هؤلاء وللأسف، نجحوا في توريث المقعد النيابي بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنهم فشلوا في التوريث السياسي. بالأحرى هم فرضوا أبناءهم علينا، وان كان البعض منا قد انتخبهم طوعاً. هؤلاء الشبان الورثة، وبالرغم من نشأتهم في بيوتات سياسية، يفتقدون لأدنى مقومات السياسة، علماً وخبرة وكاريزما وحنكة وقدرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، طوني فرنجية وسامي الجميل وتيمور جنبلاط ومجيد ارسلان وطارق المرعبي والعديد قبلهم أو بعدهم هم مثال فاضح على انحطاط الحياة السياسية في لبنان وتخلفها.
فالسياسيون في اعمارهم يحب ان يكونوا بمثابة دينامو الحقل العام التقدمي التنويري وليس التوريثي. لكن للأسف، هؤلاء ليسوا سوى عنوان حقبة رجعية ماضوية تُعيدنا إلى زمن العشيرة والعائلة والطائفة والمنطقة وغيرها من الولاءات ما دون الوطنية. من واجب هؤلاء “المشرعين الورثة” ان يكونوا مبدعين وأن يأتوا بأفكار جديدة تطوّر العمل السياسي والقانوني والإقتصادي والمالي والخدماتي لما له من منفعة مجتمعية ووطنية، وهنا مكمن الفخ، حيث لم يضف هؤلاء الورثة اي جديد، مثلهم مثل آبائهم، بل بالعكس يملكون من الإستعداد ما يكفي حتى يعيثوا في الارض فساداً وطعناً بالنظام الديموقراطي البرلماني، بمجرد أن قبلوا بتكريس الكرسي النيابي ملك عائلة أو بيت وليس ملك مواطن.
وما يزيد السوء سوءاً، أنه مع كل استحقاق يتأكد ضعف الورثة، فيقوم اعلامهم وأنصارهم ببث مقولتهم الشهيرة “بعدهن زغار وعودهن بعدو طري”. فقط للتوضيح، العمل السياسي والنيابي والشأن العام ليس حضانة أو مدرسة او كلية حتى يتعلموا فيها او يختبروا قدراتهم فيها. وفي الوقت نفسه، لسنا مستعدين ان يتعلم هؤلاء بنا ومن لحم اكتافنا ومن مالنا وعلى حسابنا. إذا نجحوا حجبوا فرصتنا مستقبلاً وإن فشلوا يحملوننا مسؤولية فشلهم. هؤلاء، يجب ان يُحاسبوا قبل آبائهم لانهم يقفون حجر عثرة أمام تطوير النظام السياسي من خلال ضخ دم سياسي جديد وفرز نخب شابة جديدة.. وإذا كان لا بد من محاربة الفساد السياسي، من واجب الجيل الجديد تغييرهم وعدم الاقتراع لهم وعدم الاعتراف بمشروعيتهم، إن وجدت اصلاً.
والمفجع أن فكرة التوريث السياسي لم تعد تقتصر على الأبناء. أضافوا الإخوة والأخوات، الأصهرة والزوجات، اولاد شقيق أو عم الزعيم الفلاني إلخ.. وكأن هؤلاء هم النخبة والقدوة والمثال، اما باقي افراد المجتمع فغير مؤهلين لأي عمل سياسي او تولي أي شأن عام. فأصبح هنالك تصنيف للمواطنين بين أصحاب الياقات الآتين من العرق العائلي النقي وبين باقي افراد المجتمع وكلهم لا ينفعون!
العمل السياسي والنيابي والشأن العام ليس حضانة أو مدرسة او كلية حتى يتعلموا فيها او يختبروا قدراتهم فيها. وفي الوقت نفسه، لسنا مستعدين ان يتعلم هؤلاء بنا ومن لحم اكتافنا ومن مالنا وعلى حسابنا. إذا نجحوا حجبوا فرصتنا مستقبلاً وإن فشلوا يحملوننا مسؤولية فشلهم!
كيف نواجه هذه المعضلة؟
لا يوجد الكثير من الحلول والخيارات امامنا. فالمشكلة متجذرة وتتداخل فيها العائلية والزبائنية والانا الفردية. المشكلة ثقافية وعابرة للطوائف. الحل الأوحد، من وجهة نظري، هو بنسف القانون الانتخابي الذي صيغ على قياس الطبقة الحاكمة للقبض على نظام الحكم بكل مستوياته. المطلوب إقرار قانون انتخابي عادل وشفاف يعكس صحة تمثيل جميع شرائح المجتمع وليس البعض منها. قانون انتخابي يُحرّم بشكل واضح وصريح التوريث النيابي ويضع حداً لظاهرة العائلية السياسية المتفاقمة في لبنان سنة تلو أخرى.
إن أحد أبرز أسباب تدهور العمل السياسي وانتاجية الدولة في لبنان تحديداً (والعديد من الدول) هو مشاركة الاقران بالعمل السياسي والوظائف العامة فقط لأنهم على قرب من صُناع القرار. زوال لبنان لا يكمن فقط بالفساد وانحلال الدولة والسلاح المتفلت، بل بسيطرة العائلية السياسية على البرلمان من خلال التوريث. من هنا يبدأ كسر هذه النمطية المهينة المهيمنة على الشعب اللبناني على حساب اصحاب الكفاءة وذلك من خلال وضع فقرة في القانون الانتخابي او حتى اجراء تعديل دستوري يمنع منعا قاطعاً تداخل المصالح العائلية والمجتمعية.
الضرورات التطويرية لنظامنا السياسي المتهالك تبرر وضع هكذا قوانين وان كانت تتنافى مع مبدأ الديمقراطية وحقوق الانسان (الحق في العمل السياسي). فالتعديلات واجبة قانونيا ومنطقياً من اجل حماية لبنان وأجياله وإعطاء الأغلبية الساحقة الفرصة للمشاركة في العمل السياسي والشأن العام على قاعدة الكفاءة والخبرة والمؤهلات. نكون بذلك قد اخذنا من القلة الحاكمة أحد حقوق الانسان الأساسية واعطيناه للأكثرية المغبونة كحق أساسي من حقوق الانسان (الحق في العمل السياسي).
ولأن العادات والتقاليد لا تبرر سيطرة عائلات هذه القلة السياسية علينا وعلى نظامنا السياسي وعلى الشأن العام، وُجد القانون حتى يضع حداً لنزعة الانسان الأنانية وللسيطرة على شهوات الحاكم، ولتقييد تحركات المسؤولين قبل عامة الناس، ولتأمين الإنتظام العام ولو كان ذلك على حساب العادات والتقاليد. نعم، لا يمكن لأي مجتمع ان يتطور إذا لم يطوّر عاداته وتقاليده وخصوصاً إذا كانت هذه العادات تضر بالمصلحة المجتمعية العامة.
قد يبدو ذلك ضرباً من ضروب الخيال، لكن لا يمكن ان يستقيم النظام الا من خلال بناء الهوية الوطنية اللبنانية الجامعة القادرة على مواجهة الانانية العائلية والعشائرية وفرض مبدأ التكافل والتضامن الاجتماعي من خلال تفوق المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ولان العدل أساس الملك، لن يكون هناك تغيير في نمطية العمل السياسي والشأن العام الا من خلال القانون والعدل واحقاق الحق.. والا فنحن بعيدين عن الحداثة والتطور والازدهار وسنبقى نعيش في زمن أوروبا القرون الوسطى الى ما لا نهاية.