مع كل يوم يمضي تزداد الأسئلة حول ما ستكون عليه النسخة الجديدة لحركة “طالبان” في السلطة، بعد انكفائها عنها قسراً لمدة عشرين عاما من الإحتلال الامريكي؟ وما هو الدور السياسي والعسكري والاقتصادي الذي ستلعبه هذه الحركة (أفغانستان ضمناً) في منطقة حساسة استراتيجيا في الصراع الدائر بين أمريكا من جهة وكل من الصين وروسيا وايران من جهة أخرى؟
لا يُقصد بالحديث عن النسخة الجديدة لحركة “طالبان” ماهية الأداء الداخلي في حكم أفغانستان، فلا الغرب ولا الشرق يعنيه كثيراً أمر الأقليات وحقوق المرأة والطفل والرجل ولا يهمه امر الديمقراطية وحقوق الانسان، فعندما حكمت طالبان أفغانستان بنظام سلفي متخلف وقمعي من العام 1994 الى العام 2001 لم يتدخل احد لحماية كل تلك الشعارات وانما حصل الهجوم الأمريكي على أفغانستان عام 2001 فقط بعد اتهام “طالبان” بايوائها قادة تنظيم “القاعدة” المتهمين بالتخطيط والتنفيذ لعمليات الهجوم على برجي التجارة العالمي والبنتاغون في كل من نيويورك وواشنطن ورفض تسليم هؤلاء المتهمين وعلى رأسهم زعيم “القاعدة” أسامة بن لادن وأركان حربه.
بعد مرور حوالي الأسبوعين على سيطرة “طالبان” على العاصمة كابول وكل الأقاليم الأفغانية باستثناء منطقة وادي بانشير التي يسيطر عليها الزعيم المعارض لـ”طالبان” احمد مسعود وتبعد عن كابول حوالي 150 كلم شمالاً ومساحتها 3600 كلم2 وعدد سكانها أكثر من 170 الف نسمة، عمل قادة “طالبان” على تلميع صورة حركتهم عبر تصريحات عدة تؤكد انهم استفادوا كثيرا من تجربتهم السابقة في الحكم ومن مرحلة العشرين عاما من الصراع مع أمريكا لجهة كيف سيديرون البلاد كما حاولوا طمأنة الداخل الافغاني بالقول انهم سيشركون قوى أخرى معهم في السلطة. لكنهم تجنبوا الخوض في الدور الذي ستلعبه حركتهم على المسرح الإقليمي في تلك المنطقة الساخنة من العالم والتي تشهد حرباً باردة هي الأولى من نوعها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.. وكل ما قاله قادة “طالبان” في هذا الصدد انهم لن يخوضوا حروبا خارج حدودهم.
باستطاعة “طالبان” بالمنظور السياسي الأمريكي ان تشكل خاصرة رخوة لكل من ايران والصين وروسيا، ففي حال قررت الحركة ان تلعب دور الوكيل الأمريكي في تلك المنطقة على طريقة الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية
ان أطول حدود لأفغانستان هي مع باكستان لجهة الشرق والجنوب ويبلغ طولها 2600 كيلومتر فيما يبلغ طول حدودها الغربية مع ايران 945 كيلومتراً، وفي الشمال يبلغ طول حدودها مع طاجيكستان 1345 كيلومترا و144 كيلومترا مع اوزبكستان و804 كيلومترات مع تركمانستان وفقط 74 كيلومترا مع الصين لجهة الشرق. ان طبيعة هذه الحدود تجعلها على تماس مباشر مع الد أعداء أمريكا حالياً، أي ايران والصين، وعلى تماس غير مباشر مع روسيا من خلال حديقتها الخلفية في جمهوريات جنوب شرق اسيا السوفياتية السابقة (طاجيكستان واوزبكستان وتركمانستان). ومن هذه الزاوية تبدأ التكهنات بشان الدور الذي ستلعبه الحركة في هذا الصراع العالمي الذي يلف حدودها بدائرة كاملة، كما تبدا التكهنات بشأن الاتفاق الذي عقدته أمريكا معها فهل يتضمن هذا الاتفاق امرا ما بشأن دور الحركة المستقبلي في هذا الصراع؟
للاجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة الى ان المباحثات التي أجرتها حركة “طالبان” مع ادارتين امريكيتين (دونالد ترامب وجو بايدن) على مدى العامين المنصرمين لم تكن بعيدة عن اعين الصين وروسيا وايران، فالصين استضافت في أواخر يوليو/تموز الماضي وفدا من قيادة الحركة إجتمع بوزير الخارجية الصيني وانغ يي واعرب خلاله الطرفان عن رغبتهما في التعاون في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي والغربي من أفغانستان، كما كانت روسيا خلال الأعوام القليلة المنصرمة تستقبل وفود “طالبان” في موسكو، فيما إستضافت ايران الكثير من أنشطة الحركة وقادتها على أراضيها خلال العشرين عاما الماضية.
