يقول الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان إنه في العام 1967 كان يعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين قرابة مليونين ونصف المليون فلسطيني (يقول الكاتب ان هذا الرقم مجرد تقدير لأنه لم يجر أي إحصاء سكاني في المنطقتين). وجود الاحتلال أدى إلى تنمية شعور المرارة والإحباط لدى هؤلاء الفلسطينيين على مر السنين، وقد فتحت “إسرائيل” أبوابها للعمال الفلسطينيين حيث كان يعبر يومياً قرابة 40 في المئة من اليد العاملة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية الى الداخل “الإسرائيلي” للإنخراط في الاعمال المتدنية والمرهقة مقابل أجور استغلالية الى اقصى حد وفي ظروف عمل صعبة للغاية، وكان عمال البناء وغاسلو الصحون من الفلسطينيين يشاهدون بأعينهم كل يوم كيف كانت الحياة الاقتصادية لـ”الإسرائيليين” تتطور وتزدهر يوماً بعد يوم لترقى الى مصاف أوروبا الغربية فيما كانت البطالة في الأراضي المحتلة تزيد وتنمو، والوظائف التي تتطلب تعليماً عالياً كانت قليلة للغاية كما كانت المدن تزداد اكتظاظاً بالسكان بطريقة لا تحتمل، فيما كانت سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” تُحجم عن القيام بأي شيء لتحسين الخدمات البلدية في تلك المناطق وتمتنع عن إعطاء تراخيص للبناء السكني أو للأراضي الزراعية لتلبية الحاجات الملحة للسكان الفلسطينيين الذين كانت أعدادهم تتنامى بصورة مضطردة.
على العكس من ذلك، يضيف بيرغمان، كانت سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” تصادر أراضي الفلسطينيين وتعطيها للأعداد المتزايدة من المستوطنين وذلك في خرق فاضح للقانون الدولي، وكان العديد من هؤلاء المستوطنين مأخوذين بفكرة ان “إسرائيل الكبرى” هي ملك لليهود فيما اخرون كانوا يبحثون عن مستوى معيشي أفضل ويستفيدون من دعم حكومات الاحتلال لعمليات الاستيطان وتأمين دعم مالي لبناء منازل المستوطنين. ومع استمرار تنامي هذا الوضع البائس والظلم الواضح، باتت منطقتا قطاع غزة والضفة الغربية على شفا الانفجار، وهذا الامر كان إما غائباً عن اعين أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” او انها كانت تتجاهله، ولوقت طويل كان تركيز تلك الأجهزة ينصب على تتبع أماكن وجود مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية وملاحقتهم وقتلهم ما زاد في تنامي غضب الشعب الفلسطيني، وقد أدى نجاح “الإنجازات الإسرائيلية” في مطاردة القادة الفلسطينيين في أي مكان في العالم وقتلهم الى تنامي شعور الفلسطينيين بان “إسرائيل” ستفرض سيطرتها وحكمها على الملايين من الفلسطينيين الى الابد من دون ان يكون لذلك اية عواقب عليها.
ينقل رونين بيرغمان عن رئيس جهاز “الموساد” حينها ناعوم ادموني قوله “لقد تسببت لنا الانتفاضة بأضرار سياسية وبتشويه صورتنا أكثر من أي شيء اخر فعلته منظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقتها وعلى مدى وجودها”
ويتابع بيرغمان ان أجهزة الاستخبارات لم تنتبه الى تطور دراماتيكي آخر، وهو صعود جيل جديد من الشباب القادة الذين يتمتعون بالكاريزما والحيوية في المناطق المحتلة وكان هؤلاء يتصرفون بعيداً عن قيادة ياسر عرفات وأبو جهاد (خليل الوزير) وباقي قادة منظمة التحرير الفلسطينية. كانت غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة تدعم الاعمال “الإرهابية” التي تنفذها منظمة التحرير ولكن الكثير من هؤلاء بدأوا يعتبرون ان كل اعمال العنف تلك كانت ذات طابع مسرحي لا تتناسب مع المصاعب والمشاكل اليومية التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة. وكان هؤلاء لا يزالون ينظرون الى عرفات على انه “أبو الامة الفلسطينية”، ولكن اعماله، ولا سيما التي تتم عن بعد، (من تونس)، باتت تشير الى انها لن تحقق لهم الاستقلال الموعود في أي وقت في المستقبل.
