طارق بيطار.. هذا أصله وفصله!

لو لم يكن طارق بيطار قاضياً، كان لينخرط في الجيش اللبناني مثل جدّه جبور. جبور لمن لا يعرفه، إبن عيدمون العكارية الواقعة قرب القبيّات وعندقت، كان عسكرياً، وقد اعتنق الأرزة والبلاد مثل كل أسرته. شقيقه كان مفتشاً تربوياً، أما أولاده، فكان أحدهم صحفياً في جريدة النهار، وثانيهم هو والد المحقق العدلي طارق بيطار.. وثالثهم طبيب.

ثمة معرفة عائلية عتيقة بين عائلتينا. والدي ووالده كانا رفيقين وصديقين مقربين. حين عاد أبي من مهجره إلى طرابلس، تشارك ووالده في العمل معاً في الثمانينيات الماضية ولم أكن قد ولدت بعد. ما نعرفه عن العم فايز، أنه هاجر إلى فنزويلا في سن التاسعة عشر وتزوّج في المهجر من سيدة لبنانية الأصل بقيت حتى اليوم تتكلم العربية “المكسّرة”. جمع ثروة كالكثيرين من أقرانه وقرر العودة إلى لبنان. وحين عاد، فتح معمل ألبسة “تريكو” وصار وكيلاً تجارياً في طرابلس، عاصمة الشمال. في زمن تدحرج الليرة اللبنانية نزولاً، في الثمانينيات الماضية، خسر فايز أمواله بضاعة موزعة في الأسواق على التجار. طارت الثروة وانكسر الرجل بعدما كان متمولاً وتاجراً كبيراً.

كوّن فايز عائلة من ستة صبيان وإبنتين. العصامي إبن جبور العسكري، العائد من المهجر أنتج أسرة فيها الطبيب، المهندس، أستاذ الجامعة، الدبلوماسي، المصرفي، والقاضي طارق، المولود في 24-11-1974، وهو قبل الأخير في عنقود العائلة، يليه شقيق هو أستاذ جامعي في مادة الفيزياء.

معظمهم تعلم في الجامعة اللبنانية وتخرج منها. لم يحتضنهم سياسي أو إقطاعي أو أي سلطة دينية أو مناطقية. لا تجد في أسمائهم إشارات دينية. أحد أفراد العائلة يُنسب إسمه إلى شخصية إسلامية في التاريخ. علمانيون مؤمنون بالدولة المدنية. انخرطوا في الحياة العامة عبر تحصيلهم الأكاديمي. ومن حسن حظهم، أن الطائفة التي سُجّلوا في قيودها، أي الروم الكاثوليك، لا مقعد سياسياً لها في عكار أو الشمال، وقليلة مقاعدها أصلاً في المحاصصة اللبنانية.

تربطني بالقاضي بيطار علاقة أسريّة عميقة، وأعتزّ به كما بإخوته وأفتخر بهم.. ليس البيطار إبن أي صديق من أصدقاء والدي، بل إنه أقرب لأن يكون جزءاً من عائلتنا. لكنني في الحقيقة أعرفه ولا أعرفه. وحين تكون القضايا عامة.. أستطيع القول إن والدي نفسه لا أعرفه. ذاكرتي تتوقف عند وجه طارق بيطار، يوم كنت طفلة، وتحديداً يوم كنت الوصيفة الصغرى ـ “فتاة الورد” لأخته، في يوم عرسها..

لم أره ولا قابلته عندما صار قاضياً، بفعل ابتعاد العائلات إلى كفاحها ويومياتها المضنية وانتهاء الشراكة بين والدينا، والأهم.. أنني صحفية وهو قاضٍ.. وكل منا يحتاج إلى رسم مسافة إيجابية عن الآخر. لا أدين الصحافيين الذين يتهافتون طلبا لموعد مع هذا القاضي أو ذاك. هذه من موجبات المهنة.

وليست وظيفة هذه الكتابة تبرئة ساحة رجل هو أدرى من أهل مكة بشعاب الدفاع عن نفسه، لكن حتماً من يرفعون سيوفهم التهديدية ضد الرجل، يصبحون في موقع الملام إذا مسّت شعرة من رأسه.. والراغبون بالوقيعة والفتنة كُثر في بلد مفتوح على الدول والأجهزة والقناصل، وهذا الواقع الذي نعيشه يُذكرني بعشية 2005، لا سمح الله.

