“طالبان” تفتح أبواب آسيا الوسطى لأردوغان!

تبدو تركيا الدولة الوحيدة التي "ربحت" الحرب الأفغانية حتى الآن، وإذا استمرت آلية عمل دبلوماسية الأبواب المفتوحة الجارية بين أنقرة وحركة "طالبان"، على وتيرتها الحالية، فلا شك أن الحضور التركي سيتكرس في بوابة آسيا الوسطى، تماما مثلما تكرس الحضور المذكور في بلاد القفقاس بعد حرب ناغورنو قره باخ بين أذربيجان وأرمينيا في العام الماضي.

قبل سنوات عدة سبقت “اتفاقية الدوحة 2020” التي مهدت لإنسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، كان كبار المسؤولين الأتراك، يؤكدون بقاء الوحدات العسكرية التركية في بلاد الأفغان حتى لو خرجت منها قوات حلف شمالي الأطلسي، ففي آذار/مارس 2012، أطلق الرئيس رجب طيب أردوغان من العاصمة الباكستانية إسلام آباد موقفا اختصر الإستراتيجية التركية في افغانستان حيث قال “تركيا ستبقى في أفغانستان بعد خروج القوات الأجنبية، نعم.. سنبقى هناك حتى يشكرنا الأفغان ويسمحوا لنا بمغادرة بلادهم”.

وكان وزير الدفاع التركي عصمت يلماز هاجم أحزاب المعارضة المعترضة على الدور التركي في أفغانستان وقال في الثاني عشر من تموز/يوليو 2011 “كانت دولة أفغانستان أول دولة اعترفت بتركيا الحديثة، وكانت أول دولة فتحت سفارة في أنقرة، وكان بيننا في زمن أتاتورك حلفا دفاعيا، ولذلك نقف إلى جانب أفغانستان، وبقاؤنا فيها لا يرتبط ببقاء الناتو”.

تلك المواقف السباقة إلى الإعلان عن تطلع تركي لصياغة نفوذ طويل المدى في أفغانستان، لم تأتِ من فراغ، بل هي عملية إحيائية لتاريخ مشترك، يتشارك في استحضاره الأتراك والأفغان معا، حيث يسعون إلى استدعاء الجذور الجينية الواحدة، والمشتركات الثقافية، والمعاهدات الثنائية، وصولا إلى العلاقات البينية بين أفغانستان وتركيا بعد استقلالهما في العشرية الثانية من القرن العشرين المنصرم، ولذلك لم يكن عصمت يلماز يعبث أو يلغو حين تحدث عن حلف عسكري جمع بين كابول وأنقرة في فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك.

النشوء المتزامن تقريبا للدولتين التركية والأفغانية الحديثتين في القرن العشرين، وما رافقه من إعجاب ملك أفغانستان أمان الله (أزيح عن الحكم عام 1929) بشخصية أتاتورك، أفضت إلى أن يتمثل الملك الأفغاني بطريقة الحُكم و”الإصلاحات” الأتاتوركية، إلى أن قيل عنه “أتاتورك أفغانستان”

ما الأرضية التاريخية التي يقف عليها الأتراك والأفغان؟

في دراسة بعنوان “خلفية العلاقات الأفغانية ـ التركية ومستقبلها” نشرها “مركزالدراسات الإستراتيجية والإقليمية” الأفغاني في الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 2014، أنه من “المنظور التاريخي انتقل الشعب التركي من آريانا ـ أي أفغانستان ـ من ضفاف نهر جيحون إلى تركيا الحالية، واستوطن هناك، ولو أمعنا النظر في شجرة أسرة مؤسس الخلافة العثمانية، سيظهر أنه أيضا انتقل إلى تركيا من آسيا الوسطى وأسس الخلافة العثمانية”.

هذا التأريخ يؤسس بلا لبس لمشترك سلالي وجيني، وفي المجال نفسه أن أحد أهم السلاطين الأفغان محمود الغزنوي المولود في مدينة غزنة الأفغانية عام 971 ميلادية هو من أب تركي، على ما تورد الدراسة المذكورة آنفا، فيما “مولانا” المتصوف والشاعر والفيلسوف جلال الدين البلخي المعروف بجلال الدين الرومي، وُلد في مدينة بلخ (1207) الأفغانية وتوفي (1273) في مدينة قونية التركية بعدما استقر فيها زمنا طويلا مثلما يقول حكمت الله زلاند في دراسة منشورة على موقع “جمعية الإصلاح والتنمية الإجتماعية ” الأفغانية  في الثامن من نيسان/ابريل 2018.