بعد هذا العرض التحليلي، يقول بيرغمان، وفي ظل هذه الأجواء “جاءت الشرارة”، ففي الرابع من أكتوبر/تشرين الأول 1987، تمكن خمسة أسرى فلسطينيين خطيرين ينتمون الى “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” من الفرار من احد سجون الجيش “الإسرائيلي” في قطاع غزة، وبعد يومين من عملية الفرار تمكن جهاز “الشين بيت” بمساعدة عملائه في قطاع غزة من تحديد مكان تواجدهم في احدى الشقق في حي الشجاعية، فتنكر فريق من وحدة “العصافير” للاغتيال بزي عربي واخذوا يراقبون الشقة فيما كانت وحدة “اليمام” التابعة لجهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة تحضر للقيام بعمل ما ضدهم تحت امرة ديفيد آزور الذي يروي كيف تمت تصفية هؤلاء الاسرى قائلاً “لقد رآهم فريق الشين بيت يستقلون سيارتين من طراز بيجو 404 احداهما بيضاء اللون والثانية زرقاء وكانوا مدججين بالسلاح ويحاولون الابتعاد عن المكان، فلاحقناهم ولكن ما ان رأونا حتى فتحوا نيران رشاشاتهم نحونا ولكننا تمكنا من محاصرتهم قرب ملعب لكرة القدم، فقتل أربعة منهم في الاشتباك وقتل الخامس لاحقاً فيما قتل من الجانب الإسرائيلي احد العملاء واسمه فيكتور ارزوان من وحدة “العصافير”.
يتابع بيرغمان قائلاً ان جنازة هؤلاء الفلسطينيين تحولت الى تظاهرات غاضبة سادتها هتافات تقول انهم كانوا ضحايا عملية قتل متعمد، وتحولت التظاهرات الى اعمال عنف لم يشهد الجيش “الإسرائيلي” مثيلاً لها داخل الأراضي المحتلة. وينقل بيرغمان عن الضابط ازور، الذي اصبح لاحقا نائب رئيس الشرطة “الإسرائيلية” قوله “من الناحية العملياتية شكلت عملية وحدة اليمام نجاحا كاملا”، ولكن هذا الإنجاز التكتيكي وامثاله من الإنجازات على مر السنين اعمى عيون أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” عن رؤية كامل الصورة ما جعلهم “يغفلون عن التطور الدراماتيكي الذي كان على قاب قوسين من الوقوع” لانهم كانوا يعتبرون الجنازات الغاضبة التي تتخللها اعمال عنف مجرد تعبير محلي عن الغضب.
في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1987، فقد سائق دبابة في الجيش “الإسرائيلي” السيطرة على آليته وحطّم صفاً كبيراً من السيارات كانت تقل عمالاً فلسطينيين عائدين من عملهم في “إسرائيل” الى قطاع غزة (لا يشير الكاتب الى ان عملية دهس السيارات هذه كانت عملاً “إسرائيلياً” متعمداً رداً على عملية طعن مستوطن “إسرائيلي” قبلها بيومين)، ما أدى الى مقتل أربعة عمال فلسطينيين وجرح سبعة. ومرة ثانية تحولت جنازة العمال الأربعة الى عملية احتجاج جماهيري واسعة. بعدها عمّت موجة من التظاهرات الغاضبة كل من قطاع غزة والضفة الغربية لتتحول تلك التظاهرات الى بداية الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال “الإسرائيلي”. ذهل جهاز “الشين بيت” كما الجيش “الإسرائيلي” والحكومة مما كان يحصل، وينقل بيرغمان عن أمين السر العسكري لرئيس الحكومة “نيفو” قوله “ان كل هذه الجهات وعلى مدى أسابيع فشلت الى حد كبير في ان تتلمس مغزى الاحتجاجات الدائرة في المناطق المحتلة الى درجة انه لم يخطر في بال وزير الدفاع حينها إسحاق رابين ان يلغي زيارة كان يقوم بها الى الخارج والعودة الى إسرائيل”.
مع تصاعد الانتفاضة، اعطى وزير الدفاع حينها اسحق رابين الامر للجيش “الإسرائيلي” بتقديم المساعدة التي يطلبها جهاز “الموساد” لاغتيال أبو جهاد
ساد اعتقاد لدى الجيش “الإسرائيلي” انه بالإمكان السيطرة على الفلسطينيين بعدد قليل من قواته، ولكن عندما بدأ المتظاهرون برمي الحجارة على جنود الوحدات العسكرية الصغيرة التي لم تكن تملك تجهيزات لتفريق الحشود او دروعاً واقية، لجأ هؤلاء الجنود الى اطلاق النار الحي ما أدى الى مقتل اكثر من الف فلسطيني وجرح المئات (لا بد هنا من لفت نظر القارئ لعملية التبرير الواهية التي يلجأ اليها الكاتب لقتل هذا العدد من المتظاهرين الذين لم يملكوا في أيديهم الا الحجارة مقابل احدث أنواع الأسلحة في ايدي جنود الاحتلال).