الى اين يقود ذلك؟
انه نوع من السباق بين واشنطن واعدائها على كسب ود حركة “طالبان” مع ارجحية في غير مصلحة أمريكا نظرا للدماء “الطالبانية” الغزيرة على ايدي ادارتها على مدى عشرين عاما، ولكن في السياسة لا عدو مطلقاً ولا صديق مطلقاً بل مصلحة مطلقة. ويمكن قول الامر نفسه ولو بنسبة اقل عن روسيا التي أمضت في أفغانستان قرابة العشر سنوات حين لم تكن “طالبان” قد نشأت (استمر الوجود السوفياتي في أفغانستان من العام 1979 الى العام 1988 فيما تأسست حركة “طالبان” في العام 1994)، اما الصين وايران فلا دماء أفغانية على ايديهما، وهذا ما يعطيهما ارججية إيجابية في التعاون مع دولة “طالبان” الجديدة.
باستطاعة “طالبان” بالمنظور السياسي الأمريكي ان تشكل خاصرة رخوة لكل من ايران والصين وروسيا، ففي حال قررت الحركة ان تلعب دور الوكيل الأمريكي في تلك المنطقة على طريقة الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية، يمكنها ان تستخدم ورقة اقلية الايغوز المسلمة في الصين وأن تساهم في تنظيم صفوف حركاتهم الانفصالية وتدريبها وتسليحها وصولاً إلى إنخراطها في حروب عصابات ضد الإمبراطورية الصينية “الكافرة”، كما يمكن ان تستخدم ورقة الأقلية “السنية” ضد نظام “ملالي الرفضة” في ايران بالطريقة نفسها. اما مع روسيا، فيكفي “طالبان” ان تتمدد بفكرها الديني الاصولي المتطرف في طاجيكستان واوزبكستان وتركمانستان كي تنعش مجددا حلم الانفصال الشيشاني عن روسيا وبالتالي من شأن هكذا سياسة ان تلقى دعما غير محدود من الإدارة الامريكية وحلفائها يبقى اقل بكثير مما انفقته واشنطن خلال حربها مع “طالبان” في العشرين سنة الماضية وبجدوى استراتيجية لا يمكن لاي إدارة أمريكية ان تحلم بها.
صمت “طالبان” حتى الان يمكن ان يكون سببه امر من اثنين فاما هي في مرحلة استدراج العروض واما انها قد أنجزت سابقا عقودا مع أي من الطرفين وتحتاج الى تثبيت دعائم سلطتها حتى تظهر خريطة تحركها في أي من الاتجاهين
في مقابل ذلك لدى أعداء واشنطن الكثير مما يمكن ان يقدموه لحكم “طالبان” وقد بدأت الصين التنقيب عن المعادن بموجب اتفاق مع الحكومة الأفغانية السابقة لم تعارضه “طالبان” ويمكن ان تطوره اكثر بعد ان ثبت وجود ثروة معدنية وغازية في أراضي أفغانستان تقدر بتريليونات الدولارات، كما يمكن ان تلعب الصين دورا هاما في انشاء شبكة مواصلات على “طريق الحرير” يستفيد منه الطرفان، فيما ايران بإمكانها ان تقدم الكثير وتستفيد بالكثير من العلاقة مع حكم “طالبان” فكلاهما نظام إسلامي أولاً، وايران بحاجة لتصريف الكثير من منتوجاتها وابرزها النفط المحاصر أمريكيا والذي تحتاجه دولة “طالبان” ولا طريق لان يصلها سوى بالبر اذ لا حدود بحرية لأفغانستان، والدولة الوحيدة التي يمكنها ان تقدم لها هذه السلعة بأسعار تنافسية هي ايران، وروسيا العليمة جيدا بتفاصيل الحاجات الأفغانية بعد عقد من الزمن كانت فيه موجودة في كل أراضي أفغانستان يمكنها ان تساهم بإعادة اعمار البلاد بسرعة مذهلة.
لا شك ان السباق بين واشنطن واعدائها على كسب حركة “طالبان” يجري على قدم وساق، فيما صمت الحركة حتى الان يمكن ان يكون سببه امر من اثنين فاما هي في مرحلة استدراج العروض واما انها قد أنجزت سابقا عقودا مع أي من الطرفين وتحتاج الى تثبيت دعائم سلطتها حتى تظهر خريطة تحركها في أي من الاتجاهين.