وفي سلسلة المشترك الثقافي الذي يعاد إحياؤه، أفغانيا وتركيا، يتقدم إلى الواجهة، المفكر الإسلامي الحديث جمال الدين الأفغاني (1838ـ 1898) فكنيته تدل إلى جنسيته، وقد غادر إلى عالم البقاء في مدينة اسطنبول بعد حياة نضالية صاخبة صرفها بالدعوة إلى إصلاح نظام الحكم العثماني، وكذلك الأمر مع محمود طرزي (1866ـ 1935) ألمع المفكرين الأفغان في عصره، وناشر صحيفة “سراج الأخبار” الذائعة الشهرة والعميقة التأثير في عموم آسيا الوسطى (1911ـ 1919) والتي اتخذت موقفا منحازا بالمطلق إلى جانب السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

أي علاقة كانت بين أفغانستان وتركيا بعد استقلالهما؟

في عام 1919، أعلنت أفغانستان استقلالها، وفي العام نفسه افتتحت تركيا أول بعثة دبلوماسية دولية في كابول، وحين تم افتتاح “مجلس الأمة التركي الكبير” في 23 نيسان/أبريل 1920، كانت أفغانستان الدولة الثانية التي تعترف به بعد أشهر من الإعلان عنه كما يؤكد تقرير منشور (28 ـ 2 ـ 2021) على موقع وزارة الخارجية التركية، وفي الأول من آذار/مارس 1921، “أقيمت العلاقات الدبلوماسية الثنائية مع اتفاقية التحالف بين تركيا وأفغانستان”.

إن هذا النشوء المتزامن تقريبا للدولتين الحديثتين في القرن العشرين، وما رافقه من إعجاب ملك أفغانستان أمان الله (أزيح عن الحكم عام 1929) بشخصية أتاتورك، خصوصا بعد إطلاقه حرب الإستقلال، أفضت إلى أن يتمثل الملك الأفغاني بطريقة الحُكم و”الإصلاحات” الأتاتوركية، إلى أن قيل عنه “أتاتورك أفغانستان”، ويروي الدكتور حياة الله عتيد مستشار وزارة “الإرشاد والحج والأوقاف” الأفغانية في حوار (29 ـ 11 ـ2020) أجرته معه “ترك ميديا” أن الملك أمان الله كان يقول “لي عينان، عين في تركيا وعين في أفغانستان”.

وإذ انطلقت عجلة العلاقات التركية ـ الأفغانية في عام 1921، عبر تحالف عسكري أو معاهدة دفاعية في حال تم خفض وطأة اللغة، فإن عام 1937، شهد قيام “ميثاق سعد آباد”، وضم أفغانستان وتركيا والعراق وإيران، وهو حلف لا تشوبه شبهة ولا توصيف حائر، وبما أن هذا الحلف أسقطته سياسة المحاور الدولية التي نشأت بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، فالموقف الأفغاني غير المنحاز إلى طرف من الأطراف المتحاربة، سلك سلوك الموقف التركي المبتعد بدوره عن خوض غمار الوطيس، ذلك انه من خلال “تشكيل حلف البلقان” بتاريخ 9 شباط/فبراير 1934 ثم تشكيل حلف سعد آباد بتاريخ 8 تموز/يوليو 1937 تكون تركيا اتخذت خطوات هامة لضمان الأمن والتعاون في الشرق والغرب، وأعدت الأرضية اللازمة لسياسة الحياد التي اتبعتها خلال الحرب العالمية الثانية”، على ما جاء في نص تحليلي بعنوان “السياسة الخارجية التركية في عهد أتاتورك” منشور على حساب وزارة الخارجية التركية.

إقرأ على موقع 180  "هرمز للسلام" الإيرانية تزاحم "التحالف الأميركي" في قمة الرياض

في عقد الستينيات المنصرم، بقيت العلاقات الأفغانية ـ التركية مستقرة إنما من دون ان تتوسع دوائرها، بفعل تنامي النفوذ الروسي في افغانستان جراء سياسات رئيس الوزراء الأفغاني اليساري محمد داوود إبن عم الملك، وفي الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 1972، زار الملك ظاهر شاه تركيا لإعادة ترتيب العلاقات معها، إلا أن محمد داوود وبالتحالف مع الشيوعيين أسقطوا الملك ونظامه في السابع عشر من  تموز/يوليو عام 1973، لتدخل أفغانستان بعد هذا الإنقلاب جحيم الحروب الأهلية وجهنم حروب الآخرين على أرضها.

إبراهيم قراغول: “ستشهد الفترة المقبلة ظهور مبادرة تركية في أفغانستان بشكل أكبر لتعمل عن كثب مع باكستان وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان بشأن أفغانستان، وسيدرك الجميع شراكات تركيا في أفغانستان وآسيا الوسطى عقب تواجدها في ليبيا ومعركة قره باخ”

يمكن القول إن المرحلة الثانية من العلاقات بين تركيا وأفغانستان، فُتحت أبوابها بعد العام 2001، وتحت راية حلف “الناتو”، إلا أن هذه اللحظة الأفغانية الدرامية، حوّلتها أنقرة إلى فرصة لإعادة إحياء علاقتها مع الأفغان، فهي في بلادهم ولكنها لا تقاتلهم، وفي الوقت نفسه تستخدام قوتها الناعمة لبناء حضور طويل الأجل، من معطياته ما يلي:

ـ أبرمت الشركات التركية العقارية عقودا في افغانستان  بقيمة 3 مليارات دولار حتى عام 2010.

ـ ارتفعت قيمة التبادل التجاري بين تركيا وأفغانستان من 295 مليون دولار عام 2010 إلى 1.6 مليار دولار في عام 2016.