بات الوضع الدولي لـ”إسرائيل” حرجاً للغاية، حيث كان العالم برمته يشاهد على شاشات التلفزة كيف كانت القوات “الإسرائيلية” تقمع بوحشية حشود الفلسطينيين المطالبين بالاستقلال السياسي وبإنهاء الاحتلال. وهكذا انقلبت في نظر الرأي العام العالمي صورة الرواية التوراتية عن جالوت وداوود، فأصبح الجنود “الإسرائيليون” هم جالوت والفلسطينيون العرب بحجارتهم هم داوود(1).
وينقل رونين بيرغمان عن رئيس جهاز “الموساد” حينها ناعوم ادموني قوله “لقد تسببت لنا الانتفاضة بأضرار سياسية وبتشويه صورتنا أكثر من أي شيء اخر فعلته منظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقتها وعلى مدى وجودها”. ويضيف انه نتيجة عدم امتلاك “إسرائيل” الرد الملائم على الانتفاضة وجهلها أسبابها الحقيقية، لجأت الى السلاح الذي اعتادت اللجوء اليه في تاريخها وهو الاغتيال والقتل المتعمد، وكان أبو جهاد الذي نجا من عدة محاولات اغتيال سابقة مجدداً هو الهدف الأساسي، تبعاً لما كان قد صرح به إلى إذاعة مونت كارلو في كانون الثاني/يناير عام 1988 بانه هو من أصدر الامر بانطلاق الانتفاضة، وتكررت هذه المعلومة في الكثير من منشورات منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت وقد صفق لها العالم العربي فيما اعتبرتها القيادة السياسية “الإسرائيلية” حقيقة فعلية، ولم تناقض أجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” صوابية هذه المعلومة. يضيف بيرغمان، “في الحقيقة كان أبو جهاد يكذب، فلا هو ولا ياسر عرفات اعطيا الامر بانطلاق الانتفاضة، بل هما تفاجآ بها على قدر ما تفاجأت بها الاستخبارات “الإسرائيلية”، وحقيقة الامر هي ان الانتفاضة كانت شعبية يقودها شباب صغار في سن المراهقة (16 ـ 20 سنة) لا تربطهم رابطة بالقادة الفلسطينيين الموجودين في تونس، ولكن الحقائق لم تكن تهم قادة منظمة التحرير ولا الاعلام العربي ولا الاستخبارات “الإسرائيلية”. هذه الموافقة على صحة أقوال أبو جهاد من جهة وتجاهل حقيقة ان الأسباب الفعلية للانتفاضة كانت تتنامى على مدى سنين من الحكم العسكري الظالم ومصادرة الأراضي من جهة ثانية، كان لا بد ان يؤدي الى الاستنتاج انه إذا كانت الانتفاضة عبارة عن خطة من صناعة قادة منظمة التحرير الفلسطينية فانه بالإمكان القضاء عليها ببساطة بمجرد قتل الرجل الذي كان يقف وراءها”!
ومع تصاعد الانتفاضة، اعطى وزير الدفاع حينها اسحق رابين الامر للجيش “الإسرائيلي” بتقديم المساعدة التي يطلبها جهاز “الموساد” لاغتيال أبو جهاد. وعلى الرغم من عدم قناعة رئيس جهاز “امان” حينها ليبكين شاحاك بضرورة تنفيذ عملية كبيرة ومعقدة لهذا الهدف، فإنه قرأ جيداً ان الظروف السياسية غير مؤاتية لمثل هذا الرأي فسحب اعتراضه على العملية على الأقل في مرحلة الاعداد والتدريب عليها.
(1) داوُد أو داوود بالعبرية، معناه “محبوب”، هو ثاني ملك على مملكة “إسرائيل” الموحدة 1011 ق.م. – 971 ق.م. وأحد أنبياء بني إسرائيل بحسب الدين الإسلامي، إلا أنه في المعتقد اليهودي يعتبر ملكًا وليس نبيًّا جاء بعد إش-بوشيت أو إشباعل، الابن الرابع للملك شاول. يتم وصفه على أنه أحق وأنزه ملك من بين ملوك إسرائيل التاريخيين وأيضاً هو محارب، وشاعر، وتقول الرواية التوراتية انه عندما كان الإسرائيليون تحت حكم شاول واجهوا جيشا من الفلسطينيين وكان داوُد الذي هو أصغر أولاد يال يجلب الطعام يوميا إلى اخوته بينما هم كانوا مع شاول. سمع داوُد جالوت يطلب من الإسرائيليين بأن يُرسلوا بطلهم لكي يحسم النتيجة النهائية للحرب. أصر داوُد على اخوانه بأنه يستطيع ان يهزم جالوت، وبعدما سمع شاول ذلك قرر إرسال داوُد بالرغم من انه كان في شك من قدرة داوُد، لكنه ارسله ليحاول. كان النصر حليف داوُد حيث رمى جالوت بحجر فارداه وكان النصر حليف الإسرائيليين (مُترجم النص).