد كثر المحللون/ المتنبئون في هذه المرحلة. كتبوا وأكثروا من الكلام السهل، فاقد الثقل. أخذوا يقرؤون المشهد “بحذاقة”، فإذا ما نجح توقعهم/تنبؤهم في توسع الحرب أو نجاح المفاوضات أو أو، اعتقدوا أنهم جهابذة، قارئين فذّين للسياسة. لكنها ليست حرباً في السياسة فقط. إنها حربٌ في كلّ شيء، من أجل كلّ شيء. هي حربُ التضخم السرطاني الخبيث لكل ما في العالم الحديث من أدران أريد لها أن تتوحّد وتتكثّف في جسدنا. هي حربٌ يراد فيها أن يقتنع العالم، وأن يرى العالم، كلّ العالم، بأن هذا الخبيث حميد، وبأن من يواجهه أياً تكن خلفياته هو مخرّب مؤَبلَس. هي حربٌ خاف معها المرجفون، وانتفض الحاقدون، ووقف أصحاب المال مع القوة، فباعوا واشتروا في الأرض وفي الخطابات، وشمتوا ليكسبوا المزيد، حتى أصبح النازحون في المدارس محتلين لها، وحتى أصبح العميل الصرف، مع الإصرار على كلمة العميل، محاضراً في حب فلسطين والحرص على مصالح الفلسطينيين، مدعّمين أقوالهم ورؤاهم بأقوال المثقفين والمفكرين.
حسناً؛ وهذا موقفٌ راديكالي يجب أن يستجد وأن يكون من بنات هذه الحرب: ممنوعٌ أن تخدعنا الثقافة، وأن يغرّنا جميل ما في الفكر. سيقولون إن القوة غير محصورة بالسلاح. صحيح. وإن أساليب مجابهة العدو الناجعة مغايرة وغير محصورة بالسلاح. صحيح أيضاً. لكن من سيتبناها؟ ما لدينا من دول قوية؟ سيقولون أجهضوا محاولات بناء الدولة. أها حقاً؟ كانت ستُبنى لو لم تُجهض؟ لم تُبنَ، ولن تُبنى، لأسباب متغلغلة في الثقافة والسياسة والعلاقات الخارجية و و.. ولسببٍ رئيسٍ رئيس: وجود الكيان الصهيوني المغتصب.
قالوا في هذه المرحلة من عمر الصراع أننا نعيش نكبةً جديدة. حسناً. لقد نُكبنا، لكننا بقينا. البقاء. البقاء كغريزة قبل أن تكون أيديولوجيا أو أي شيء آخر. البقاء كأبسط آلية دفاعية يمتلكها صاحب عنفوان، وإلا، ما أكثر المُستعبَدين. إنّهم كادوا كيدهم، وسيكيدون، وسعوا سعيهم، وسيسعون، وناصبوا جهدهم، وسيناصبون، لكنهم، إنما يفعلون كلّ ذلك لأنهم يعلمون ـ وهم خائفين ـ أنهم، غريزياً، حظوظهم بالبقاء قليلة، وحظوظنا بالبقاء أقوى.. ثمّ إنهم، بكل يقين الواقع، لن يمحوا ذكرنا، ولو بقي منا حيٌّ واحد. وأنه أيضاً، وبكلّ يقين الواقع، سيأتي يومٌ يزول فيه هذا الكيان.
ستكون قابل الأيام، والمراحل، حبلى بالكثير من التغيرات. وليس أنجع من كلمة “الطوفان” تعبيراً عما حلّ وسيحلّ. ثقافات ستتغير، ووقائع ستتبدّل ومفاهيم ستُدجّن. ستُستكمل المؤامرات وستقام جردات حساب، لكن الصدمة التي حلّت بكلّ الأطراف، سواء أعقبتها نشوة أم نكبة، لم تُرَ تداعياتها العميقة بعد. وفي العمق، أعتقد، سيستتبع أولادي كتابة ما سيرى حينها. ستكمل عني سارة، لو بقيت. وربّما كيندة. وربّما علي. سيكتبون، أو يفعلون، ليسوا وحدهم، بل بمؤازرة أناس تفتحت أعينهم في عالمي الشمال والجنوب على كل ما حلّ وسيحلّ. ثمّ سنبقى، مدعّمين بكلّ آليات البقاء، ومدعّمين بمنطقٍ مفاده، أن ما بعد هذا “الطوفان”، وإن تمدّدت جغرافيا الكيان، فإنّ أسسه في هذه الحرب زُلزلت.. وعلى هذا فليبني طالبو الحياة ودعاة المستقبل الخطط والمواقف!