سواء كانت شحنة نيترات الأمونيوم آتية عمداً أو عفواً إلى مرفأ بيروت، هل كان بمقدور القاضي أن يتخذ قراراً مغايراً للذي إتخذه كأن يأمر بإستجلاب باخرة جديدة ويحمّل الشحنة على متنها ويأمر بإعادتها إلى بلد المصدر؟ ثم أن الشحنة أنزلت إلى أرض مرفأ بيروت بأمر قضائي فهل كان لقرار القضاء أن يكسره أحد؟

قناعتي تقول إنه إذا كانت هناك من “مؤامرة ما” في ما يفعله القاضي بيطار، فمحاججتها تكون بالقانون الحمال الأوجه والتفسيرات، وحين يستحيل القانون، فلترفع السيوف. مشكلتنا أن البعض رفع السيوف وشيطن الرجل قبل أن يتنفس أو يستمع لإفادة ما. وكيف نعرف ما الذي يخبئه في أوراقه؟ أنا لا أدافع عنه لأن المنطق السائد كله لا يقنعني، وبرغم معرفتي بكل أسرته، لا أعفيه من المساءلة في عقلي، فالقاضي الذي أمر بإنزال شحنة نيترات الأمونيوم مكانه السجن قبل وزير أو مدير عام وقّع على بريد لم يقرأه. عقلي يذهب أبعد من ذلك: سواء كانت شحنة نيترات الأمونيوم آتية عمداً أو عفواً إلى مرفأ بيروت، هل كان بمقدور القاضي أن يتخذ قراراً مغايراً للذي إتخذه كأن يأمر بإستجلاب باخرة جديدة ويحمّل الشحنة على متنها ويأمر بإعادتها إلى بلد المصدر؟ ثم أن الشحنة أنزلت إلى أرض مرفأ بيروت بأمر قضائي فهل كان لقرار القضاء أن يكسره أحد، عبر أي مسار من المسارات المعتادة أم أن الممر القضائي بات إلزامياً ولماذا لم يشمل التحقيق هؤلاء القضاة وما هي قصة المرجع القضائي الذي رفض توقيف أي قاض من القضاة؟

لا أطرح الأسئلة من موقع الخبيرة ولا القاضية، بل في سياق إستكمال روايتي مع هذه العائلة. لطالما كان يتردد إسم طارق بيطار في بيتنا دائماً. حين كنت صغيرة، درّس أخي دروساً خصوصية يوم تقاعس في صفوفه المدرسية. وحين كبر أخي، واجهته مشكلة مالية مع مصرف خارج لبنان تلقفها سماسرة ادعوا على بعض المودعين، فصدرت مذكرة توقيف بحق أخي وتم توقيفه في مطار بيروت ونقل فوراً إلى أحد سجون طرابلس. يومها وصلت القضية إلى مكتب القاضي طارق بيطار رئيس المحكمة المعنية بالملف. دخل والدي الذي هو بمثابة والده إلى مكتبه في سرايا طرابلس، فأجابه القاضي بيطار: إبنك هو شقيقي لكن في هذه الحالات يجب أن يطبق القانون، وسأقوم بتوقيف ابنك، وبالفعل أوقفه، حتى تم حلّ القضية بالقانون والأصول.

حين كبرت وكنت مراسلة في تلفزيون الجديد، وتم قتل زميلنا المصوّر الشهيد علي شعبان عند خط البترول في وادي خالد في عكار، استلم القاضي طارق بيطار القضية. يومها، كنت معنية باستشهاد علي في وادي خالد، لأن الحدود السورية كانت أصلاً ملفي الذي أتابعه يومياً، ولكن لم تسوّل لي نفسي أن أتصل به أو أستفسر أو أتساءل أين أصبح الملف. ما أعرفه عنه يكفي. لأنه بشخصيته، وبمنابته السياسية ـ الإجتماعية، قد وضع نفسه على تلك المسافة مع القضايا التي يتابعها.. يتذكر كثيرون أنه عند تسلمه قضية جريمة مرفأ بيروت خرج من يقول إنه سينحاز لمحور النظام السوري لأن طارق بيطار ترعرع في كنف البيئة السورية القومية الإجتماعية في عائلته. ذلك ليس دقيقاً، فالرجل ليس حزبياً ولا علاقة له بأي توجه حزبي، أقله كما عرفته قبل أن يصبح قاضياً.