ـ بين الأعوام 2003 و2016 نفذت 127 شركة تركية ما يقارب 627 مشروعا في أفغانستان بقيمة 6 مليارات دولار.

ـ في عام 2011، أطلقت تركيا “مشروع اسطنبول لأجل أفغانستان”.

ـ تعمل تركيا على تأسيس جامعة أفغانية بإسم “جامعة جلال الدين الرومي”.

ـ منذ عام 2005، استقبلت الجامعات التركية ما لا يقل عن 5000 آلاف طالب أفغاني.

ـ عملت تركيا على بناء، وترميم أكثر من 90 مدرسة في افغانستان من بينها 6 مدارس تديرها وزارة التربية التركية.

ـ تشرف تركيا على تعليم وتأهيل دعاة وأئمة أفغان يدرسون في المعاهد الدينية التركية.

كل ذلك كان قبل عودة “طالبان” فكيف تفكر الحركة بعد استعادتها نظاما فقدته قبل عشرين عاما؟

في الإطار العام، ولو على المستوى الرمزي، أسهمت تركيا في إسقاط نظام “طالبان”، وتعاونت مع حكومة حامد قرضاي، وتعاملت مع حكومة اشرف غاني المخلوعة، ومع ذلك لا يدخر قادة “طالبان” وسعا من دون توجيه رسائل إيجابية لتركيا تستدعيها لتنمية وإنماء أفغانستان، وهذه عينات سريعات:

 ـ المتحدث باسم  “الإمارة الإسلامية”، ذبيح الله مجاهد، قال في مقابلة مع قناة “التركية” في السابع من تموز/يوليو 2021 إن الحركة “تريد إقامة علاقات جيدة مع تركيا ونطلب منها أن تأتي بالمهندسين والأطباء والعلماء والتجار”.

ـ الناطق بلسان “طالبان” سهيل شاهين  قال للتلفزيون الصيني (20 ـ 8 ـ 2021) إن تركيا “شريكنا الرئيس، ونريد التعاون معها في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والإقتصاد والبناء والطاقة وكذلك في معالجة المعادن”.

 ـ القيادي في “طالبان” محمد نعيم وردك وفي حوار (25 ـ 8 ـ2021) مع وكالة أنباء “الأناضول” الرسمية التركية أكد أن “الشعب التركي مسلم وشقيق وعلاقاتنا تاريخية واجتماعية وثقافية، ونريد ونطلب من جميع الدول وبالأخص تركيا أن تساعد شعبنا وبلدنا”.

ماذا في العقل الإستراتيجي التركي؟

كتب برهان الدين دوران في صحيفة “ديلي صباح” بتاريخ 17 ـ 8 ـ2021 “إذا كانت تركيا تسعى إلى لعب دور نشط في سياسات آسيا الوسطى، فلا بد أن تكون جزءاً من التوازن في أفغانستان”.

كيف ذلك؟

يشرح هذا الأمر ابراهيم قراغول رئيس تحرير صحيفة “يني شفق” المقربة من أردوغان، في مقالتين:

ـ  الأولى بتاريخ 16 ـ 8 ـ2021 قال فيها “ستشهد الفترة المقبلة ظهور مبادرة تركية في أفغانستان بشكل أكبر لتعمل عن كثب مع باكستان وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان بشأن أفغانستان، وسيدرك الجميع شراكات تركيا في أفغانستان وآسيا الوسطى عقب تواجدها في ليبيا ومعركة قره باخ”.

ـ الثانية بتاريخ 30 ـ 8 ـ2021 وأشار فيها إلى أن “جميع الوجهات في أفغانستان تنتهي بتركيا، بل إن حكومة طالبان تقول إننا بحاجة لتركيا في كل المجالات كالتعليم وإدارة المطار والإقتصاد والبناء والصحة والدفاع، ونجد كذلك الولايات المتحدة تطلب الحلول من تركيا، كما ينتظر الإتحاد الأوروبي الحلول من تركيا، بينما تسعى تركيا لتشكيل محور قوى في آسيا الوسطى وجنوب آسيا بالتعاون مع أذربيجان وباكستان جارتي أفغانستان لحل الأزمة”.

ما يقوله ابراهيم قراغول، أو اللسان الناطق بإسم أردوغان، يقوله العقل الناطق لأردوغان ولو باقتضاب واختصار، فالرئيس التركي أعلن في التاسع والعشرين من آب/أغسطس الفائت أن تركيا مستعدة لعقد اتفاق عسكري مع “طالبان” شبيه بالإتفاق الموقع مع حكومة الوفاق الليبية في عام 2019.

هل تحلم تركيا بما يفوق واقعها؟ أم أنها في الطريق إلى أن تكون أمرا واقعا في أفغانستان مثلما هي “أمورها” في مناطق عدة من دول الإقليم؟

نبضة صوفية:

يقول مولانا جلال الدين الرومي:

 كنت ذكياً في الأمس، أردت تغيير العالم.

اليوم صرت حكيماً، سأحاول تغيير نفسي.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "مجموعة الأزمات" تنصح بايدن: إدارة التوترات الإستراتيحية مع الصين