لاحقاً خرج من يقول إن للرجل صلة وثيقة بالنائب اللواء جميل السيد. ذلك ليس صحيحاً. لا معرفة بينهما. قيل إنه قريب من خط رئيس الجمهورية وإنه مرتبط  بسليم جريصاتي. ذلك ليس صحيحاً. لا تواصل بينهما لا من قريب ولا من بعيد، إلا يوم كان جريصاتي وزيراً للعدل. بعد ذلك خرج من يقول إنه جلس مع مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا في القصر الجمهوري. ذلك ليس صحيحاً. طارق بيطار لا يعرف طريق القصر في بعبدا ولم تطأها قدماه يوماً.

إذا كانت المشكلة بالتواصل، فالحق على السياسيين الذين جيّروا لمعركتهم مع القاضي بيطار فائض القوة وليس قوة القانون. أما إذا كانت المشكلة بثورته عليهم، فالحق عليه، لأن تغيير هؤلاء يبدأ من صناديق الإقتراع وليس من صناديق الهمس والثورات

تتالت الأمور في هذه القضية، وصار أهالي الشهداء مطية للبعض وأولهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، فخرج من يقول إن القاضي بيطار قريب من القوات لأن هناك في عائلة زوجته من يميل إلى هذا الهوى السياسي. ذلك ليس صحيحاً. الرجل لا يحب السياسيين. شخص حادّ وجادّ، لم يدخل كازينو أو ملهى ليلي في حياته ولم يساير أحداً من السياسيين. تعاطى مع بعض السياسيين في قضايا إعتداء عليهم في طرابلس كقضية محاولة اغتيال أو رمي قنبلة مثل تلك التي استهدفت مكتب النائب فيصل كرامي أو استهداف قصر آل فرنجية وغيرها من القضايا.

إقرأ على موقع 180  لبنان بعيون عربية 

الرجل تخرّج من الجامعة اللبنانية، وتدرّج في مكتب المحامي ميشال الحاج صديق العائلتين أيضاً ونجح في معهد القضاة عام 1999 وتدرّج في المناصب القضائية أكثر من عشرين عاماً، بينها ثلاث سنوات في المعهد القضائي وتسع عشرة سنة قاضٍ أصيل (بينها خمس عشرة سنة في مدينة طرابلس).. قبل أن ينتقل إلى محكمة الجنايات في بيروت قبل أربع سنوات وصولاً إلى تكليفه بالتحقيق العدلي في جريمة مرفأ بيروت.

أصدر طارق بيطار ستة أحكام إعدام في جرائم قتل كانت هزّت لبنان، من الرملة البيضاء إلى قضية جورج الريف إلى روي حاموش إلى قضية “حزب الأمير”. عُرف عن طارق بيطار سرعة صدور أحكامه. تميّز في قسوته على تجار المخدرات الذين كان يحكمهم بأكثر من عشر سنوات في حين كان قضاة آخرون يصدرون أحكاما مخففة. سطع إسمه في قضية الطفلة إيلا طنوس التي ظلمها خطأ طبي ومنهم من اعتبر أن حكمه كان مبالغاً فيه وأن ذلك أظهر نزعة بطولية إعلامية لديه. هذا كان الإنتقاد الوحيد الذي سمعته عن تاريخه القضائي.. قبل توليه جريمة إنفجار مرفأ بيروت.

ليس لديه عراب أو معلّم ولا ورث عن أي شخص من محيطه هواه السياسي. يقول من يعرفه بأن أشد ما يغضبه هو حين يُنسَب إلى السياسة وتتقاذفه تهم التسييس، ويدرك من يعرفه بأنه يدين بالعداء غير المشكوك فيه للإسرائيلي. موقف نابع من قناعة وثبات وإيمان. في لحظات التمييز بين الباطل والحق والمواجهات الصلبة، يعرف عنه إيمانه المسيحي، وثقته بثلة من قدامى القضاة من أهل النزاهة، كما يعرف عنه ارتباط وجدانه الوطني بالمؤسسة العسكرية. ومَن من أهل عكار لا يُحب الجيش اللبناني؟

حجم المجهول والشيطنة حول طارق بيطار، استفزني لكتابة هذه السطور. مع اعتراضي الكامل سراً وعلانية على أي محاسبة تحمّل الوزير مسؤولية ولا تحمّلها إلى الضابط والقاضي وإلى أي كان.. ومع كل اعتراضي على كل شكّ لا يتم جلاءه بالحجة والمنطق والعقل، ومع كل اعتراضي على عدم توقيف ممثلي تمثيليات تلفزيونية تضلّل الرأي العام.. مع كل ملاحظاتي وشكّي المشروع مثل كثيرين من أبناء هذا البلد،  ثمة ما يمكن تصديقه وثمة ما يتعارض إلى حد الحماقة مع الحقائق التي أعرفها. وأنا أعتقد أن الحق والباطل واضحان في كل الأمور إلا في قضية بهذا الحجم. ولا يعجبني أي شيء مما يحدث حولها. لا يقنعني أي شيء ولا أثق بأي شخص. المنطق في مكان، والوقائع في مكان آخر. اختلط القضاء بالجيش، بالجمارك، بالسفارات، بالسياسة، بالحصانات، بالصلاحيات، بالنيترات، بالإعلام والإعلان.. نعم لقد إختلط شعبان برمضان.

لقد تطورت نظرتي إلى قضية المرفأ مع مرور الأيام. في الساعات الأولى التي تلت الإنفجار، كانت ردة فعلي المعلنة والمسجلة في الفيديو بتغريدة غاضبة مفجوعة، أن كل من عرف عن وجود هذه المادة ولم ينطق، هو مذنب.

مع تكشّف التفاصيل تباعاً، أجد أن القضاء اللبناني أمر بإنزال شحنة الباخرة والجيش اللبناني عرف بذلك وصمدت المادة تلك والقنبلة الموقوتة تلك على مرفأ مدينتنا سنوات وسنوات. ثمة عشرات الأقلام التي وقعت على معاملات تخص تلك الشحنة. منهم ضباط راسلوا مسؤولين بخطورتها، ومنهم مدنيون وقعوا على مراسلات دون الخوض في خطورة الشحنة باعتبارها مجرد أسمدة ومنهم من تغافل عن قصد أو عن غير قصد. قضية فيها الجمارك والقضاة والضباط وفوقهم المدراء العامون وفوقهم الوزراء وفوقهم الرؤساء وفوقهم الله.

بهذه الشهادة أعلاه قد أكون قدمت كل ما أعرف من حقائق عن المحقق العدلي. أسجّل ملاحظاتي كمشاهدة معنيّة وكمواطنة لبنانية. ثمة أسئلة مشروعة للمتابعين عن وحدة المعايير والإستنسابية. أسمع وأشاهد عشرات الأصوات التي تقول للقاضي ما يجب أن يفعله أو لا يفعله. منها ما هو مقنع وموثوق ومنها ما هو فاسد ومأجور وجاهل. ما أشاهده هو طبقة سياسية ترفض تثبيت إستقلالية القضاء، وفي المقابل، أرى قضاة لا يردون بالمنطق والحجة على هواجس السياسيين. الأمر قد يكون أي شيء. أجندات مخفية. ومن نحن لنعرف أو لنكفل هذا أو ذاك.

قد تكون مشكلة تواصل، قد يكون قاضٍ نزيه، وصلته أوراق من قاضٍ قبله، بدأ بالعمل إنطلاقاً منها، فلم يلب استدعاءه أحد، وبدأوا يهاجمونه بالسياسة فباتت معركة مفتوحة بينه وبينهم.

وقد يكون قاضٍ لبناني له لبنانه الذي يحبه ويريد أن يغير واقعه السياسي، وبالتالي يستثمر في القضية ليحقق ما يعتقده عدالة يجب أن تنزل بحق كل الطبقة السياسية.

إذا كانت المشكلة بالتواصل، فالحق على السياسيين الذين جيّروا لمعركتهم مع القاضي بيطار فائض القوة وليس قوة القانون.

أما إذا كانت المشكلة بثورة القاضي عليهم، فالحق عليه، لأن تغيير هؤلاء يبدأ من صناديق الإقتراع وليس من صناديق الهمس والثورات.

Print Friendly, PDF & Email
غدي فرنسيس

صحافية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "فورين بوليسي": طريق نتنياهو إلى الرياض.. مسدود